فتحت الراديو، قلتُ لعلّ الموسيقى تكون أكبر من هواجسي وخيباتي. في اليوم التالي ذهبتُ إلى الكنيسة. معظم الحاضرين من العجائز بأفضل زينة وملبس. المساحيق مغالى بها، لدرجة أصبحت معها وكأنها أقنعة مضللة. هل نخاف الواقع؟ فنمحوه بالمساحيق أو بالكلمات الزائفة؟ هل هذا ما عناه تلميذي حين قال: إنني أبعد ما أكون عن الواقع؟ لماذا يتفرد الكاهن بهذه الملابس المزركشة؟ لماذا يريد أن يظهر بمظهر مختلف كممثلي الأدوار التاريخية؟ كان إلقاؤه واضحاً، وصوته بلا نتوءات من كثرة التدريب والتمرين. كتبتُ بعض الكلمات الصعبة، باللغة العربية.
بعدما حصل لي ما حصل في الليلة البارحة، لم أجد في خطبة الكاهن عزاءً. بدا في استهلال الخطبة مثل طبيب ماهر، ولكن من دون دواء. بقيتُ حوالي النصف ساعة، وهو بلا دواء. أكثر من ذلك، كان إيقاع كلماته مواسياً، بلا تخديشٍ. وتيرة واحدة من التخدير والتضميد. الغاية قطع الأوجاع. عاملنا جميعا كالولد الضال، كالحمل الضال. لغة سيد البيت وزوجته قليلة القاموس تتكرر مفرداتها وتكثر فيها الأمثال والحكم. لغة بلا رتوشٍ ولا زركشة. مادة بقدر غايتها. وغايتها لا تعدو أن تكون إيصال المعنى فقط، من دون أية محاولة للإقناع أو التأثير، لذا خلت جملهما من الصفات التي تنمُّ عن اجتهاد شخصي.
كانت لغة تلميذي وأصدقائه، وهم من الطبقة المتوسطة العليا، مُحكمة وحذرة المعنى ولا تلزم صاحبها بمعنى محدد. تكثر فيها خطوط الرجعة، كما يكثر فيها كلّ ما يهوّن من غرورها وغلوائها. حتى إن تخاشنت مفرداتها فهي كلعبة رياضية شديدة الإيذاء، ولكن تحت شروط وقوانين.
لغة الكاهن هذا الصباح جميلة بيضاء كبياض القطن. ألفاظها مصنوعة من قطن. يقي الجرح من الجراثيم ولكن لا يشفيه. كنت بأشد الحاجة إلى دواء. تركتُ الكنيسة، وذهبتُ إلى متنزه «باترسي» لأراجع بعض الجمل والمصطلحات بصوتٍ عالٍ. الأشجار من بعيد، كمسوّدة رسم بالقلم الرصاص. ما تزال البراعم مختبئة. سوداء وكبيرة كضروع الماعز. أصبحتُ مهووساً بالبراعم، أريد أن أراها وهي تتفتح. كم كان يسعدني منظر تفقيس بيض الدجاج أمام عينيّ. حذرتني والدتي من لمس البيض أولاً؛ لأنه سيفسد، وحرمتني من لمس الفراخ؛ لأن الدجاجة ستنفر من الفرخ الذي فيه رائحة غير رائحتها.
أعجبتُ بالجذور العميقة الصامتة القوية. تصورتها قوية الإرادة. تحفر ببطء وجلد، بلا توقفٍ. قلتُ ليت لي إرادة الجذور. هل تعلم بيتهوفن إرادته منها؟ إذن لأكنْ في البداية مسؤولاً عن حياتي مثلها، قبل أن أصبح جذراً. وعليّ أن أعترف أن ما وقع لي بالعراق كان من مسؤوليتي؛ لأني كنتُ ساذجاً لم أقرأ الغد. لم أسجنْ كالآخرين. ولكن ضُرِبت ورُكلت ونُهرت. ذلك صحيح ولكن لم أعذب. مع ذلك كان السجين أسعد مني حالاً. له لداته يشدون أزر بعضهم بعضاً. في الأقل عرفوا مصيرهم. لم أعرف مصيري وقتها. كنتُ حراً طليقاً ومطلوباً وممنوعاً من السفر. أصبحتُ هدفاً متحركاً أمام صيادٍ جائعٍ ومجنونٍ أرتعصُ خوفاً من بقائي حياً. مجهولية مصيري أقسى تعذيب. كنتُ هلعاً كهدفٍ متحركٍ. حتى إن أخطأني التصويب مرّة فلا يعني النجاة مطلقاً، بل يعني أن المصوّب سيكون أكثر دقة في المرة الثانية. ليتني فقدتُ هويتي. ليتني فقدت اسمي. ليتني لم أنشر شيئاً. هل أسلّم نفسي إلى الشرطة ولو كان فيه تمزيقي فارتاح؟ إلى متى أبقى هدفاً متحركاً؟ الزمان يطاردني في كلّ آن، والمكان مصيدة، نظرت إلى الأشجار فأعجبت بصمود هياكلها، وفكرت بجذورها من جديد. أنتظر تفتح براعمها هذه المرّة بشوقٍ مختلفٍ. سأصفق حقاً للمولودات الجديدة على الأغصان.
كنت في هذه المرحلة أقترب لأول مرّة من النبات وكأني اكتشفتُ سلالتي الأصلية. بدأتُ أتأفف من المريء، والمعدة، والتبول، والتغوط، والمطاعم، والمزابل بأبواب البيوت. حيثما رأيتُ قصاباً التفت إلى الناحية الثانية. بتُّ أتقزز من منظر الخراف المسلوخة المعلقة بالمقلوب. الرؤوس المقطوعة إلى جانب، وهي تنظر باستعطاف. أفخاذ دجاج بلا أقدام. أجنحة منتوفة على حدة. رقاب وحواصل مكومة في صينية. أكارع وأقدام بظلفين موضوعة بصورتها الطبيعية وكأنها تهمّ بالمشي.
البارحة حلمتُ أنني عائد إلى بغداد في زورق طويل مع شلة من الناس. كان ماء دجلة أسود غريباً، والأشجار مسخمة مخيفة كالأشباح. توقف عند کهف واسع وفيه تنانير مشتعلة كالبراكين. صياح الموقوفين الذين يعذبون بالأسياخ المحميّة يصمّ الآذان. صعد ثلاثة عسكريين يفتشون عن الهاربين عن وجه العدالة. كانوا يتفرسون في الوجوه بوجوه متعضلة مزمومة، لا انفراج فيها كتجعدات جلد حذاء رخيص لم يصبغ. تقدم مني أحدهم. تبعه الاثنان وتكوموا فوق رأسي. سألني: اسمك؟ قررتُ لن أذكر له اسمي الحقيقي دفعاً للشر. جأرتُ بسرعة وثقة اسمي: ناجي عبد الله. قال قُمْ. أنت الذي كنا نفتش عنه.
اقتادوني بعنف. لسعتني نار أوّل تنورٍ، فصحتُ. كنتُ أرتعش. مددتُ يدي ودقات قلبي داوية، إلى الضوء وفتحته. نظرت إلى السقف، إلى جدران الغرفة، إلى الطاولة، إلى الكرسي، إلى حذائي، إلى دولاب الملابس، إلى المغسلة البيضاء، إلى الستائر، إلى الرسالة التي لم أكملها، إلى الراديو، كأني أتعرف عليها من جديد. غسلت وجهي. شربت سيكارتين مرة واحدة، ونمت ثانية بتعسر، ولم أطفئ الضياء. خفت أن يعاودني الكابوس. لم أنم. نمت.
عليّ أن أذهب يوم الاثنين المقبل إلى «الناشنال غاليري» في الساعة الثانية عشرة. كنت قد زرت الناشنال غاليري عدّة مرات. مرة للتدفئة والتخلص من غرفتي الباردة، ومرة للفضول. كنت أمرّ على الصور مرور الكرام، إذ ليست لدي أدنى فكرة عن كيفية دراسة اللوحة، وبالتالي التمتع بها لدرجة الثمل. كنت كمن يتلذذ برائحة الفواكه وألوانها وطعمها، ولكنه يجهل مكوناتها وفيتاميناتها.
أنجذبت أول ما نجذبت، وبصورة أشبه بالسحر إلى لوحات الرسام الإنكليزي «تيرنر» أنسجمُ مع لوحاته، وكأني أحس زيوته على جسدي حين أخرج من الغاليري، وأني جزء متلاحم من لوحاته. شعرت بيأس وإحباط حقاً، حينما تمعنت بلوحته الكبيرة «نار على البحر». هل كان «تيرنر» يصور عن تجربةٍ، عقم كفاح الإنسان وسط العاصفة والكارثة؟ وما المخلوقات البشرية إلا حطام سفينة بسيط خالٍ من أية زخرفة في بحر هائل هائج؟ كان «تيرنر»بالفعل قد مرّ بتجربةٍ «زوبعة ثلجية في البحر»، حيث الريح بأعتى عضلاتها الكاسرة، والثلج في دردور مدوّم، وحيث المركب بدأ يتلاشى في أعاصير الأمواج ولم يعد يُرى منه سوى جزء صغير من الصارية. في لوحات كهذه ينعدم لدى تيرنر الأفق والسماء والأرض. كلها واحد في براكين لونية متداخلة بتوحش، تنزف اللون الأصفر واللون البرتقالي وكأنها أوشال جراح تسحّ آخر ما فيها من دم. كانت أعمال «تيرنر» الأخيرة متشبعة بالضوء واللون، لدرجة كما قيل عنها، لم يسبق لها مثيل في تاريخ الرسم.
يظهر التأثير العاطفي للون في لوحته الشهيرة «مطر، وقاطرة، وسرعة». عناصر الطبيعة هنا انطلقت من قماقمها بأشرس ما يكون عليه التدمير. تُوقِع في النفس الخور والإحباط، فاذا بقطار يشقّطريقه فوق جسر عال عبر الضباب والمطر. للقطار وهو قادم من بعيد مفعول وصول نجدة بعد يأس. إنه بلا شك يدشن عهد الثورة الصناعية الجديد. الماكنة هي التي ستروض الطبيعة، وعضلات القطار الحديدية رمز لها، ورايتها تلك الصارية البخارية. كنت أجلس أمام هذه اللوحة مرة بعد مرة، وأجد فيها نوعاً من المواساة والأمل.
منذ طفولتي بالناصرية، وأنا مبهور بهذا المخلوق الحديدي العجيب. نعبر الجسر إلى الجانب الآخر، ونرى مئات المودعين بعيون دامعة. وحين تشتعل عينه الواحدة بأقوى ضوء، وتدوي صافرته البخارية، ترتفع الأيدي، تلوّح، ويبدأ صراخ الأمهات. إلى أي مجهول سيأخذ هذا المخلوق الحديدي ركّابه، بعينه الواحدة؟
هذه هي المرة الثالثة التي أراها على المصطبة أمام لوحة «مطر وقاطرة وسرعة» لم أحس بوجودها في المرتين السابقتين. لا أحسست بوجودها، ولكني تصورتها تستريح مما يخلف النظر إلى لوحات مختلفة من جهد عقلي وذهني، يسبب خدراً جسدياً بدوره. شابة في مقتبل العمر. آثار النعمة بادية عليها. في وجهها رونق وملاحة. في وجهها عمق لا يتأتى إلا من طول تأمل وقراءة، وهو بلا شك أفتن ما في المرأة من مفاتن.
ابتسمتْ لي في المرة الثالثة. كانت عضلات وجهي ناحلة. نظراتي لا تتركز في شيء من الجوع واليأس. ربما أوحيت لها بأني في خضم عملية فلسفية أو في منتصف تأليف شعري أو موسيقي. لم أجد حاجة لتمشيط شعري هذا اليوم ولا لحلاقة لحيتي.
قالتْ: كلما شعرت بحزن، آتي إلى الناشنال غاليري، للنظر إلى لوحات «تيرنر» إنها تسرّي عني فأشعر براحة. من أين يأتيها الحزن؟ قلت. طازجة كالفاكهة على غصن. “دانية القطاف”، ملابسها ناعمة جديدة الألوان. حزام خصرها من أرق الجلود وأغلاها. كيف يأتي الحزن لفتاة شابة تمتلك كل الحرية بالتصرف بجسدها كيف ما تشاء. ما من عيون جارحة كاسرة تراقبها، ولا حسيب ولا بني غطفان. كل ما عرفته عنها، أنها طالبة بعثة من منطقة «كَنْتْ» بإنكلترا وتدرس بباريس، وإنها في إجازة قصيرة. لم تخبرني باسمها. اجتذبتها لكنتي وسحنتي الأجنبية. لم أكذب خبراً ففتحت لها جرابي قدر ما أسعفتني لغتي. تبسطت في الحديث عن وطني، مُفتتحاً الحديث بألف ليلة وليلة. انبسطت أساريرها. حدثتها عن نهري يوفریتس (الفرات) وتايغرس (دجلة) عن مائهما الصافي ورمال ضفافهما الذهبية، عن النخيل والطيور والغروب، عن الأمسيات التي نقضيها في المقاهي القريبة من الأنهار، عن جبال العراق في الشمال والأهوار في الجنوب، وبابل في الوسط. اندفعت بالحديث عن الوطن وكأنه جنة يسكنها ملائكة. حدثتها فعلاً عن جنائن بابل المعلقة. وبينما كنت أحدثها عن كل شاردة وواردة عن نفسي، عن شعري وذكائي وطموحي. قالت آن وقت الغداء، وكأنها لطمتني.هيا.
قلت لها: أنا مسلم. وأنا صائم؛ لأنه شهر رمضان. من أين جاءتني هذه الكذبة البلقاء؟ ماذا لو رأتني أشرب سيجارة بعد قليل؟ ماذا لو عرفت أن شهر رمضان لا يحل إلا بعد أربعة أشهر؟ قالت سأرجع إلى هنا بسرعة لتحدثني عن الإسلام.
خرجت على عجل إلى ميدان الطرف الأغر، ومصصتُ سيجارة كأنها طعام. سرعة التدخين تورث الكأبة والصداع، والطيور هنا بمنتهى تآلفها مع البشر. تقف على أكتافهم، وأذرعهم وتلتقط الحبوب من أكفهم. لا تشبع. الكاميرات المبتهجة الضاحكة تسجل الوقائع. لماذا أسهبت في الحديث عن نفسي وكأني بضاعة للبيع؟ قلت أنا ضحية بيئتي التي علمتني أن أعيش إنساناً متنكراً. نحن أناس متنكرون، نتخفى حتى عن أنفسنا. نحن غرباء حتى عن أنفسنا.
قالت: ليس لنا وقت طويل فبعد عشر دقائق سيأتي المحاضر لتحليل لوحة «تيرنر» «مطر وقاطرة وسرعة». علمت منها أن ثمة محاضرة يومياً في النشانال غاليري عن إحدى اللوحات، وكذلك في «التيت غاليري» والمتحف البريطاني. ويمكن الحصول على برامج المحاضرات قبل شهر. جاءت المحاضرة ومعها شلة، وبأيديهم كراسي صغيرة خفيفة تطوى. جلسوا. بقيت واقفاً. كان الحديث عن اللوحة طلاسم لغوية وفنية. أذكر أن المحاضرة ابتدأت بالتحليل من وسط اللوحة، وراحت تنتقل في أجزاء اللوحة بوصة بوصة، كما يحلل المايسترو الآلات الموسيقية في أوركسترا كبيرة ويعرف أدوارها صوتاً صوتا، علوها وانخفاضها. حيويتها وضعفها. وقفت جانباً، ورحت أكتب بالعربية ما كانت تقوله بالإنكليزية، وفي البيت استعصت علي معظم الجمل والكلمات، لكن قلت: شيء، خير من لا شيء. أخذت البرنامج. وعرفت أن محاضرة ستلقى يوم الاثنين المقبل عن لوحة يان فان آيك YAN VAN EYCK المعنونة «زواج ارنولفيني». حينما رأيتها لأول مرة، اصفررت، وشعرت بمغص. جفّ حلقي كذلك. تفاصيل، تفاصيل لا تنتهي إلا بألغاز، وألوانها مشبعة بثراء. ابتعد عنها. أنظر في لوحة سواها، وأفكر بها ثم أعود إليها. حدثت نفسي أن شيئاً مسحوراً في هذه اللوحة. إنها موسيقى صامتة من نوع نادر. بلغت ألوانها حد نضجها، وتوقفت عن الشيخوخة والذبول. ثمة سر دفين في هذا الزواج. من هو أرنولفيني يا يان فان آيك؟ هل كانت زوجته محظيّة من قبل، فاضطر للزواج منها خشية الفضيحة؟
في وسط اللوحة فتاة تلبس رداءً أخضر تدلّ تكسراته النضرة على الثراء. حوافي الثوب صفراء. كُمُّ ثوبها أصفر وواسع تماماً. على رأسها وشاح أبيض مطرز الحوافي تبدو من أعلى جانبه الأيسر كتلة شعر صفراء غامقة. يدها اليمنى ممتدة وكفها مسترخية في يد زوجها أو موضوعة على يد زوجها باسترخاء. وجهها أبيض بضّ، وفمها مغلق، وكأنْ بكآبة. يدها اليسرى موضوعة على أعلى بطنها. إنها لا تنظر إليه من خجل أو حياء. نظرتها مركزة بشكل غامض في نقطة أبعد من جدران الغرفة، ربما توحي أنها مركزة في فكرة مقلقة. في خلفيتها فراش لا يبين إلا جزء منه.
أما الزوج فيعتمر قبعة زرقاء غامقة واسعة وثوباًبنياً يبدو وكأنه کاهن. يده اليمنى مرتفعة أمام صدره وكأنه يؤدي طقساً كهنوتية دينياً. كفه اليسرى تحت كف زوجته. إلى يمينه وإلى الخلف قليلاً شباك عالٍ يأتي منه الضوء من الخارج وهو الضوء الوحيد في الغرفة. نظراته إلى الأمام وكأنه يتفاداها. يرين على وجهه صمت جامد يتراوح بين الخشوع والحيرة.
في أسفل الصورة – إلى يسار الزوج على الأرض قبقابان متجهان إلى خارج الغرفة، ينمّان على الخروج لا على الدخول. وفي أسفل الصورة في الوسط كلب صغير ينظر لا إلى الزوجين بل إلى الخارج بفضول. أما خلفية الصورة فتفاصيلها أكثر تعقيداً. لماذا الشموع فوقهما، وفي أعلى الصورة مطفأة إلا شمعة واحدة تشتعل نهاراً. لماذا؟ هل العواطف بينهما خابية إذا استدللنا من الخلفية على ما يفكر به الأشخاص عادة؟ ما أهمية المرآة والمسبحة خلفهما على الجدار؟ أكثر من ذلك لو نظرنا إلى الزوجة مرة أخرى لرأيناها خارج إطار السرير إلا قليلاً. بينما الخلفية وراء رأس الرجل، مجرد التقاء حائطين، فهل كان نهب فكرتين؟ ما الفكرتان؟
قيل إن «يان فان آيك» أول رسام اهتم بالتفاصيل في عصر النهضة. قلتُ كان عليّ أن أصل إلى الناشنال غاليري في الساعة الثانية عشرة ظهراً. شغلت نفسي في الأيام الماضية بالذهاب إلى مكتبة المحلة، أطلّعتُ تصفحاً وبقدر ما سمح لي فهمي للغة الإنكيزية على حياة يان فان آيك وأهم لوحاته استعداداً لمحاضرة اليوم عنه. كنت في أشد فضول لفكّ أسرار هذه اللوحة الملغزة. كم تمنيتُ لو كانت لغتي الإنكليزية أفضل، أو كان لديّ مسجل لتسجيل المحاضرة.
لعجبي رأيت الفتاة إياها في الصف الأمامي وهي تدوّن باختزال. ذكرت لها أن أشياء كثيرة فاتتني ولم أفهمها. اقترحت عليّ أن نذهب إلى الكنيسة المجاورة: «سانت مارتن أون ذي فيلد» ذكرتْ إنهم يعزفون يومياً موسيقى كلاسيكية. قالت هذه فرصة لا تفوّت. سيعزفون اليوم بعض أشهر المقدمات الموسيقية الأوبرالية ومن بينها، أوبرا «نورما» لبلليني وأوبرا «دون باسكال»، وأوبرا «حلاق اشبيلية» و«سميراميس» لروسيني. نظرت اليّ نظرة طويلة لا تخلو من غيبوبة. قرّبت وجهها من وجهي واضعة يديها على كتفي وقالت: أوبرا نورما معجزة عاطفية وموسيقية، حتى «فاغنر» كان من المعجبين المتحمسين لهذه الأوبرا، وهي تعدُّ من أفضل ما كتب من مقدمات أوبرالية.
رانت على وجهي شبه غيبوبة مخدِّرة، وأنا أشاهد لأول مرة في حياتي، أوركسترا حية أمامي. كنت قبل الآن أستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية كخليط من الآلات المتناغمة. أما الآن فيدلّني «المايسترو» على تفاصيل الآلات، تفردها وذوبانها في بعضها بعضاً، تماماً كتلك التفاصيل الدقيقة التي ذكرتها المحاضرة حينما كانت تشرح وتحلل صورة زواج ارنولفيني. في الواقع كان المايسترو يرسم في الهواء ألواناً صوتية متناغمة، وتستجيب له الآلات الموسيقية بانتباه شديد.
سألتني عن عنواني. قلتُ لها حان وقت الإفطار، ولابدّ أن أذهب إلى البيت لطبخ شيء خاص بالصيام. طبخ اللحم، طبخ اللحم، ظللتُ أكررها ولم أجد في قاموسي كلمة «الحلال». أعدتُ صياغة الجملة من جديد وبتلعثم أشدّ، ولا وجود لكلمة «الحلال» . ابتسمت بعطف فربما تصورتني نباتياً.
أصعب الأيام على الغريب، هو يوم الأحد. المدينة تموت جزئياً، ويستكنّ الناس في بيوتهم المغلقة الأبواب دائماً. تزداد الغربة فيه أضعافاً ويصبح السير في الشوارع توجساً. استيقظت مبكراً. فتحت الستارة. نظرت إلى السماء. كانت الغيوم راسية كالجبال، ولكن في أقصاها الجنوبي، ثقوب زرقاء من حيث تهب الريح. تفاءلت، ربما ستطلع الشمس هذا اليوم.
نظرت إلى دفتر مذكراتي الذي اشتريته قبل أسبوع حيث قررت الانكباب على كتابة ما أمرّ به من تجارب. لم تكن لي أية رغبة في قراءة ما كتبت. من باب الفضول نظرت نظرة جانبية باستعلاء، إلى بعض الأسطر في صفحة لا على التعيين. عدت وقرأتها من البداية، ثم عدت وقرأت الدفتر من البداية. كنت جاداً فيما كتبت وصريحاً تماماً. شدني الألم. وانتابتني حيرة مدوخة. الكتابة هي المرآة الحقيقية للإنسان. انهلعت. فقط حينما يمسك المتسابق بالشريط الأخير، تكون لكل خطوة خطاها من بداية السباق أهمية. لكنني لست في سباق. ولم يضع لي أحد شريطا في نهاية الشوط. قلت الكتابة هي المرآة الحقيقية للإنسان. قد يكون الأمر كذلك. ولكنها جذور تريد أن تضرب بعيداً في الغد. أين مني الغد؟ ما جدوى ما أكتب؟ همي الأول والأخير غريزيّاً، أن أعيش يوماً آخر،َ ولا أدري لماذا. أريد أن أعيش نسيا منسياً، وأمسح من كل الوثائق الرسمية.
نظرت إلى الدفتر بحنان. قرأت بعض صفحات تأثرت مما كتبت، واندهشت كيف صغت بعض الجمل. أمسكتُ بالدفتر وظل ينبض بين يدي. ومن دون تفكير مزقته وأعدت تمزيقه إلى قطع أصغر، حتى لا أعيد ترتيبه من جديد، ورميته في المزيلة. امتدت صفائح الشمس من خلال الستائر، وافترشتُ السرير والأرض. دافئة قليلاً وضوؤها بمنتهى النبل والنقاء، كأنه اغتسل بماء ينبوع جبلي.
منذ أيام ابتدأ فصل الربيع. اكتست المتنزهات والحدائق بالسوسن الأصفر. الربيع هنا يبدأ باللون الأصفر. السوسن أول الأحياء بعد فصل الشتاء. زرت الأشجار الكبيرة عدة مرات. ما تزال أغصانها عارية وبراعمها ملمومة لا تخاطر بفتح أكمامها. ماتزال متفحمة كضروع الماعز.
تغيرت ملابس النساء خاصة. انفرجت عضلات الوجوه. وبدأ مرح العصافير، جماعات جماعات، ودكنت أصواتها، وتحشرجت بالغلمة. لكن ما تغير حقاً هو المساحة أو دائرة النظر. في الشتاء حيث البرد الرطب وحيث المطر والثلج، لا ينظر المرء عادة إلا إلى مسافة محدودة وإلى الأمام وهو مطرق في أكثر الأحيان. في الربيع تتوسع حدقة العين فتشمل معظم الشارع والسماء والأشجار. يصبح المرء أوسع صدراً، ويتخذ تنفسه عفويته. حتى التسكع في الربيع غير قسري وله طابع الفراشات. القراءة حتى القراءة في الشتاء ادخار، وفي الربيع مشاركة.
كان الشتاء رحيماً بي بصورة ما. كالآخرين منطوياً على نفسي. مطرقاً ومجال نظري قصير. لا أهتم بأحد ولا يهتم بي أحد. لكل عالمه. الأصوات مكمودة تخرج من الأفواه بدفعات من البخار. كنت كالبراعم المتفحمة كضروع الماعز داخل أكمامي. المشاركة هي – كما يبدو – المصيبة التي لم أكن أتوقعها. أزور من؟ يزورني من؟ وكما يفرض كل فصل ملابس معينة، كذلك يفرض أخلاقاً معينة. حتى الأحاديث تتغير من فصل إلى فصل. في البلد الأمّ تكون الفصول امتدادات عفوية لا يشعر بها المرء؛ لأنه تعوّد عليها وأعد لها العدّة. بينما تبدو الفصول لدى الغريب وكأنها أوطان مختلفة ومنفصلة عن بعضها بعضاً. اشتقتُ إلى زوجتي وطفلتي. ليتهما؟ ولم أتمنَّ شيئاً مع هذه العيشة الهامشية.
اشتقتُ إلى كسرة صديق عربي، ومقهى، وأحاديث مفككة «عامي شامي» كما نقول بالعراق. المسافة ليست بعيدة. سرت حوالي ساعة على الأقدام. كان أكرم مع شلة من الأصدقاء في المقهى نفسه في «بركستن». هبّ أكرم مرحباً، إلى باب المقهى. شتم صحابه وقال إنهم ليسوا من طينتك. رجع إليهم والكل ينظر بفضول. ثم اقترح عليّ أن نزور بعض أصدقائه. كان في كل مرة يطلب مني الوقوف على بعد أمتار قبل أن يقرع الجرس. ثم يتكلم بصوت خفيض. زرنا خمسة من أصدقائه. دعاني إلى غرفته المشعثة على وجبة رز. أكلتُ بشهيةٍ. مايزال البخار يصعد من الماعون. كان أكرم موظفاً صغيراً في الإذاعة العراقية. أحاديثه الاجتماعية عفوية لا تمل. حدثني عن مغامراته النسائية، ولاسيما ليلة الجمعة والسبت والأحد. سألته لماذا هذه الأيام؟ وضح لي أن في برکستون سجناً للنساء. ويسمح لهن في الخروج في هذه الأيام وحتى المبيت في الخارج،فيفتشن عن أيّ واحد يهيئ لهن مبيت ليلة. ثم قال لا تنسَ إن النساء يعشقن الأكتاف العريضة وأشار إلى كتفيه.
كان أكرم فعلاً ذا كتفين عريضتين، وطويلاً إلى حد ما. لا يتكلم الإنكليزية حتى ولا بربع طلاقة، وهذا جزء أساسي من شخصيته العفوية المحبوبة. حينما يمشي يرتفع ذراعاه إلى أعلى وإلى أسفل إلى خارج الجسد ولا يتزامنان مع حركة ساقيه. بهذه العفوية واللغة الطفيفة يستحوذ على الفتيات. فإن فشل مرة لا يرتدع كمن يصيد سمكاً بصنارة، لابدّ له من صبر طويل. أوقف فتاة أمامي فعلاً فابتعدت حياء. لم أسمع ما قال ولكنها كانت مبتسمة. كتب رقم هاتفها على راحة يده. نظرت إلى كتفيه هذه المرة بتمعن، كان كريم العين بصورة واضحة. نساء كثيرات يشعرن بحرج من ردع ذوي العاهات. رُوَّضن على كتم وكبح حنانهن، وحين يغدقنه يغدقنه بانهمار. لكن كتفي أكرم عريضتان حقاً، تلمّان صدر امرأة بسهولة. تمتعت غاية التمتع بأحاديثه وكأني أشرب سلافاً.
ذكر كيف عُدِّب في السجن بتهمة الشيوعية. توسل إلى معذبه عدّة ليالي ولم يرأف به. قال المعذب له، هل تذكر قبل ثلاث سنوات يوم كنت أمشي في «الكريعات» مع… تذكر أكرم، قال ضاحكاً: كانت الفتاة التي يصطحبها في غاية الجمال. اندفعت من بين أصدقائي من دون إرادة. أوقفته وقلت له: بعثي متآمر، وبصقت بوجهه أمامها. توسل أكرم إلى معذبه: بصقتُ بوجهك، إذن أبصقْ بوجهي ودعني أخرج. توادعنا بحرارة. قلتُ: هذا الأكرم ملجأ حميم سأتعلم منه العفوية.
بعد ثلاثة أسابيع دُقَّتْ الباب وإذا بثلاثة شبان عراقيين مهمومين. وجوههم متعبة من جرّاء الدراسة والاستحلام. تفضلوا. – أستاذ نحن نحبّك ونحترمك، تصورناك عند كلمتك. لقد حان موعد الدفع منذ أسبوع. – أي دفع يا إخوان؟ – الدَّين. – أيُّ دين؟
عرفتُ ما الذي أوقعني به أكرم، ولماذا كان يطلب مني أن أقف على بعد أمتار من أبواب أصدقائه. توقفت تعابير وجهي كساعة معطوبة. أما وجوههم فكانت وكأنها خالية من أي ود منذ سنين. إذن هيا لنذهب ونواجه أكرم. لم يقترح أحد أن نستقل الحافلة فحمدت الله. كان المطر خفيفاً، ولكن منذ أيام وأنا أعاني من تجمد في قدمي، من جراء ثقوب صغيرة في حذائي. الماء يصعد قليلاً قليلاً إلى الجورب. وضعت قطعة نايلون في الحذاء. أسمع له خشخشة تحت قدمي ولكن لا يصدّ الماء. كان أقسى ما في سيرنا هو الصمت المتورم. حاولت أن ألهيهم عن الموضوع إلى حين نصل فلم أفلح. كانوا فلّاحين أميين قرروا الثأر، فلا يثنيهم عن مرامهم شيء، لدرجة أشعروني بها أنني أسيرٌ لديهم، وكأنني سرقتُ نهود أمهاتهم، وقبضوا علي، حينما كنت أعرضها للبيع. قطعنا نصف المسافة، قال أحدهم لنتنازل عنها هي مجرد ثلاثة جنيهات، ويجوز أن الأستاذ ليس لديه نقود الآن.
قال آخر والله أنا محتاج ولكن…، أما الثالث فابتعد قليلاً وكأنه لا يريد أن يشرك نفسه في الموضوع. استغربت. قلت بنفسي هل كان أكرم محتالاً فعلاً، أم أن أولاء الثلاثة هم المحتالون، فاخترعوا هذه الطريقة لابتزازي؟ لم نرَ أكرم فقد انتقل إلى مدينة أخرى. حُسم الأمر بكره بعضنا بعضاً.
حين رجعتُ إلى البيت، ذهبت رأساً إلى المزبلة وأخرجتُ أوراق مذكراتي قطعة قطعة. حاولت إعادة ترتيبها، فوجدت نفسي متعباً. قرأتُ فيها قليلاً، نصف كلمة هنا، حرفين هناك. لم أجد كلمة واحدة كاملة. شعرت بالتعب وضعتها جميعاً في كيس نايلون ودفنته في الحقيبة. أغلقت عيني كأنني أغلقهما عن العالم. اندسست تحت اللحاف لاعناً كل بداية وكل نهاية، في كل شيء. تسللت أضوية الشارع الذهبية من خلال الستائر المفتوحة. هذه عادة، استجدت في أثناء وجودي في الغرفة. حينما أكون داخل الغرفة في النهار، أغلق الستائر تماماً فأشعر بأمان وأتبادل الود العميق مع السقف والجدران والأرضية والأثاث، وكأني لا أريد أحداً أن يشاركني هذه المحبة الخاصة، وحين أطفئ الضياء ساعة النوم أفتح الستائر، أريد أن أشعر أنني جزء من العالم الخارجي. جزء حي واسع.
لليوم الثاني حيّتني أذرع الشمس المغتسلة بماء الينابيع، وافترشت وجهي ونصف سريري. تنفست دفئها فسرت بلذاذة في كل جسدي. بقيت في الفراش لا رغبة لي في أي شيء بعد ملحمة الليلة البارحة ثم ما من أمل منظور مهما كان بصيصاً. وما من مال مهما كان ضئيلاً. قررتُ أن أصاحب الراديو لأتعلم، والكتاب لأتعلم كذلك. بين كلمة وأخرى ويتكوم عليّ موقف الشبان العراقيين الثلاثة، ووجوههم المتعسّمة المشفوطة بالاستمناءات، ثم سيرنا الطويل الصامت وكأنني سرقت نهود أمهاتهم وقبضوا عليّ حينما كنت أعرضها للبيع. ندهوا فيّعالماّ مرعباّ كان مدفوناّ. نسيته في معمعان الغربة والجوع والفقر وتغير المشاهد والبشر واللغة. حينما رجعت منهم البارحة داهمني ظلام «باترسي بارك»، وبدت أشجاره العارية كسعالي بمئات الأيدي. تكمّشتُ. أسرعت. لا التفت إليها والتفت بتصلب كأنها ستتحرك وتطوقني. اختنقتُ.
سمعتُ صوت أقدام ورائي. تورمت أذناي. أسرعت. كانت تقترب أكثر حين سبقني ظله الطويل، تلوت الشهادة. كأنه اخترق جسمي. عبرني فجمعت نفسي بلهاث ولم أصدق. نحن العراقيين نولد وفي جيناتنا الخوف. نرث الخوف كابراً عن كابرٍ، كما نرث السحنة والملامح والأمراض. سر نكباتنا هو الخوف. حتى استبداد حكامنا نابع من الخوف. وحتى تتأكد الأمهات من فاعلية جينات الخوف، فإنهن يقدمن إلى أطفالهن مع الوجبات الغذائية الطنطل والسعلاة والشرطي والأب. الأب الذي إن غضب يصاب بداء الكلب ويضرب بأقصى ما في عضلة يده من طاقة.
أعاد لي العقل الباطن صورة نازفة بدأت بالفلاحين الجياع كالجراد أيام الفرهود في الناصرية وهم يقطعون الأصابع بالمسحاة من أجل خاتم، إلى صراخ السجناء الذين يُصب الماء المغلي بآذانهم. يعترفون بكل ما يريده السجانون، ومع ذلك يُصبّالماء المغلي بأذانهم. صراخ لا ينقطع وحقد لا ينقطع. تذكرت تلك المرأة الريفية التي زوّقت ابنتها ولم يتجاوز عمرها العاشرة. قالت للضابط جئت بها هدية لك. افعل بها ما تشاء. هدية لك. دِلني فقط أين أخذوا معيلي الوحيد – ولدي، وأنا أرملة.
تجمدت على حين غرة، حين تذكرت ذلك المعلم، وهو يحتل كرسي المدير. دخلت إلى غرفة الأساتذة. سلمتُ كالعادة. الصمت مشحون مرعب. العيون باتجاهي. شتمني المعلم بكل بذيئة. كانت أمي على لسانه قحبة عادية وسحاقية ووالدي قرناناً قوّاداًومأبوناً. رفع السماعة. خاطب منظمته: وصل هذا ابن القحبة الشيوعي. طبيعي «نكسر عينه». يعني نغتصبه. جر مسدسه من حزامه ووضعه على الطاولة. وصرخ: قم انزعْ بنطلونك من الآن. حضّرْ نفسك. سنشقّك شقّاً هذه الليلة.
تعوّذتُ من الشيطان. غسلتُ وجهي. حاولتُ أن أحفظ بعض المصطلحات الإنكليزية، فلم أستطع التركيز. عاد المعلم. وقف وراء طاولة المدير وبيده المسدس. صرخت بكل ما أمتلك من صوت. خذلتني حنجرتي. صوتي شاحب باهت مبحوح. البكاء يملأ حنجرتي«أين أولي من الأرض والسماء»؟ كما قال المعري. لماذا ولدتُ؟ أردت أن أقول له: إن بنطلوني جزء من لحمي، ولن تنتزعه إلا بقطع وريدي. لم أقل له ذلك كان صوتي جافاً التصق بلهاثي. خرج مفتتاً. اتصلت أمامه بكل رباطة جأش: بضابط بعثي احتل منصباً كبيراً في الوضع الجديد. حرّكتُفيهِ أيام طفولتنا بالناصرية. قال: لينزع بنطلونه هو، وكلّمه. ارتخت أولاً يد المعلم وترك المسدس على الطاولة. شحب صوته وجفّ وتفتت. سيدي اعتذر. سيدي أقبّل يدك. سيدي عائلة كبيرة برقبتي. لم يعطني المسدس أحد. أنا لست بعثياً. أنا كما تعرف يا سيدي، لست بعثياً ولكن أنا – كما تعرف – يا سيدي. لا أستطيع أن أقول فالغرفة ممتلئة بالناس. أنا – كما تعرف – يا سيدي منتسب إلى مديرية الأمن العامة، سأعتذر منه، سأقبّل يده الآن. قبّل يدي. ها أني قبلت يده وسأعتذر له.
المشكلة أن الأساتذة جميعاً لا يؤيدون انقلاب البعثيين. نظروا إليّ بشكٍ الآن متصورين أنني بعثي مدسوس بينهم، وتوترت العلاقة بيني وبينهم.
لم تبقَ إلا دقائق قليلة على بثّ «الفصول الأربعة» لفيفالدي من الراديو. كنت قد سمعتها ببغداد، وعشت في طبيعة تخيلتها. قرأت في مجلة الإذاعة قبل خمسة أيام عن إذاعتها هذا اليوم. انشغلت في الأيام الماضية، بقراءة ما استطعت عن حياة فيفالدي، وبعض التحليلات للفصول الأربعة.
كانت الموسيقى التصويرية (Programme music)، أقل رواجاً في إيطاليا منها في فرنسا في القرن الثامن عشر، حيث كانت فكرة الفن على أنها تقليد (للطبيعة)، تُؤخذ حرفياً «كانت الطبيعة ماتزال تتركز في الإنسان، وإخضاع نشاطه إلى عناصر الطبيعة الجامحة». حل فيفالدي مشكلة توليف المحتوى التصويري باللالتزام بصيغة القرار أو اللازمة المتعارف عليها بطريقة بسيطة ومُرْضِية في آن واحد.
انتهى المذيع، وبدأ الربيع وإيقاعات الرقص. الطيور تغني أغنية مرحة. كورس فيفالدي الذي يناسب الطيور يستخدم ثلاثة كمانات منفردة. أما الأقسام الأوركسترالية فقُلّلت إلى عازف واحد. امتلأت أذني بأصوات الطيور البهيجة الخصيبة الخالية من كل نشاز.
– أستاذ نحن نحبّك ونحترمك. تصورناك عند كلمتك. لقد حان موعد الدفع منذ أسبوع. – أي دفع يا إخوان؟ – الدين. – أي دين؟ عادت وجوه الشبان العراقيين الثلاثة المشفوطة بالاستمناءات. ركزت أكثر على الموسيقى. الجداول تسري، تحركها الأنسام الرقيقة. عاد المعلم الكريم العين. المسدس على الطاولة، وفمه محشو بكلمات مصنوعة من التفال. «الرعد والبرق يغلفان الهواء بكفن أسود. اهتزاز الأرغن يصوّر الرعد. النوتات الصاعدة السريعة، وتوقيع النغمات المتعاقبة السريعة تمثل البرق».
عادت الطيور إلى الغناء في الحركة الثالثة بعد أن كانت صامتة. يبدأ فيفالدي بفكرة كثيراً ما توجد في أعماله وتتعلق بالنوم، ومن ثم يعيد ثانية، وبصورة مخففة موضوع الطيور المتكرر. في كونشترو الشتاء يصوّر العازف المنفرد والأوتار الدنيا الراحة. قرب وجاق المدفئة، بينما تمدنا الكمانات بقطرات المطر في الخارج. شعرت بقشعريرة وخوف وحنق وأنا أسير بين هؤلاء الشبان العراقيين الثلاثة. صعدت الرطوبة إلى الجورب. الشرطة، الفراشون، المسؤولون، ينظرون خلالك ولا ينظرون إليك. تكرر السؤال عشرات المرات، والكل ضائع: لا أدري، وما تزال جثة أخي في الطب العدلي ليومين كاملين. سألتُ معاون الشرطة عن ملابس أخي، عن محفظته، عن دفتر مذكراته، عن ساعته الجديدة التي اشتراها قبل أسبوع. لا أدري قال معاون الشرطة، هل جاءكم أخي عارياً؟ استملح المعاون النكتة. ضحك وترك الغرفة. الجثة العارية الآن في الطب العدلي. نحن في انتظار مجيء الطبيب منذ يومين.
وُضع التابوت على السيارة في الطريق إلى النجف. كانت رائحة جثة أخي لا تطاق. شد سائق السيارة «يشماغه» على أنفه. أومأت إلى السائق في ربع الطريق فوقف. قلت له: الرائحة لا تحتمل. رجوته أن يسير خلف طابور السيارات. قبل ثلاثة أيام فقط زرته في بيته في الكاظمية. كان عطر الصابون في جسده وشعره مايزال بليلاً. نظرت إلى ساعته الجديدة وإلى شعر يده الكثيف ونحن في سيارة الأجرة كان مرحاً في سيارة الأجرة. مازح السائق بأخوة وود. قلت له لا تذهب إلى مقهى «البيروتي» اليوم. الغريب أنني عانقته عند الوداع، بحرقة. شبه وداع أخير. ربّت على كتفي، وقال سأذهب بعد ذلك إلى شارع «أبي نواس». بقيت متسمراً في مكاني إلى أن غاب في الزحام. كانت مشيته ممتلئة بالحيوية، كأنه مندفع إلى الترحيب بشخص عزيز منتظر.
وصلتُ إلى البيت، وكان الغبار يملأ الشوارع. أخبرني شخص، لم أعرف صوته: أخوك ضُرب بسكين بذراعه ونقل إلى مستشفى في شارع الشيخ عمر. قال: جرح طفيف. كان الجرح في القلب. آخر ما سمعت ضحكة المعاون وهو يترك الغرفة وأخي عارٍ في الطب العدلي.
عند الدفن، اقترب مني شخص ملتح. همس بأذني: ادفعْ للحفّار هدية عشرة دنانير ليحفر حفرة أعمق. أصابني إصابة عميقة فارتجفتُ. تمنيت في تلك اللحظه أن يُترك أخي بلا قبر ولتأكله الكلاب. إلهذا الحد وصل الخراب؟!
بعد المحاكمة وشهود الزور، حُكم على القاتل بالسجن خمس سنوات. الرشوة مقسمة بين الحاكم والمحامي والشهود. كان والد القاتل موسراً. اليأس التام وحده منع عيني من البكاء. خرجت من المحكمة وأنا اشتم القوانين برمتها. بلغت حد الجنون. قلت لا ينقذني إلا السجن.
الشوارع لا تطاق. الحرية لا تطاق. وقفت أمام وزارة الداخلية. شتمت الوزارة بأعلى صوتي. ثم شتمت عبد الكريم قاسم بأعلى صوتي. تجمهر حولي بعض المارّة، خاب أملي بالسجن. جاء البعثيون إلى الحكم. رأيت عبد الكريم قاسم في التلفزيون مثقوب الجبهة وعيناه مفتوحتان. رأيت الجندي وهو يهزّ رأسه الميت من شعره.
بكيت وللدموع في عيني فعل الوخز والنخس. أطفأت آلات فيفالدي، في الراديو، وخرجت لأتنفس هواء غير هواء غرفتي. اختنقتُ وكأنّ حبلاً يُشدُّ على عنقي.
