غصنٌ مُطعَّمٌ في شجرةٍ غريبةٍ || صلاح نيازي (5)

سيرة ذاتية | الفصل الخامس

خرجتُ مساءً إلى قلب لندن، بالباص هذه المرة. السفر بأيّة واسطة للنقل يثير في الإنسان مشاعر دفينة وكأنها تتراجع وتصبح جزءاً من الماضي. حينما كنت أمر على المشاهد نفسها، مشياً على الأقدام، كنت أصلها وهي ثابتة كأنها هي التي تتفرج علي. أما محمولاً في الباص، فالجانبان يتراجعان كالأمواج على جانب سفينة. كنت شخصاً غيري هذا المساء. اخترتُ طاولة وشربتُ القهوة بالكريم، وضعتُ سيجارة جديدة في فمي وتنفستها وثملت. نظرت في قائمة الطعام. فتحت شهيتي بشوربة خضروات. طلبت سمكة «تراوت» مع بطاطس وسلطة، وختمتها بعصير برتقال.

رجعت إلى الغرفة مبكراً. وضعتُ جنيهاً كاملاً في جهاز التدفئة. وفتحتُ الموقد الكهربائي المعلق فوق فراشي مباشرة. اسودت أسلاكه وطقطقت في البداية، ثم انتشر لونها الدافئ الوردي في أرجاء الغرفة. فتحت موجة راديو (۳) فانتشى كلّ شيء. حتى الستائر بدت مختلفة في الضوء الوردي الدافئ وفي الموسيقى. كم مضى على هذه الستائر من شهور، ولم تسمع سوى الصمت، ولا تتحرك إلا حينما ترتجف من سيوف البرد الهابة من شقوق الشبابيك؟

غسلتُ قميصين وبعض الجوارب والملابس الداخلية. وعلقتها بأناقة مقابل المدفئة. انسللت في الفراش. كان دافئاً فتمددت بطولي. تركت الراديو حتى منتصف الليل، ونمتُ من أعلى المخدة إلى نهاية السرير، والمدفئة فوق رأسي حتى الصباح استرخت عضلات جسدي بارتياح شديد. استيقظتُ، وعدتُ للنوم بتلذذ حتى الساعة التاسعة صباحاً. فتحتُ الراديو وأغمضت عيني. سمعتُ دقّاً خفيفاً وظننتُ أني أحلم. ثم دقتين وصوت يناديني. قال سيد البيت: رسالة مسجلة لك. كان ساعي البريد بالباب. من الذي يرسل لي رسالة مسجلة من لندن؟ قرأتُ اسم المرسل على الظرف الخلفي فإذا به اسم مؤسسة أو شركة. تطيّرتُ. قلتُ لأفطر في البداية قبل كل شيء. تجرأتُ وفتحتها. في بداية الرسالة شكر لي على مساهمتي، وجملة لم أفهمها تماماً ولكنها تشير إلى إعجاب بمقالة، آ، بمقالتي. كان مرفقاً مع الرسالة صك بخمسين جنيها. قرأت الرقم ثانية خشية أن يكون خمسة. قرأتُ الكتابة فتأكدت «ادفعْ لصلاح نيازي خمسين جنيهاً لا غير». في الواقع لم يكن صكاً، بل كان حوالة بريدية أستطيع أن أصرفها في الحال.

إذن لم أكذب البارحة حين قلت لسيد البيت وزوجته: «إنني أتسلّمُ صكاً غداً صباحاً…». صعدتُ إليهما على الفور لأريهما الرسالة والحوالة البريدية؛ لأبرهن على صدقي أولاً وعلى أني أديب يعيش من كتاباته. كانت هذه الحوالة البريدية أوّل مكافأة نقدية في حياتي عن مقال كتبته. مسألة هذا المقال كالتالي: كنتُ قد تعرّفتُ على محرر فلسطيني عن طريق صديق امتدحني بمبالغة. ومن دون مقدمات أعطاني ديواناً جديداً لنزار قباني، وسألني إن كان لدي وقت للكتابة عنه. لم يكن شعر نزار قباني يعجبني يوم كنت ببغداد. كنت أشعر أنه يتقن صناعة الشعر ولكن لا يخلقه. كنت أفتش في الشعر عن الأصالة الدامية حتى العظم. قلت للمحرر بلا تردد : هل لي أن أكتب رأيي الحقيقي؟ وحين وافق، قلتُ هل يمكن أن أوقع المقال باسم مستعار؟ لأنني لا أريد أن أدخل في متاعب، فلدي منها ما يكفي وزيادة. وافق وقال سندفع لك مكافأة. خيّل لي أنها ثلاثة جنيهات من الطريقة التي نطق بها «مكافأة» بسرعة واستحياء. وها هي الآن خمسون جنيهاً. عدّها المحاسب مرتين وسلمني إياها. على الفور دفعت إيجار الستة أسابيع المتأخرة، وأرجعتُ العشرين جنيهاً.

فتح لي هذا المقال ثلاثة أبواب صغيرة مرّة واحدة. كان المحرر الفلسطيني يسألني أن أراجع له مقالته الشهرية، نحواً وتركيبَ جمل. قال الأمر بيننا وأعطاني ثلاثة جنيهات. مع ذلك كان لا يكفّ عن المماحكة، وكثيراً ما كان يمتحنني بمعنى كلمة أو بصيغة صرفية، أو بقاعدة نحوية. لا يريد أن يقتنع مهما حاولتُ في إعطاء الشواهد، رغم أنه كان يأخذ بكل تصويباتي. يقرأها كأنه انتصر على زملائه الذين يتندرون على ضعف لغته وأسلوبه. مع ذلك لم يشكرني مرّة، بل كان يفاجئني بالقول مثلاً: وجدتُلك بعض الأخطاء، أو ابقيتُ معظم الجمل التي غيّرتها. باختصار كان همّه التشكيك بقابليتي اللغوية، ولكن سمعتُ من اثنين في الأقل، أنه كان يمتدحني، ويضعني فوق مصاف أفضل زملائه.

عن طريق ذلك المقال كذلك تعرفتُ على موظف عالي المنصب في شركة «شل» كان في الوقت نفسه طالب دكتوراه في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية التابعة لجامعة لندن. منذ البداية عيّن ما نوع المساعدة التي ينبغي عليّ أن أقدمها له. مراجعة نصوص عربية شعرية قديمة. قال سيدفع جنيهين في الساعة. وهذا الساعة يجب أن تكون في الرابعة عصراً من كلّ يوم خميس، ولمدة شهرين. قال سيدفع لي أجور الطريق بالباص ذهاباً وإياباً. كان يدوّن بنود عقد واضح العبارات، حتى وإن كان يقول ذلك شفاهاً.

وبعد يومين وصلتني رسالة منه يؤكد فيها الاتفاق. المسألة بمنتهى الجدّ. كانت المقطوعات الشعرية أمامه ونسخة منها أمامي. أوراق وعدّة أقلام. استأذنني بتسجيل الدرس. بدأنا الدرس بقصيدة لدعبل :

كانت خزاعة ملء الأرض ما اتسعتْ  فقصَّ مرُّ الليالي من حواشيها 

أضحى أبو القاسم الثاوي ببلقعةٍ  تسفي الرياح عليه من سوافيها 

هبّتْ وقد علمت أن لا هبوب به  وقد تكون حسيراً إذ يباريها 

أضحى قِرىً للمنايا رهن بلقعةٍ  وقد يكون غداة الروع يفريها 

قرأتها بإلقاء لا يخلو من تكلفٍ. أردتُ أن أبهره بصوتي ولغتي. لكن وَهَنَ صوتي قليلاً، حين مررتُ بكلمة ببلقعة. أعرف أنها مكان، ولكن ما نوع المكان؟ وحين وصلتُ إلى كلمة «حسيراً» ارتجف صوتي فعلاً. ذلك أني لا أعرف للحسير إلا معاني معينة لا ينسجم أيّاً منها مع معنی البيت. ثم ما القرى بالضبط، أهو مجرد طعام، أم أنه طعام خاص؟ وما معنى «تسفي»؟ وما معنى «لا هبوب به»؟ هل الإنسان يهبّ؟

لا ريب إننا نرثُ هذه الكلمات ونتداولها، ولكننا لم نربَّ على التدقيق فيها في القاموس أولاً لمعرفة معانيها الأخرى، ولا كيف وظفها الشاعر، وما هي تداعياتها في النص؟ يبرز هذا العيب حين تشرع في الترجمة. الترجمة محكّ للفهم. قال تلميذي ذو المنصب الكبير: لأدقق معك معاني الكلمات. وأخرج ورقة: الثاوي: المقيم. /البلقعة: المكان الخالي. / تسفي الرياح: تطيّر التراب. /الهبوب: الانتباه والحركة من النوم. / حسيراً : ضعيفة. / القرى: طعام الضيف. ثم سألني هل صحيح أن معنى قصّ هو تتبّع؟ تنفستُ الصعداء، وأنا أتعلم ما غمض عليّ. انقذني من إحراج محققٍ.

قلتُ ربّما ثمّة خطأ في الطباعة، فالتتبع هو لمرور الليالي. القصّ هنا بمعنى يقطع. ويقال في العربية: قصّ الموت فلاناً إذا دنا منه، مما ينسجم مع ما آلت إليه خزاعة من انكماش. سألني بعد ذلك أسئلة لم تكن لتخطر على بالي. كنت أمرُّ بامتحانٍ عسيرٍ. سأل لماذا قال الشاعر «ما اتسعتْ» ألم يكن تعبير «ملء الأرض» كافياً؟ ثم توالت الأسئلة: لماذا ذكر الشاعر مرّ الليالي، ولم يقل الزمان؟ هل كان يعني إلحاح النكبات التي لا تنقطع؟ هل كلمة قصَّ مع ذكر الحواشي تدلُّ على أن الشاعر كان يفكر بثوبٍ واسعٍ دلالة على سعة العيش؟ لماذا قال الثاوي ولم يقل ثاوياً؟

ثم فاجأني حقاً حينما سألني لماذا أكّد الشاعر في البيتين: الثاني والثالث على الرياح؟ ثم سألني ما دلالة «رهن» في البيت الرابع، ولماذا قال الشاعر أضحى مرتين ولم يقل أمسى؟ ثم قرأنا قطعة ثانية وثالثة وانتهت الساعة. قلت بلا تردد : أرجو إرسال ما تريد أن نقرأه في الخميس المقبل، لأتوسع فيه. كان إحراجي واضحاً، ولولا تعللي بضعف لغتي الإنكليزية (وضعف لغته العربية) لصرفني عن تدريسه. لكنه كان لطيفاً. سلمني الجنيهين في ظرف أنيق مع عبارة شكرٍ. كرهتُ النقود في تلك اللحظة، لقد أعطاني هذا التلميذ اللعين دروساً عملية، دلّلتْ على قصوري في فهم ما كنتُ أستاذاً فيه، أو هذا ما خولتني إياه الشهادة الجامعية. لدى توديعي عند الباب، سألني بجدٍّ لماذا ربط الشاعر الطعام بالمنايا ؟ قلتُ سنرى.

طيلة الطريق إلى غرفتي، كنت أفكر مبهوراًومرتعباً، بساعة الامتحان تلك. شعرتُ بالفشل يخنقني، فرحتُ أصغرُ. هل كنت أجتر الأدب العربي من دون أن أهضمه؟ أستعدتُ ما دار بيننا من أسئلة وأجوبة. قرأتُالأبيات ثانية وثالثة. لماذا قال الشاعر الليالي بدلاً من الأيام؟ ما الفرق؟ هل لأن الليالي حبالى بالظلام والمجهول والغموض، بينما الأيام مجرد توالي الزمن؟ وهل الليالي هي التي استحالت إلى «المنايا» في البيت الرابع؟ ولكن لماذا جُمعتْ المنايا فعلاً مع القرى، أي طعام الضيف؟

خيّل لي أن الليالي في البيت، إلحاح متواتر، كإلحاح جناح صقر وهو يصفق وجه غزال، فيسدّعليه الطريق. عندئذ خيل لي أن المنايا على ضوء ذلك، هي أقرب ما تكون إلى الطيور الجارحة، حينما تجتمع على بقايا ميت. إذن هل كان المرثي مكشوفاًفي العراء أي في بلقعة بعيداً عن الأهل؟ تذكرتُ ما قلتُهُ له تفادياً: إن الأبيات قطعة عضوية متواشجة ذات بناء دقيق. إلى ذلك فهي على العموم صراع بين حركتين غير متهادنتين. صراع ممض بين الإنسان وبين القدر الذي ينتصر في نهاية المطاف ودائماً. كتب تلميذي على عجل، ما قلته. رفع رأسه وقال ضاحكاً : بالتأكيد لم يقرأ بيتهوفن هذه الأبيات حين ألف سمفونيته الخامسة! أو أنهما على طرفي نقيض؟ قال: في هذه السمفونية MINQR.C التي يبدأ فيها القدر بالدق على الباب، صراع ثلاثي محتدم بين الآلات النحاسية التي ربما تمثل القدر،وبين الآلات الوترية التي ربما تمثل الإنسان، والأبواق التي تتحلل فكرتها الرئيسة إلى أسلوب مكون من لحنين لهما علاقة بالفواصل الموسيقية الأولى. ثم قال: في الفاصلة الموسيقية ۲۲۸ يتشكل الموضوع الرئيسي ثانية بأسلوب جديد ذي علاقة بالفواصل الافتتاحية. كذلك تبدأ النغمية باكتساب وجهة معينة. هذا الأسلوب الجديد يعود للظهور في الختام الضخم ثم قال: – كما تعلم – فإن بداية الحركة الأولى شبيهة بمقطع من ترتيلة دينية لكوروبينو HYMME DU PANTHEON، وراح ينشدها باللغة الفرنسية. ثم قال : كما تعلم – هناك تشابه بين الموضوع الافتتاحي في حركته البطيئة وبداية الحركة البطيئة للسمفونية الأربعين لموتسارت. 

ثم قام إلى البيانو وعزف موتسارت أولاً، ثمّ بيتهوفن. التفت إلي وقال: التشابه واضح. أليس كذلك؟ 

كانت هذه الـ«أليس كذلك» وتلك «كما تعلم» مطرقتين، كدقات قدر بيتهوفن على الباب. لم أشعر بخجلٍ من جهلي بقدر ما شعرتُ بوخزٍ وخيبة ورثاء لنفسي. هكذا كان الإحباط يُطبق عليّ. معرفتي بالأدب العربي سطحية تلقينية. وها أن معرفتي بالموسيقى الغربية ضحلة محزنة.

استمعتُ ببغداد إلى السمفونية الخامسة. عدّة مرّات، مع صديق ثري. حفظتُ بعض أنغامها بببغاوية. كنت من خلالها ابتعد عن الواقع. يهيم بي خيالي جبالاً وودياناً ورياحاً وأمطاراً. أسبح في عالم من صنعي لا علاقة له بالسمفونية. مع ذلك كنت استعلي به على لداتي. وإنْ أنسَ لا أنسَ رسالة صديقي إلى زميلته الجامعية، التي افتتحها بقوله: بينما كنتُ استمع إلى سمفونية بيتهوفن الخامسة مُحلّقاً في سماواتها، فإذا أنت أمامي بنظراتك الحامية وابتسامتك الحييّة. قبل يومين عرفتك من بين كلّ الطالبات، من شعرك الأسود، المتموج على كتفيك، كم تمنيتُ لو تلتفتين إليّ، ظل خيالك معي، حتى وأنا أستمع إلى المحاضرة.

بهذه الصيغة أو بصيغة شبيهة بها كنا نستمع إلى السمفونية الخامسة. تلميذي الإنكليزي اللعين يعرفها بالتفصيل وكأنها شيء مجسم. يعرف كل آلة فيها. دلالتها. علوها أو انخفاضها. متى دخلت في النسيج الموسيقي وكيف؟ متى ذابت وتلاشت؟ لماذا ذابت وتلاشت؟ ما لونها؟ ما نغميتها؟ ما مساحتها؟ قلت بنفسي: يا لله أيها التلميذ، إذا كنت مُلّماً بكل هذه التفاصيل الدقيقة، فما علاقتك بدعبل و«وكانت خزاعة ملء الأرض ما اتسعتْ»؟ 

بعد يومين وصلتني رسالة من تلميذي ومعها النص الذي سنراجعه يوم الخميس المقبل.استغربتُ حقاً، من أمر تلميذي. ما الذي حبب إليه رثاء «مويلك المزموم» لامرأته أمّ العلاء:

أمررْ على الجدث الذي حلّتْ بهِ  أم العلاء فحيّها لو تسمعُ 

أنّى حللتِ وكنتِ جدَّ فروقةٍ   بلداً يمرُّ بهِ الشجاع فيفزعُ

بادرتُ على الفور بمراجعة القصيدة كلمة كلمة. احتطتُ لكلّ شاردة وواردة طرحت على نفسي أسئلة توقعت تلميذي سيسألني إياها. تكشفت لي معانٍ لم تخطر ببالي من قبل. فاذا هي قصيدة متلاحمة حقاً، وإذا هي في قمة الرثاء العربي.

قبل الدرس الثاني، قدّم لي تلميذي هدية، فتحتُها فإذا هي شريط للسمفونية الخامسة، مع مقالة مصورة عنها. قال على عجل: كنتُ محظوظاً هذه المرة، فقد عثرتُ على هذا التسجيل النادر بقيادة أرتورد توسكانيني، في محل متخصص ببيع الأسطوانات القديمة في «شبردبُش». ثم أمطرني بالأسئلة، وابتدأ لهاثي، وجدت في القصيدة معاني أخرى، قال: إنها قصيدة مؤثرة، ربما من الصعوبة العثور على شبيه لها في الشعر الإنكليزي. لقد زاد الشاعر من درامية القصيدة بوجود الطفلة اللاهية، التي لم تكن تعي الموت، موت أمها.

ذكرت له قصيدة رثائية فريدة أخرى، للطغرائي، فاقترح أن نقرأها معاً مع أبيات للشنفرى، سيرسلها لي بالبريد. لماذا كان هذا التلميذ مهتماً بقدر بيتهوفن؟ هل أعجب بإرادته؟ لماذا جاء ذكر السمفونية الخامسة مع دعبل؟ 

قال بيتهوفن عام ۱۸۰۱: «سأزنق القدر. لن يهزمني كلية» ولكن لماذا؟ أو بماذا يختلف توسكانيني عن غيره في قيادة هذه السمفونية؟ تصفحتُ بعض ما تيسر لي عن توسكانيني في المكتبة. ولكن ما ظل ببالي جملة في وصفه: «إنه لا يؤمن بالحماسة والخيال، وانما بالتقنية». ما معنى ذلك؟ هل التقنية في العمل الفني هي أهم ما فيه؟ هل تلميذي بلا حماسة ولا خيال، ولكنه يؤمن بالتقنية فقط؟

عدت أفكر بما قاله عن الأسطوانة مرة أخرى: كنتُ محظوظاً هذه المرة، فقد عثرتُ على هذا التسجيل النادر بقيادة أرتورد توسكانيني في محل متخصص ببيع الأسطوانات في «شبرد بُش». جلب انتباهي أولا «محظوظاً» و«هذه المرة» يعزو الإنكليزي نجاحه عادة إلى الحظ لا إلى قابليته. «وهذه المرة» تواضع ثانٍ، تنمُّ عن أنه لم يكن محظوظاً دائماً. ثُمّ ميّز فرادة التسجيل بذكر توسكانيني، وعيّن لي المكان حتى يرشدني إن كنتُحريصاً على شراء أسطوانات قديمة، أو ربما لدي معلومات عن محل متخصص آخر، أقرب وأفضل. لو أراد بعض العراقيين أن يعبروا عن تلك المعلومة، فما الذي يمكن أن يقولوا؟ ربّما قال أحدهم : لابدّ أن أعثر على هذا التسجيل، بقيادة أعظم قائد موسيقي توسكانيني. ذهبتُ البارحة إلى المحل رأساً. وقعت عيني من بين مئات الأسطوانات عليه. اشتريتُهُ بأرخصِ ثمنٍ.. الخ»، في قول كهذا نرى أن المتحدث ينسب إلى نفسه معجزات لا يمتلكها السامع مما يثير حفيظته. فحين يقول، لابدّ أن أعثر، جملة يقينية تدلل على ثقة بالنفس عالية لا يمتلكها غيره. وحين يقول: «إلى المحل رأساً»، فكأنما كان مدفوعاً بقوة غيبية تلهمه هو وحده من دون غيره. المعجزة الأخرى في «وقعت عيني»، أي أنه لم يفتش، أو لم يبذل جهداً، وكأن الأسطوانة اختبأت عن أعين الناس لتكون له وحده. فما أن دخل المحل حتى برزت له. في كل جملة أعلاه كان المتحدث يوجه إهانة إلى مستمعه وإن كان لا يدري. لكن الأدهى من ذلك هو استعمال «أفعل التفضيل». ما الذي دلّ المتحدث على أن توسكانيني أعظم قائد موسيقي؟ هل هو أعظم قائد لهذه السمفونية بالذات أم في كل ما قاد؟ التفضيل هنا يدلل على أنه سمع كلّ القُوّاد الموسيقيين أولاً، وعلى أنه على دراية تامة بالقيادة الموسيقية ثانياً، مما يجعل المستمع ضئيلاً. هذه هي إحدى عاهاتنا التعبيرية بالعراق، أي استعمال أفعل التفضيل. لقد وجدت هذه الصيغة، للمفاضلة بين قيمتين أو شيئين ويقصد منها الإرشاد والإخبار. إلا أننا في العراق نستعملها للتنابز والمفاخرة والمتايسة، وأسوأ من ذلك للاستفزاز، خاصة إذا أضفنا إليها «أل» التعريف. الزعيم الأوحد. الشاعر الأكبر. الإمام الأعظم، وكأن المتحدث يقول لك أخرس ولا تناقش. وهكذا أصبح التفضيل حتى في أحاديثنا اليومية استبداداً لا يؤدي إلا إلى النقاشات الحادة والتكاسر والتنافر. 

شعرتُ خلال الشهرين مع تلميذي، بضآلة معلوماتي حقيقة. شعرت أني أجوف مصنوع من ضوضاءات منوعة. إنسان هامشي فعلاً لا أتقن شيئاً. 

مرة كتب لي ملاحظة في أسفل رسالته المعتادة مع النص الجديد، يسألني فيها إن كان لدي الوقت لتناول الشاي معه بعد الدرس۔ كان شخصاً آخرَ، وهو يعدُّ الساندويج. خيّرني بالمشروب، فقلتُ شاي رجاء. سألني أيّ نوع من الشاي أفضل؟ صمتُّ بحيرةٍ فأومأ إلى علب الشاي وراح يعدد أنواعه وألوانه وفوائده الصحية. قلت بارتباك، شاي سيلان. ذهب إلى المطبخ وعاد. كيف تحب شايك؟ أسود أم أبيض؟ أتحب الحليب مع الشاي ساخناً أم بارداً؟ أتفضله غامقاً أم فاتحاً؟ هل تأخذ الشاي مع السكر؟ كم ملعقة؟ اختفى في المطبخ وعاد معتذراً : نسيتُ أن أسألك أتريد أن أضع الحليب أولاً ثم أصبُّ عليه الشاي، أم أنك تفضل أن أصب الشاي أولاً ثُمّ أضع فوقه الحليب؟ (أهذا شاي أم امتحان ثانٍ يا ابن الحلال؟!) قلتُ: الشاي أولاً ثُمّ الحليب. انبسطت أساريره وقال: هذه الطريقة التي أتناول فيها شايي. ثم قال لا أدري كيف يستطعم بعض الناس صبّ الحليب أولاً. النكهة تختلف.

مرّ ببالي، ما ذكره لي الممثل المعروف يوسف العاني عن «فرّاش» فرقة المسرح الحديث. كان بعض أعضاء الفرقة، يجتمعون على العشاء بعد إجراء التمارين، فيوصون «الفراش» بجلبه من المطعم. يقول يوسف: أوصيه بأن يأتي لنا برزّ وباذنجان فيأتي بكباب، نوصيه بالكباب، فيأتي بالفاصولياء. كان يوسف يظنّ أن طلبه يغيّره أحد أعضاء الفرقة. لكن عنّ له أن يسأل «الفرّاش»: كلما طلبتُ منكَأكلةً تأتيني بأكلة غيرها. وهنا قال «الفرّاش»: أستاد (بالدال) يوسف أنا لا أشتري لكم إلا ما أشتهيه تلك الليلة.

ما لفت نظري في غرفة تلميذي طزاجة الأثاث ألواناً ولمعاناً، وكأنها تدشّن لأول مرة. الحائط مزين بأربع لوحات كبيرة وتخطيط بحجم دفتر مدرسي. سألته عن صورة الطفلة المبتسمة ذات الشعر الأشقر. قال:إنها ابنتي سوزن أصبح عمرها الآن ثلاثة عشر عاماً. ثم سألته عن اللوحات الأربع، فقال: إن زوجتي رسامة محترفة، ولكن للأسف لم تكن محظوظة. التنافس شديد في سوق الفن هنا. كانت طيبة. تركت لي هذه اللوحات. كان يتحدث عنها بالفعل الماضي وبرفق. ظننتها ماتت.

منذ ستة أشهر وهي تعيش مع شريكها المطلّق. كنتُ أعرف بعلاقتهما. وحين صارحتني لم أفاجأ. قلت لها: اذهبي وعيشي معه لمدة ثلاثة أشهر. جرّبيه فإذا لم تنسجما، فارجعي. عاشت معه لمدة شهر، وعادت فعلاً. تصورتُ أن الأمر انتهى، ولم يكن سوى نزوة عابرة. إلا أنها عادت إليه بعد أسبوعين. أرسل لها بطاقة بمناسبة عيد ميلادها. والآن؟ نحن أصدقاء. تعرفتُ على شريكها. يبدو معقولاً. المهم أن ابنتي سوزن تعتقد أنه طيّب. سألته عن التخطيط، ويبدو أنه من عمل رسام محترف. قال إنها لديفذ جونز. لقد نوّه تي.أس. إليوت بعبقريته الشعرية، وكان عشيق والدتي.

كان تلميذي، يقول تلك الأخبار المفزعة بأسلوب واقعي محايد، وكأنه يتحدث عن جدول ضرب. لم أشعر أنه استفزّ قناعاتي وقيمي. سألته بصوت خالٍ من أيّ اختناق: هل أنت واقعي؟ ضحك. أبعد رأسه إلى الخلف قليلاً كأنه يتفادى سوء تفاهم، وقال: أبعد ما يكون عن ذلك. معظم من أعرفهم بعيدون عن الواقع. ثم ما الذي تعنيه بالواقع؟ ربما تعني أننا أناس عمليون أي المعنى الآخر ل Realistic. فإذا كان هذا ما تعنيه فأنت على حقٍّ. الغريب أن تلميذي – كما يبدو – وكذلك سيد البيت وزوجته، حينما يقعون في مشكلة يكونون أمام أمر واقع. يفتشون أولاً عن حلٍّ قانوني قبل تدخل أية عاطفة. يأخذون صفة الطبيب. لا يعتب على المريض، ولا يعنفه، ولا يحمله أية مسؤولية. مهنته إيجاد العلاج فقط. الطبيب في هذه الحالة عملي وليس واقعياً. 

قلتُ له: هل أنت طموح؟ نظر إليّ نظرة طويلة ذات مغزى، وكأنّي تدخلتُ في شؤونه الشخصية. توترت عروق رقبته ثم استرخى. ربما تذكر أنني أجنبي، وما سؤالي إلا بدافع فضول من يريد أن يتعلم. قال: إنني أؤمن بالتّدرّج، أي الصعود خطوة خطوة. الإنسان الطموح خطرٌ؛ لأنه يريد أن يختزل المراحل، فيلجأ إما إلى التحايل أو إلى الاستبداد، كل ما أريده في الوقت الحاضر هو التدرج في وظيفتي. ولتحقيق ذلك تراني أكدّ في عملي بلا تهاونٍ. أقوم بما هو مناط بي على خير ما يرام بحسب قابليتي، ثم أترك الأمر إلى الحظ. 

يجب أن أعترف، أنه على الرغم من خوفي الأسبوعي، كل خميس، وأسئلته التي لا تبدو أنها تنقطع، بأنني كنت في المرّات الأخيرة أشعر بنشوة وهو يلقي عليّ الأسئلة، كما يلقي الطبيب الأسئلة على المريض. كنت مريضاً بصورةٍ ما، وعاهاتي الثقافية راسخة ومتجذرة، كم كان بودي أن أسأله عن عيوبي. – عيوب، يالله، يمكنك أن تقول اختلاف البيئتين. أنت منحدر من بيئة، وأنا منحدر من بيئة أخرى. هذا كل ما في الأمر. لقد نشأنا منذ عصر النهضة على التدوين. أصبحت عقولنا تدوينية. جاءت الثورة الصناعية إلى بريطانيا في القرن التاسع عشر، فترسّخ التدوين أكثر.  – هل تعني أن عقلياتنا شفاهية؟ – يمكن القول إنها غير تدوينية، كما يجب. شهدت الفترة العباسية أكبر العقول التدوينية في تاريخكم العربي. لا أعني بالتدوين، الكتابة طبعاً. لكنها لم تستمر للأسف نتيجة الحروب والاضطرابات الداخلية.

قبل الدرس الأخير وصلتني هذه المرة بعض النصوص الغزلية، منها أبيات لكثير عزة:

وددتُ وماتغني الودادة أنني  بما في ضمير الحاجبيّة عالمُ 

فإن كان خيراً سرّني وعلمتُهُ  وإن كان شراً لم تلُمني اللوائمُ 

وماذكرَتك النفسُ إلا تفرّقت  فريقين منها عاذرٌ لي ولائمُ 

فريقٌ أبى أن يقبلَ الضيم عَنوةً  وآخرُ منها قابلُ الضيم رائمُ 

وفيها أبيات كذلك تنسب إلى الشماطيط الغطفاني: 

ولما أبى إلا جماحاً فؤادُهُ  ولم يَسلُ عن ليلى بمالٍ ولا أهلِ 

تسلّى بأخرى غيرها فإذا التي  تسلّی بها تُغري بليلى ولاتُسلي 

كتب في نهاية الرسالة أنني مدعو إلى عشاء في مطعم صينيّ، ورجاني ألا يكون لديّ مانع إن شاركنا صديقه جونثان – طالب دكتوراه – وخطيبته وأختها. وضع تاريخ الدعوة. وأرفق خريطة للوصول إلى المطعم، واسم المطعم. تأخرتُ قليلاً عن المطعم. في الواقع لم أتأخر، ولكنّالمطر كان شديداً. وقفتُ قرب باب مخزن دافئ، لتجف ملابسي. كان الأربعة باتنظاري بفضول، وربما باستبشار أحاطوني بدفء إنساني حقيقي.

حين رجعت إلى غرفتي، استرجعت ما دار بيننا من حديث. في الأصح من أحاديث. لم تكن أحاديث على وجه الدقة، وإنما كانت تعليقات سريعة لمّاحة، ساخرة في معظم الأحيان، عن الطقس، بعض البرامج التلفزيونية والإذاعية، مفارقات، مشاريع بخصوص المصائف الساحلية التي سيقضون فيها إجازاتهم السنوية. ما من إطناب، ما من سياسية، ما من ذكريات، اللهم إلا مفارقات مقرونة بالحظ بين إجازات حدثت في السنين الماضية. كان تلميذي قد برر اختياره لهذا المطعم الصيني. أكدت ماركریت صحية المطبخ الصيني. صحتها هي في أوج ترفها. لم تعلق أختها «جيني». كانت حزينة قليلاً. العيون الأيرلندية معبّرة وحرِكة. عيون الأختين بمنتهى البلاغة والود. سألتني الصغيرة إن كنتُ مسلماً. قالت بودي أن أعيش في الصحراء. خيمة بيضاء ونوق وشمس نقية. الصحراء هي المكان الوحيد الذي بقي نقياً على وجه الكرة الأرضية. تساءلت مع نفسي هل نحن غرباء في أوطاننا؟ مأسورين بالأوهام، واذا ما تحررنا من أقفاصنا نحنُّ إليها بعد فترة. قلت أنا مسلم بالولادة. لكني منذ زمنٍ بعيدٍ، أصبحتُ انتقائياً .Ecclectic ضحكتْ بسجية مرحة وسألتْ تلميذي ما معنى هذه الكلمة. سخروا من الديانة المسيحية. وروى جونثان نكتة عن المسيح. قلتُ ولكننا نؤمن بالمسيح فاعتذر على الفور واعتذروا. وجهتُ الكلام لجيني: يبدو عليك الحزن. قال جونثان كنّا البارحة في حفلة ولم يرقص معها أحدٌ! وضع يده على كتفها. لا تهتمي قد تصادفين من يرقص معك في المرّة القادمة، والتفت إليّ، ليسألنيّ: هل أنا مرتاح في البيت الذي أسكن فيه؟ تحدثت عن سيد البيت وزوجته بودٍّ. تحدثتُ عن الملحمة المرعبة التي عشتها مع البومة وكيف تطيّرتُ. وحينما ذكرتُ أنني لا أستطيع النوم من دون أن أضع منشفة عليها، ضحكوا طويلاً. ثم ذكرتُ لهم عن قراءتي لبخت سيدة البيت في فنجان القهوة، دفعاًللملل وكيف آمن بي سيد البيت وزوجته بما كنت أهذي به لدرجة أن دعوا جملة من معارفهم لقراءة فناجينهم. غمزت لي ماركریت: ليتك تقرأ فنجان «جيني» غير أن تلميذي صاح أنا أحوج منكم لمن يقرأ طالعي، ولكني لا أؤمن بذلك.

سألتُ جونثان الذي كان يطعّم حديثه بجمل عربية سليمة، ما موضوع أطروحتك؟ قال لهذا السبب رجوتُ أن نلتقي بك؛ لأنني أريدك أن تساعدني. موضوع أطروحتي «الخيمة العربية». كدتُ أشرق بفنجان القهوة. وللتأكد أستفسر: ماذا؟ أكدّ بجدٍّ : «الخيمة العربية». قلتُ بنفسي هل انتهت الموضوعات، ولم يبقَ الآن إلا موضوع الخيمة العربية. ما الذي يهمكم من أمرها؟ ما الذي تريدون أن تفعلوه؟ – يقتضي ذلك مني أن أطوف في الصحراء لبضعة أشهر. – وماركریت؟ نظر إليها وضحك. غمز لا تخف عليها ستجد من يراقصها! ضربتْه على ذراعه بحنان، فوضع ذراعه على كتفها. هكذا إلى أن قمنا للوداع. لم أتوقع قبلة ماركريت على وجنتي وبحرارة. لم أتوقع قبلة «جيني» على وجنتي وبحرارة.

صافحني جونثان بودّ. تكومت علي نظراتهم بإشفاق. فشعرتُ بامتعاضٍ غامضٍ لم أعرف كنهه. أوصلني تلميذي إلى باب محطة القطار الأرضي. مُصرّاً على شراء تذكرة الرجوع. قال: لنكن على اتصالٍ، وتمنى لي حظاً سعيداً. في الواقع لم أكن موفقاً، أو لم أكن صادقاً كل الصدق، فيما حاولت من وصف لدعوة العشاء. أولاً لم يكونوا ينتظرونني بفضولٍ ولا استبشارٍ. لو فعلوا ذلك لكنتُ المحور الأساسي بينهم ولا تتم الجلسة من دونه. ما كان الأمر كذلك. فما أن وصلتُ حتى أعلنوا عن جوعهم، وبدأوا يقرأون قائمة الطعام. لم أكن مصيباً حينما استعملتُ كلمتي فضول واستبشار. هذا ما كنت أتمناه فقط. إذ أنا ربيتُ كبقية الاولاد أن نكون المحور دائماً. صحيح أن عيون الفتاتين ممتلئتان بالحيوية والسحر، ولكن لم يقل لي أحد إنهما أيرلنديتان. ربما كانتا اسكتلنديتين. لا أدري. أكثر من ذلك، صوّرت ما دار بيننا (في الواقع بينهم)من أحاديث، كأننا كنا متكافئين، أو كأني فهمت كل شيء، أو كأني عبرت عن نفسي بسهولة.

إذا دُوزِنتُ الأذن على صوت متحدث واحد، تكون الكلمات أوضح حتى وإن خفي معناها ولكن حينما يتبادل الحديث مجموعة بطبقات صوتية مختلفة، أنثوية ورجالية، فإن طبلة الأذن الأجنبية تتشوش ويصعب عليها فرز الذبذبات كما ينبغي. فاتتني أشياء كثيرة. الإصغاء المتعمد متعب. أضحك إن ضحكوا فقط. ولكن كان واضحاً أن ضحكي لم يكن بالتوقيت نفسه أو بالكمية نفسها، وليست فيه تلك النهاية الدقيقة التي توحي بالتواصل من الطبقة الصوتية التي انتهى منها الحديث. المحاورة الجيدة تناوب آلات موسيقية، مرة تشترك ومرة تنفرد. باختصار كنت منافقاً أو ربّما مجاملاً في مشاركتهم الضحك، لدرجة تدهور معها لحم خدي بخدرٍ نافرٍ.

حتى حين سألت «جيني»، أو حينما قلت لها يبدو عليك الحزن، لم أكن إلا خبيثاً. ربما كانتْ حالمة، ربما كانت متعبة، ربما كانت متوعكة كنت في الواقع أحاول تغيير دفة الحديث. فكل ما دار بينهم أشياء خارجية، ما من شيء شخصي، مجرد أخبار منتقاة بعناية، ولكنها غير مُلزِمة. لا تُروى على أنها سبق صحفي، بل تروى وكأنها معروفة لدى الجميع لذا تخلو من التفاصيل المملة. لقد نشأت في بيئة لا نتحدث فيها إلا عن أنفسنا: أين كنا، من رأينا (وما رأينا بمن رأينا؟) ما قرأنا (وما رأينا بما قرأنا؟ ماذا سمعنا وما رأينا بما سمعنا؟)، ما مشاريعنا الأدبية والحياتية (لإظهار السامع عاجزاً أو أقل منا شيئاً). لنا حكم على كل شيء حتى قبل أن يقع. كلنا حاكم يحمل محكمته معه أينما حل، ومحكمتنا لا تقبل الشهود، وأحكامها غير قابلة للنقض. خُيّل لي أنه عن طريق الحزن، من نقطة الضعف هذه سأتسلل. نحن في كثيرٍ من الأحيان نبدأ الصداقة من نقطة ضعف. نتظاهر بالتعاطف. نتلذذ بما نسمع من أحزان وأکدار ونتظاهر بالتعاطف. ضعف الآخرين قوة لنا. تقوى أواصر صداقتنا بقدر ما نتبادل من إحباطات، وأسرار غير لائقة. باختصار الصداقة تبدأ عندنا بالمأتم الذي نجد فيه قاسمنا المشترك الأعظم.

لم يكن جواب جونثان: «كنا البارحة في حفلة ولم يرقص معها أحدٌ!» ينمُّ على عيبٍ في الآخرين الذين لم يراقصوها، حتى يتسنى لي أن أتسلل وافتح نيراني عليهم: كيف لم يثمنوا أخلاقها، هل كانوا عمياناً فلم يروا جمالها، ليتها أجابت هي، لفتحت لي باباً ولا همّ إن كان موارباً. يعني جونثان، أن أحداًلم يراقصها؛ لأن حظها هي كان منحوساً تلك الليلة، وكل ما ستفعله في المرة القادمة أنها ستحسن من حالها، أنها ستكشف عيوبها فتحاول إصلاحها، أي إنه وضع المسؤولية على عاتقها، ولم يَلُمْ أحداً غيرها. إذن كيف أقحم نفسي؟ فلتت مني الفرصة، رغم تربصي.

لم أكن دقيقاً كذلك فيما نقلته عن جونثان حينما سألني: «هل أنا مرتاح في البيت الذي أسكن فيه؟». لا يمكنه أن يقول ذلك. فوضعه المالي والاجتماعي لا يسمح له أن يتصور أنني غير مرتاح وأبقى ساكناً فيه. ما الضرورة لذلك؟ ملاءمة المسكن في هذه الديار أقوى من العلاقة العاطفية به.

كان جونثان في الواقع قد سألني في أي جانب من «باترسي» أسكن. يعرف المحلة وكأنه يعيش فيها، إلا أنني وإن كنت قد فهمت سؤاله بدقة تقريباً، إلا أنني أنا الذي نقلت الجواب إلى البيت الذي أسكن فيه، ومنه إلى سيد البيت وزوجته، وقراءة الفنجان. أما ما قلته عن البومة، فلم يكن صحيحاً، وخاصة ما ذكرته من أنهم ضحكوا طويلاً. بالتأكيد لم يضحكوا قط. لكنهم ابتسموا اندهاشاً وتبادلوا نظرات فيها الكثير من الاستغراب. ليتني لم أحشر موضوع البومة. لم يفهموا سبب خوفي من طائر لا علاقة له بتصوراتنا عنه. صحيح أنني أظن أن عينيها أكبر مما تحتاجه، وأكبر من عيون بقية الطيور، صحيح كذلك أن عينيها جامدتان ثاقبتان لا يمكن قراءة ما تبطنان قط، صحيح أنها بمنقارها المعقوف، وصمتها المرعب، لا تعلن عن نواياها (وهذا ما يخيفني في كل مخلوق)، إلا أن هذه تصورات فردية لا تعني أحداً، في المطعم الصيني. ما يرعبني فيها حقا ذنبها القصير، وجناحاها الوطواطيان. لا تعلن عن نواياها، ومرّة واحدة تنحدر بخط مستقيم، ولا تصعد إلى الأعلى إلا وفي مخالبها فأرة أو أرنب ربما يتعرف على الحياة الخارجية لأوّل مرّة. ولو تشفعت الديانات كلها للأرنب، فلن تؤثر في شهية البومة. ليتني لم أذكر لهم البومة. حسنا فعلتُ؛ لأنني لم أتوسع في مفهوم علاقة البومة بالأطلال والبيوت المهجورة، وإن كنت قد هممت.

قالت ماركريت: كنا نعتقد في السابق بأشياء مماثلة، وضرب تلميذي العصر الإليزابيثي مثلاً، واستشهد ببعض أبيات من مسرحيات شكسبير. لأقل إنها لم تكن دعوة، بقدر ما هي محنة مازلت أعاني من مرارتها. باتت معها كلماتي المتقطعة كالحجر على لساني كما يقول أحمد شوقي. كنت مزهواً بذاكرتي وقابليتي على الحفظ، والآن تهرب الكلمات وتمّحي. وما أتذكره منها يكاد يتفتت في فمي. لم يكن ثمة تناسق بين دماغي ولساني، وفي الفشل يعلو الصوت. علا صوتي بأوتارٍ محتقنةٍ، وتمططت الدقائق وأبطأت، كأنها توقفت.

لكن الأهم من ذلك، أنني لم أتبْ. فقد قررت منذ أسابيع ألا أعود إلى تلك العادة المتأصلة ثانية، في الدخول في الصداقة عن طريق نبش الحزن، والتظاهر بالتعاطف.  

كنت مرة أنتظر دوري في مستشفى العيون. المرضى يملأون القاعة. إلى جانبي رجل عجوز مقعد، على عربة. يداه ترتجفان، وعينه اليسرى حمراء متورمة. لم يحلق ذقنه. شعرت بفرح بوجوده إلى جانبي. كان يسعل بألم، ويشفعها بكلمة: اللعنة. قلت بنفسي لا أسهل منه في الدخول معه في صداقة مهما كانت عابرة، فبيني وبين مجيء دوري للفحص – كما يبدو – مسافة زمنية مملة. 

فعلاً، لم يتوقف. لعن الحرب والحكومة عدّة مرّات. تنكرت له الحكومة ولم تعطه ما يستحقه من تعويض، عما لحق صدره من تلف من جراء الغازات السامة التي كان يستعملها ضد العدو في الحرب.

– من يساعدك في شراء حاجياتك؟ – أدفع للبلدية ثمناً مقطوعاً، وهم يجلبون لي وجبات الطعام، وهم مسؤولون عن تنظيف البيت. – هل زوجتك معك؟ – ماتت. – هل لديك ذرية؟ – ولدان متزوجان. قلتُ هذه هي فرصتي. شعرت بانتصارٍ في نجاح مخططي. سيظهر حزنه ويتظلم وأظهر تعاطفي. قلتُ له بصوت مواسٍ: – هل يساعدك ولداك؟ التفت إلي بكلّ رأسه. صبّ عينيه النازتين كاللحم النيء في عيني وقال بغضبٍ: – هل أنت مجنون؟ لهما حياتهما الخاصة، يجب عليهما أن يرعياها. ليتمتعا بها، كما تمتعتُ أنا أيام شبابي. حياتي مسؤوليتي، وليست مسؤولية أحد غيري. أعاد رأسه إلى ما كان عليه، ولم يكلمني قط. يسعل ويلعن الحرب والحكومة. بلعت الإهانة كأحسن ما يكون عليه بلع الإهانات. قررتُ منذ تلك اللحظة، ألا أعود إليها. تلك توبة نصوح.

حين سألت «جيني» أو حين قلت لها يبدو عليك الحزن، شعرتُ على الفور بذنبٍ، بخسةٍ من نوعٍ ما. ما الذي يهمني من حزنها؟ فتحت الراديو، قلتُ لعلّ الموسيقى تكون أكبر من هواجسي وخيباتي. 

مقالات قد تعجبك
اترك تعليق

لن يتم نشر أو تقاسم بريدك الإلكتروني.