استيقظتُ كالعادة مبكراً. نظرت إلى السماء، كانت «السحب تركض في الفضاء الرحب ركض الخائفين» كما قال إيليا أبو ماضي، وممطرة. داكنة. البارحة تركت للشمس الستائر مفتوحة لتدخل من خلال زجاج النافذة المنغلقة. أصبحت الشمس تتحكم بمزاجي كله. ليتني تحت شمس العراق لساعة. لا ألوم عبدة الشمس بعد اليوم. رجعت إلى الفراش مخذولاً لأنام، فما من شيء ينتظرني إلا القراءة وحفظ مزید من الكلمات.
الكلمات الجديدة مخلوقات غريبة وأنانية لا تشرك معها شيئاً، وألدّ أعدائها الخوف والقلق. لا تنبت إلا في الذهن الصافي، وتحتاج إلى كثير من المداعبة والملاعبة والتغزل بها حتى ترسخ. لا ترسخ الكلمات إلا إذا أطمأنت إلى الترحيب بها، ترحيباً خاصاً. الكلمات كالبشر. بعضها ليّن مطواع. بعضها يقدم إليك نفسه بكرم وطواعية. بعضها لئيم يتكبر عليك، وبعضها يستغلق ويستعصي. بعضها يزعل من لكنتك الأجنبية فيستجيب للحفظ كالمأجور، وبعضه يطرب لجرسه المختلف. ما من شيء ينتظرني. ولم أتوقع فرجاً من أي نوع. ليتني أنام أياماً بطولها ولا استيقظ إلا على معجزة.
بين اليقظة والنوم، عنفت نفسي أشد تعنيف. لماذا انصعت للعراقيين الشبان الثلاثة؟ لماذا رحبت بهم؟ لماذا أعطيتهم شاياً؟ لماذا ذهبت معهم؟ ندمت تماماً على ذلك السلوك المشين. ألم يكن بمقدوري أن أقول لهم بحزم صادق: هل أعرفكم؟ هل استدنت منكم؟ راجعوا البوليس إن شئتم. ثم أغلق الباب، وأنا مطمئن. لكن الإشاعات على لسان العراقي تأخذ طابع الهتك والتدمير. ألسنة العراقيين أسلحة فتاكة لا يسلم منها حتى الصديق. انهارت ثقتي بنفسي، وحين انقلبت إلى جهة الحائط، دُقَّباب الغرفة نقرتين خفيفتين مهذبتين. موسقت سيدة البيت صوتها وقالت حمل البريد لك بعض الرسائل. دفعتها من تحت الباب. أربع رسائل مرة واحدة.
الأولى من إذاعة لندن والثانية بلا طابع، والثالثة من العراق والرابعة من لندن. لا أدري لماذا استفزت أعصابي. اقترحت على نفسي أن أفطر أولاً، وأقرأها بعد كوب الشاي الثاني. شربت السيكارة بتلذذ حالم.
كانت رسالة المخرج الإذاعي الفلسطيني مكتوبة باللغة الإنكليزية. لغة عملية تماماً وكلها احترام. أعجبت بهذا الفلسطيني الذي يطعّم كلامه دائماً بجمل إنكليزية طويلة. شريف مع الفتيات ويتحدث إليهن بلباقة كبيرة ودماثة يخفیان قهراً دفيناً. حين يلتفت إلي، تتحنن نظرته، وكأنه يتذكر تشرّده بالقاهرة بعد نكبة فلسطين. يسألني في رسالته أن أكتب له أربعة أحاديث قصيرة لا تتجاوز مدة كل واحد منها أربع دقائق. وكلها مرهونة بنجاح الحديث الأول عن ابن المقفع.
الرسالة الثانية من سيد البيت وزوجته يدعوانني فيها على أكلة «کاري» بمناسبة زيارة ابنتهما وحفيدهما الوحيد. سيكون الغداء يوم السبت المقبل أي بعد أسبوع. الرسالة الثالثة من زوجتي أجلّتُ قراءتها حتى أتفرغ لها.
عجبت من الرسالة الرابعة موقعة من قبل ذلك التلميذ. لغة الرسالة مهذبة موزونة، مروضة بالجمل الاعتراضية. أحسست أنه يخاطبني إنساناً حقيقة. يسألني إن كان لديّ وقت لقبول دعوة جونثان وزوجته في بيتهما على عشاء. قال إن زوجته وكذلك شقيقتها أعجبتا بي. كتب في نهاية الرسالة ملحوظة: سأعرفك على شريكتي الجديدة، ولديها فضول كبير للتعرف على عربي. أرفق مع الرسالة خريطة المنطقة والعنوان وأفضل طريقة للوصول إليه بالحافلة أو بالقطار. ثم رقم هاتف جونثان، في حالة عدم تمكني من إيجاد طريقي.
أكاد أعرف خط سميرة حتى وإن كنت نصف مغمض العينين. الكلمات تبني جية. أغمضت عيني نصف إغماضة وأصغيت إلى الكلمات. موسيقى خافتة حنون. موسيقى غاضبة أشد حناناً. قرأتُها عدّة مرّات. هل صعب على الله والدنيا أن تهيئ لنا لقاءً وإن كان قصيراً؟ أريد أن أعتذر إليها عن خيبتي. أنا إنسان خائب.
تصورت أن الأيام بعد ثورة 1958 ستكون لبناً وعسلاً فتزوجت. لماذا غررت بها بالشعر. كنت أنانياً، كالسماك الذي يغري السمك بالطعم. أغريتها بالشعر وفرشت لها طريق المستقبل بالورود. صدقت المسكينة شعري وتحرك خيط الصنارة، فجذبتها. ليتها تصدِّق الآن أني إنسان مدحور. أخاف من البومة التي أهداها لي سيد البيت وزوجته. مازلت ألفّ رأسها بالمنشفة ليلاً فتبدو لي كمومياء، كرأس إنسان مكفن. أخاف من كل خطو يسير ورائي في الليل. انغرزت السكين في ظهر أخي من الخلف. أحمل سكيناً أبدياً في ظهري.
هل صعب على الله والدنيا أن تهيئ لنا لقاءً وإن كان قصيراً. أريد أن أعتذر لها واقبل ابنتي وأشمّها وأحضنها، ثم لا يهم بعد ذلك إن عشت أو متُّ. تعتم كل الماضي في عيني واختلط كبحر مظلم. لم يبقَ منه سوى بصيص فنار. أنتِ الفنار يا عزيزتي سميرة، ولكن ما العمل؟ هل أعود من أجلك؟ أم أبقى بعيداً من أجلك؟ لا نلتقي إلا بمعجزة أين سأعثر على المعجزة؟ منذ طفولتي وأنا أفتش عن «عرق السواحل»، وطاقية الإخفاء. وضعت الرسالة تحت المخدة وكنت في أشد حاجة إلى حرز.
في العاشرة والربع. دُقَّ باب الغرفة على عجل. صوت سيدة البيت مرة ثانية: شخص يطلبك على الهاتف. الفلسطيني الذي نشرت في مجلته مقالة عن نزار قباني. – أريد أن أزورك بعد ساعة، هل لديك مانع؟ – أهلاً وسهلاً. قلتها ولم أعنها. – لدي مقالة ترجمتها البارحة عن “منطقة البحيرات” وأريدك أن تدقق في الترجمة. – لكن لغتي الإنكليزية لا تساعد. – لا. أقصد إصلاح أخطائي اللغوية والأسلوبية. يجب أن أسلّم المقالة هذا اليوم في الساعة الثانية. رجاء تفرّغ ْلي.
سحرتني منطقة البحريات وقصيدة ورد زورت عن السوسن البري. لم أجد أخطاءً كثيرة في القواعد. قدّمتُ وأخرّتُ قليلاً. ورجوته أن يرسل لي نسخة من المجلة لاقرأ المقالة بتمعنٍ. قررت في سرّي أن أزور منطقة البحيرات حالما يتيسر الحال. قام على عجل، ووضع في يدي مظروفاً مغلقاً كتب عليه بالإنكليزية: المستر نيازي المحترم. قال لي لا تخبر أحداً قط رجاء. ذكرتُ له أن لغتك جيدة وفوق المستوى، ولكن يبدو أن أصدقاء السوء أفقدوك الثقة بنفسك. ضحك مؤكداً ما ذهبتُ إليه، وقال رجاءً لا تخبر أحداً قط.
رأيتُ داخل الظرف ستة باوندات ورسالة شكر بالعربية، ويرجوني فيها أن أساعده في المستقبل. كتب في آخر الرسالة ملحوظة يذكر فيها أنه حثّقريبه في الإذاعة للاستفادة من معلوماتي الأدبية. اشتريتُ حذاءً على الفور. وأكلت «شاورمة» وحمص بطحينة مع «السلاطة» «والطرشي» في مطعم يوناني قريب. شعرت بلذة الأكل تسري في كل جسدي وتنزل إلى أخمص قدمي. شربت شاياً أسود وثنيته بآخر. النشوة، النشوة تتشكل وحين وصلت أقصى كمالها، شعرت بإثم. كيف أفرح ولا أدري ما حل بزوجتي وطفلتي الآن. كل طارئ ممكن.
منذ طفولتي وأنا أتوجس خيفة من الفرح التام، وانعته دائماً بالطيش. معادلة بسيطة وربما سخيفة ولكنها أساسية. الفرح الغافل طيش. الفرح الطائش غفلة.
كان أخي الذي قُتل في أقصى انتشاء حين زرته ببيته بالكاظمية في ذلك اليوم المشؤوم. نظرت إليه أمي وإلى قامته الطويلة المتناسقة نظرة مسحورة. نجح من كلية التجارة بتفوق وها هو موظف. انتقل – بعد سنين طويلة من الكدّ – من مرحلة الفقر، إلى مرحلة الملابس الجديدة، وتعطير الذقن بعد الحلاقة. سهوت وأصابتني عدوى النشوة، وحين كنا في سيارة الأجرة، نظرت إلى وجهه عدة مرات. أردت أن أطبعه على ذهني. أغمض عيني وأحاول رسم ملامحه ملمحاً ملمحاً. أفتح عيني لأتأكد، تأكدت من كل شيء تماماً. وقبل أن نتوادع ألقيت على وجهه نظرة شاملة مدققة، فارتبك، وأصفرّ قليلاً. لا أدري لماذا افترضت أنني قد أنسى شكله إن مات. الأموات أشدّ مخلوقات الله أنانية. كلما زاد حبك زادت أنانيتهم. يراقبونك. يترصدونك. تتصورهم في كل مشهد ويطلعون عليك في الظلام أشباحاً. تسمعهم يتحدثون إليك. تلتفت فلا تجد أحداً. ينقلبون إلى قوى شريرة يفاجئونك حين تبلغ نشوتك أقصاها. كأنهم يعاتبونك على نقض العهد بينك وبينهم على عدم نسيانهم. حياتك إما مأتم وإلا فلا. الغريب أن الأموات مهما كانت معزتهم، كائنات مرعبة، خاصة إذا زاروك في الحلم. ترتعد وتتصبب عرقاً، وتتلمس أعضاءك لتتأكد من وجودك. الحلم بالأموات شؤم، يورث الهواجس.
ذهبت إلى مكتبة كلية الدراسات الشرقية والأفريقية التابعة إلى جامعة لندن، لكتابة نبذة عن ابن المقفع. رغم أنني درسته في جامعة بغداد وحفظت منه مقاطع في دروس المطالعة في الثانوية، إلا أن معلوماتي لا تكفي لكتابة حتى ولا عشرة أسطر. أين ومتى ولد؟ ما ثقافته؟ ما مؤلفاته؟ بمن تأثر؟ ما تأثيره ومكانته؟ متى طبعت كتبه وأين؟ متى مات وكيف مات؟ كانت معلوماتي التي تصورتها مرضية وشاملة عن ابن المقفع لا تكفي للإجابة عن تلك الأسئلة باطمئنان. كنا نقرأ الأدب لنجتاز امتحاناً، ونعلمه للتلاميذ ليجتازوا امتحاناً. أما كتابة حديث فمسؤولية. يجب أن أدقق فيما استعمله من كلمات وآراء. يجب أن تكون كلماتي منتقاة، وآرائي غير جازمة مهما كنت متأكداً من مصادري. علمني تلميذي أهمية الجمل الاعتراضية التي أسميها خطوط الرجعة. علمني اللايقين حتى في اليقين. قلت لأقرأ الأدب الصغير والأدب الكبير وكليلة ودمنة حبة حبة وبتأنٍ. القراءة لا تُخصب إلا إذا أصبحت نوعاً من الكتابة.
تذكرتُ تلميذي وهو يسألني عن كل شاردة وواردة. ولكن المسألة تختلف مع ابن المقفع؛ لأنه لم يكن مبدعاً يستلهم نصوصه عن طريق العقل الباطن، ولا تختلط في نصوصه الحواس. كان أديباً بالمعنى العام للكلمة، ولكنه لم يكن أديباً حقاً. صحيح أن أسلوبه متقن وكلماته بمقاس الأفكار إلا أنه لم يكن أديباً. كان أهم من ذلك. أهمية ابن المقفع تتجلى أكثر ما تتجلى في حرصه الشديد على خلق إنسان متحضر وحاكم حكيم. كان الصراع بين البداوة والحضارة على أشده في زمانه. نظر في المجتمع، نظر في السلطة والحكام، فوجد خللاً. بدو يعيشون في مدن. يمكن اعتبار ابن المقفع من أوائل، إن لم يكن الأول في تاريخنا القديم الذي فكر بصناعة الإنسان المتحضر. أراد أن ينقل المجتمع من طور إلى طور. قد تنطبق عليه صفة التربوي العقلاني أكثر ما تنطبق عليه صفة الأديب المبدع. ظهرت صفة التربوي العقلاني في أسلوبه. سلساً، متهادياً. ليس ساخناً ولا بارداً، ولكنه أبعد ما يكون عن الفتور. وهو أشبه ما يكون بأسلوب طبيب وهو يخبرك عن أسباب المرض والطرق الأكثر نجاعة لعلاجه.
كان ابن المقفع طبيباً بهذا المعنى. قارنه الباحثون للأسف بالجاحظ وفاضلوا بينهما. ولكن الجاحظ أديب وابن المقفع فيلسوف تربوي. تساءلوا بأيهما يبدأ النثر الفني عند العرب؟ ورغم أن التساؤل في غير محله، إلا أن بعض الباحثين جنوا أكثر حين ذكروا الشعوبية، فحاولوا طمس ابن المقفع وإعلاء الجاحظ.
لم أكتب كلّ هذا في الحديث. اقتصرتُ فقط على سيرته، مكان ميلاده، مكان وفاته وكيف قتل؟ أهم مؤلفاته. وقرأتُ بعض المقاطع للتدليل على أسلوبه الرفيع. لكني ذكرت مكانته في التربية، ولمّحت إلى خطل إدخال الشعوبية. أحب المخرج الفلسطيني الإشارتين. كانت ترين على وجه هذا الفلسطيني كآبات شتى، تذكرك ملامحه المتأزمة بحيف نزل به من جرّاء ضياع فلسطين، وها هو الآن يتحمس لتشخيص أيّ داء، ويفرح بلا انقطاع إن سمع علاجاً. قال لي بودٍّ كيف تعلمت اللغة العربية؟ قلت له مثلما تعلمت أنت اللغة الإنكليزية. دعاني لشرب شاي، وقدمني إلى مخرجين آخرين، طلب مني وأنا أودعه أن أكتب نبذة عن مقامات بديع الزمان الهمذاني.
لم أهتم بالنثر العربي سابقاً. كان علينا أن نقرأه في المناهج المدرسية، ويطلب منا أن نحفظ مقاطع منه وهذا أقصى اختبار. اعتبرته أقل شأناً من الشعر. وهذه مسألة لم تكن موضع نقاش من قبل. لكنّانكبابي على النثر الإنكليزي لتعلم اللغة، فتح عيني على أشياء كانت خافية عني. فبسبب ضعف لغتي الإنكليزية، كنت أطالع النثر بتأنٍ. أتابع الفكرة كيف تبدأ وكيف تتطور وتستوي.
قدرة الشاعر في التأثير، وقدرة الناثر في الإقناع. الأول يتوصل إلى هدفه عن طريق العاطفة، والثاني عن طريق العقل. كنت اقترب في هذه المرحلة إلى العقل أي مرحلة النثر، نتيجة غربتي وظروفي المعيشية. ما سحرني بالنثر الإنكليزي أكثر، هو إيقاعه الناجم لا عن جرس الكلمات، بل التقديم والتأخير والمفاجأة، الجمل الاعتراضية، خطوط الرجعة، المداورة، ولكنها تطرح جميعاً، وكأنها عفوية وغير مقصودة.
حين قرأتُ على ضوء النثر الإنكليزي؛ ابن المقفع، وبديع الزمان الهمداني بلندن أصبح لهما طعم مختلف كلية. هل كان ذلك بسبب طريقتي الجديدة في قراءة النثر؟ لا أدري. وصفتُ نثر ابن المقفع بأنه «غير ساخن وغير بارد، ولكنه أبعد ما يكون عن الفتور»، وهذه أحدى صفات التجربة المختبرية التي يتحلى بها النثر الإنكليزي. التشابه الآخر، هو ما يحصل عليه قارئ ابن المقفع من متعة وفائدة، وهذا أقصى ما يطمح إليه الناثر الإنكليزي: المتعة والفائدة. عليهما يقوم الفن. ربما يعتبر بديع الزمان الهمذاني، أول أديب استثمر عنصر التوقيت أو التزمين في الأدب العربي. فمن خلال تزمين حدثين متضادين، أخرج لنا الهمذاني مسرحاً جذاباً ساخراً بلا لؤم، وضاحكاً بلا شماتة. قلت مسرحاً؛ لأن المسرح عموماً، والإنكليزي خاصة، يعتمد كل الاعتماد على التوقيت في تصعيد الأحداث إلى أعلى ذروة لها.
الفضل، في الواقع لابن المقفع والهمذاني، في تحبيذ النثر العربي اليّ، وهما اللذان فتحا لي كنوزاً كانت خافية عني. من يومها انغمرت بتلذذ وإعجاب في إيقاعات النثر، مندهشاً وكأني اكتشفُ أنفسَ اللُّقى.
كتبتُ رسالة باللغة الإنكليزية – وهي أول رسالة لي بهذه اللغة – إلى تلميذي، معتذراً عن تلبية دعوة جونثان وزوجته. نقّحتها عدّة مرات. صعدت إلى سيدة البيت، ورجوتها أن تصلح لغتي. ضحكت حتى كادت تسقط أسنانها الاصطناعية. قالت ألا تدري أنني حرمت من التعليم بسبب الحرب العالمية الثانية. أخرجونا من المدارس وأدخلونا المعامل. التفتُ إلى سيد البيت وكان يسعل كحيوان مسنّ. قالت لا فائدة، فهو كثيراً ما يسألني عن بعض الكلمات. نحن نقرأ ولا نعرف كيف نكتب. عندها قررت تلبية دعوة جونثان ولم أكن راغباً فيها. مع ذلك كنتُ فضولياً للتعرف على بيت إنكليزي من الطبقة المتوسطة.
كنت تصورت، أن ما من أحد في الجزر البريطانية لا يقرأ ولا يكتب. جريدة «الديلي ميل» تصل يومياً إلى البيت. أرى سيد البيت وسيدته يقرآنها باستغراق. يرجعان إلى القاموس بين الحين والحين. يعلقان على ما يقرآن باقتضابٍ. هل من المعقول أن يكونا أميين؟ سيدة البيت بالذات تشتري قاموس أكسفورد كل سنة وتحرص على معرفة الكلمات بدقة. غير أن أحاديثهما خالية من أية إشارة إلى أي كتاب أدبي أو فني. يعرفان المناطق السياحية في مدينة «ستراتفورت – ابون – ایفن» ولا يعرفان مسرحيات شكسبير إلا بالاسم. أغلقا باب السياسة بوصف السياسيين بأنهم «محتالون». لم أسمع منهما طيلة الأشهر الماضية كلمة غيبية واحدة، ولا يخافان من أية قوة غيبية، ولا يتكلان على أية قوة غيبية. حياة تبدو ميكانيكية، إلا أن الجلوس معهما مريح. لا تنافس. لا تنابز. لا افتخار بماض شخصي، ولا استعلاء بإنجاز، ولا تفاؤل أو تشاؤم من مستقبل. مع ذلك فهما يطبقان ما يقوله الخبراء تطبيقا حرفياً، كالإمّعات، وخاصة فيما يتعلق بالنظافة والصحة. الحرب قائمة ٢٤ ساعة ضد الجراثيم. المطبخ ممتلئ بأنواع المطهرات، وكذلك الحمام. أخذا نصيحة الأطباء بضرورة التهوية حرفياً. ينزل البرد صفائح حادة وصفائح مسنونة من شباك المطبخ. المطبخ ثلاجة. ألمنيوم الحوض يشع برداً. ينزل البرد بكامل رياحه، وينسل إلى غرفتي من أسفل الباب واسمع له صفيراً. يفتحان شبابيك غرف النوم قليلاًعند النوم. مع ذلك تغنّي سيدة البيت يومياً عند إعداد الفطور.
لم أشمّ يوماً رائحة طبخ، ولم أسمع قلياً أو فرقعة. عرفتُ أن سيدة البيت ستطبخ «الكاري» بحسب التعليمات. لديها أكثر من أربعة كتب عن الطبخ. بينها واحد عن الطبخات الشرقية. ربما لم تستعمله من قبل. لكن ستستعين به غداً من أجلي. وستطبخ الرز من أجلي. الموعد الساعة الثانية والنصف بعد الظهر، وأنا أجوع عادة من الحادية عشرة مهما كان فطوري متأخراً.
لم أشمّ رائحة طبخ، ولم أسمع قلياً أو فرقعة. نحن بالعراق، نأكل بثلاث حواس مرة واحدة. نأكل ونشرب بحاسة الشم. أفضل الشاي ما كان عطراً. نشمّ الخبز قبل أن نأكله. نشمّ البرتقال ونغرز فيه القرنفل قبل أن نأكله وكذلك البطيخ والشمام. وما أزكى راحة الرز العنبر. لابدّ من رائحة في الأكل حتى وإن كانت منفّرة. يطيب لنا الرزّ الغابّ، نبيّته ليلة، ونأكله بشهية صباحاً. نجفف السمك، المسموطة، ونأكل رائحته المميتة. «كل عطور العرب لا تزيل رائحته من اليدين»، كما يقول شيكسبير في مسرحية مكبث. نأكل بحاسة الذوق كذلك. يجب أن يكون الأكل مُملحاً لدرجة المرارة، ومُتبلاً لدرجة إطفائه بجرعة ماء، وحارّاً لدرجة اللسعات في اللهاة. لا نشرب الشاي الأسود إلا وربعه سكّر. خمرة «العرق» المصنوع من التمر لهيب حقيقي في الحنجرة، ولا نشبع من حلاوة التمر، ونمصّ عظام رأس السمكة. كذلك نأكل بحاسة البصر. يجب أن يكون الأكل وافراً، وفي ولائمنا تتربع جثة خروف كاملة على تلٍّمن الرزّ، ورأسها مفصول مركون إلى أمام الصينية. أظلافها نظيفة ملساء خالية من أية شعرة.
الفلاحون في العراق يضيفون حاسة رابعة في الأكل: حاسة اللمس. يقطّعون الخبز واللحم بأيديهم، وأصابعهم هي الشوكة والملعقة. يمصّون أصابعهم واحداً واحداً، وينظفون بقايا الطعام بين أسنانهم بألسنتهم، وأفواههم مفتوحة. لم أشمَّ في هذا البيت رائحة طبخ، ولم أسمع قلياً أو فرقعة، واليوم ستطبخ لي سيدة البيت «كاري» في الساعة الثانية والنصف بحسب تعليمات كتاب «الطبخ الشرقي». من أين ستأتي بالبهار؟ كنا حول المائدة سيد البيت وسيدته، وابنتهما «ديانا» وزوجها «هاري» وعلى كرسي صغير ابنهما «ستيف» البالغ من العمر خمس سنوات.
جاءت ديانا وزوجها قبل أسبوع وسيبقيان لثلاثة أسابيع أخرى. جميلة، رقيقة، صبية. تنظر بدعة كممرضة حنون، غير أنها تبدو مشدوهة، ملامحها خالية من أيّ احتجاج، أو تمرّد. غير متحمسة لشيء. لغتها قليلة ومقتصرة على تمشية الأمور. زوجها هاري ذو ملامح منشغلة كأنه متأخر عن موعد. لكنته لا تفهم. وجهه مشرّب بالحمرة المحتقنة، سمين قليلاً ويأكل بشهية متلذذ لا جائع. هاري كذلك بمعاييرنا الشرقية أُمّيٌّ. لا يخطر بباله أن يقرأ كتاباً، أو يحضر حفلة موسيقية أو عرضاًمسرحياً. ينام في الساعة التاسعة ليلاً كاقنوم ثابت. سمعته مرة يتحدث عن الألوان. كان صاحب مخزن لبيع الأصباغ. كان يُري حماته «كاتالوك» الألوان. لكل لون عشر درجات مختلفة يعرفها جميعاً. يعرف أسماءها بيسر. يعرف انسجاماتها وتنافراتها، وأيّها أصلح للخشب أو الورق. يعرف أنواع الخشب وشجره، وأين يزرع ومن أين يستورد وأهم شركات الاستيراد وأرخصها. كانت سيدة البيت تفكر بتغيير لون جدران مدخل البيت والمطبخ.
الصحون منسّقة على المائدة. إلى أمامها الملعقة، وإلى يمينها السكين، وإلى يسارها الشوكة. تصورتُأن صحن الرزّ سيتصدر المائدة ويفوح منه البخار. مرّت سيدة البيت بقدر صغير على الصحون غرفت ملعقتين ونظرت إليّ مستفهمة، ملعقة ثالثة؟ تكوّم الرز ثلاث كومات صغيرة في وسط الصحن. حباته متلازّة، منتفخة مفطورة، وبيضاء بيضاء بياض كرشة خروف. الرز دافئ أقرب إلى البارد. انسدت شهيتي على الفور. حين جاء دور المرق المتبّل أي الكاري. شعّ وجه سيدة البيت بحبورٍ أقرب إلى الزهو. وربّما الغرور.
نزل المرق في الصحون بتوءدة. كمن ينقل شيئاً ثميناًقابلاً للانكسار من مكان إلى مكان. ملأ المرق ثلث الصحن. لونه بني غامق، تدخل فيه الملعقة، كما تدخل في دبس. أربع لحمات عَداً صغيرة ولحمة طويلة. مدفونة كلها تحت الدبس کرؤوس مخلوقات سابتة تخرج من برك طينية لزجة. قرّبتُ قطعة اللحم الأولى من حافة الصحن وانتشلتها بالشوكة. ذابت أو كادت مثل كومة سكر مبلل. أو حلوى تموع، على أصابع الشوكة. وضعتها على حافة كومة الرز الأولى تمهيداً لحملها مع جزء من الرز إلى فمي. أغمضتُ عيني وبلعتُ اللقمة الأولى.
الرائحة زنخة مقرفة، أين المتبلات؟ أين الملح؟ وضعتُ كمية لا بأس بها من الملح، حتى أحس بطعم ما. تظاهرتُ بالمضغ – مضغ الخبز خاصة. حتى أطيل المسافة بين لقمة دبس الكاري وكرشة الرزّ البيضاء، وأخرى. شربتُ ماءً ببطء وكأني أشرب نغبة ويسكي. قلت لأتلهى باللحمة الطويلة، وأقطعها إلى أربع قطع قتلاً للوقت. أمسكتُ بالسكين بيدي اليمني بحسب الأصول. وغمست الشوكة فغاصت أصابعها فيها ولم تمسك شيئاً. اللحمة ذائبة تماماً. أدرتُ الشوكة وجعلتها على هيئة ملعقة، باطنها إلى الأعلى. وبمساعدة السكينة استطعتُ أن أجعلها تستلقي في باطن الشوكة. ونقلتها قرب بقية الكومة الأولى من الرز. ما حدث بعد ذلك، شيء لا يصدق. قلتُ ما هذا يا سيدتي؟ قالت: موز. ضبطتُ لعناتي وقلت: هل هذا مكتوب في كتاب «الطبخ الشرقي»؟ لمعت عيناها بزهو وغرور وقالت: وضعته حتى يُطفئ حرارة التوابل. – إذن أنتِ مبتكرة. يجب أن تسجلي براءة الاختراع باسمك. ضحك الجميع، وأكبروا فيها المبادرة والمغامرة، وتقبلت اعتزازهم بها بإطراقة طفلة خجول.
لقد قتل هؤلاء القوم حاسة الذوق. بالأكلات الخفيفة، وخاصة الساندويج. مطاعم صغيرة تقتصر على بيع الساندويج البارد. خبز أبيض رقيق مقصوص بهندسية شطائر لحم نيئة، أو شرائح سمك. يخرجونه من الثلاجة. وتأكله بلا تطعّم، كأنك تسد جوع معدتك بحشوات من القطن، خالية من أية رائحة. قتلوا حاسة الشم أيضاً.
يشربون الشاي بلا سكر ولا يذرّون فيه الهيل. معظم أورادهم وزهورهم خالية من الرائحة. حتى ورد الجوري كذلك، وما زكا منه نادر وغير حاد. ثم إنهم قتلوا حاسة اللمس باستعمال الملعقة والسكين والشوكة.
طيلة الأسبوع الماضي لم أسمع كلمة تدليل للطفل ستيف. لم يحتضنه أحد. لم يقرصه أحد بمحبة. كانوا يعلّمون هذا المخلوق الأصول، ويلقنونه الخطأ والصواب. عوّدوه على أن ينام وحده في غرفة خاصة، وفي الساعة السابعة مساء. تقرأ له ديانا كل يوم قصة وينام على صوتها من دون احتجاج. إنهم يبرمجون الطفل ويعلمونه الاعتماد على النفس وتحمل المسؤولية.
ربما لهذا السبب تعودوا على احتضان الدمى القطنية وجني القطط والكلاب. عمم الأطباء قبل سنين تعليمات إلى الممرضين والممرضات بلمس المرضى؛ لأن ذلك يساعدهم في الشفاء. وذكرت بعض الصحف الجادة أن ثمانين بالمائة من مرضى القلب تخف متاعبهم أكثر، لو كانت لديهم كلاب. وسردوا قصة رجل كان يعاني من سكرات الموت، ورجا أن يرى كلبه قبل أن يموت، وحين لمسه دبت بأوصاله الحياة من جديد.
على أية حال، كيف انعکس قتل الحواس الثلاث هذه في الشعر الإنكليزي: في الرواية، في الرسم، في النحت؟ قررت أن أرصد ذلك في السنين المقبلة. قلت بنفسي لن تستطيع الحضارة الأوروبية مهما أوتيت من قوة وتقدم، أن تقتلع مني حاسة اللمس. بعض سور القرآن العميقة التأثير مكتوبة بحاسة اللمس. معظم شعر أحمد شوقي مكتوب بحاسة اللمس. أرق الصور الشعرية الشيكسبيرية مرسومة بحاسة اللمس. ستتعطل كتابتي لو فقدت حاسة اللمس. بها أرى وأسمع وأشم وأتذوق. إنها كل حواسي. لا تستطيع أن تعبر عن الحنان إلا باللمس. ولا تعظم الحواس الأخرى إلا إذا أصبحت لمساً. الموسيقى العظيمة تلمسك وتنتشر في جسدك. الرائحة الطيبة تلمسك وتخدرك فتغمص عينيك. ترى لوحة، تستطيل ألوانها، تجذبك وتجذبك إلى أن تلمسك فيصطبغ وجهك بها. تذوّقُ فاكهةٍ ناضجة، أو شفةٍ عزيزة حبيبة، أو حلمة فضولية، لمس مسحور.
دُقّ الباب بحياء. كنت على وشك نهاية قصة قصيرة لسومرست موم عنوانها «الشاعر». لغة سلسة خالية من الإدهاش أو المفاجأة أو التنميق. مع ذلك كانت معالجة «الوهم» فيها، معالجة مختبرية دقيقة ومتقنة. لماذا غاب الوهم في أدبنا؟ نكاد نعيش الوهم من الصباح إلى المساء، ولكننا ما استفدنا منه في آدابنا وفنوننا. نبالغ أشد المبالغات في الشعر، ونحلم ونحن صاحون، إلا أننا لا نعالج الوهم كواقع ملموس. – ادخلْ. دخلت ديانا بأزهى ثوب. عيناها الزرقاوان شطّان صافيان، وشعرها الأشقر المخضل كمجسات خزامی، نبّاضة مع أدنى حركة. – هل يمكن أن ترافقني إلى السينما هذه الليلة. بودي أن أرى فيلم THE TIME MACHINE. سيذهب هاري هذه الليلة لحضور لعبة كرة قدم.
وقف شعر رأسي، وأصبت بالقشعريرة والحمى. ارتفعت يداي بحركات غير مترابطة تقوية لما اندلق من فمي من غضب. إنني إنسان شريف ولا يمكن أن أخون صديقاً، قلت ذلك ولم أتوقف. قلت كذلك أنا عربي ونحن العرب معروفون بالشرف. لم أخنْ صديقاً مهما كان، طيلة حياتي. ذُعرتْ ديانا. ازدردتْ غصة. قالت شكراً،وهربت. قررتُ الخروج من البيت هذه الليلة. دُقّ الباب ثانية بتصميم. ادخل. دخل هاري. كنت قد أكملت حلاقة خدّي الأيسر. ضغطت على صوتي محاولاً كتمان سر ديانا عنه.
تعرفت على هاري في أول يوم وصولهم قبل أسبوع. وفي تلك الليلة نفسها ذهب لمشاهدة لعبة كرة قدم بين فريقه المفضل تشلسي وبين مانشستر يونايتد. ذكرت عَرضا أني أحب «مانشستر يونايتد». أُخذ على حين غرة، وسكت بلا تعليق. ظن أن ضعفي في اللغة الإنكليزية هو دليل دامغ على جهلي. لكن قبل ثلاثة أيام، حينما دعاني سيد البيت على ساندویج وشاي. عرف أنني أحب مانشستر يونايتد حقاً، وأنني أتابع أخبار الفريق والمدرب والنادي. تخيلت أن هذا خير باب لفتح الألفة بيننا ما دمنا نحب كرة القدم، إلا أنه راح يقرأ في صحيفة. غمزت لي سيدة البيت. لم أفهم المغزى. في اليوم التالي حدثني سيد البيت. كانت كلماته أشبه بالتعليمات. حذرني من طرق موضوع في الرياضة، غير موضوع تشلسي. هاري يراهن عليه كل أسبوع. إذا خسر الفريق ينقلب إلى وحش كاسر، وتتكدر حياته ليومين أو ثلاثة.
حينما كنا حول المائدة نأكل الموز بالكاري، كان هاري قليل الكلام يتجنب النظر إليّ. – لماذا رفضت أن تأخذ زوجتي إلى السينما؟ سأذهب هذه الليلة لمشاهدة فريق تشلسي ضد ليفربول. قال تشلسي بتحدٍّ وثقة بأنه سيفوز، وأشعرني في الوقت نفسه، أنني سأكون مسؤولاً لو خسر.
خفتُ حقيقة وتقلصتُ. – إنني إنسان شريف ولا يمكن أن أخون صديقاً. أنا عربي ونحن العرب معروفون بالشرف. وأضفت: والوفاء للصديق. لم أخن صديقاً مهما كان، طيلة حياتي. جمع فمه وزمّه كمنقار معقوف، كأنما جمع آخر لعنة ونفض جملة: “لا تكن سخيفاً” نفضاً بوجهي وغادر بلا ودٍّ. حلقتُ الخد الأيمن بيد مرتجفة. لماذا يريدون أن يختبروني؟
خرجتُ إلى الشارع مشدوهاً. بلحظة واحدة انقلبت إلى بدويّ يدافع عن شرفه وكأنه ثلم. أعدت المشاهد مرّة ومرّة فتورّمت مما لحق بي من حيف. لماذا أرادوا أن يختبروني بهذه الطريقة السخيفة. هدأت أعصابي قليلاً حين أدركتُ أنني اجتزت الامتحان على ما يرام. مع ذلك مازلت أرتجف.
رجعت بعد أن تأكدت من الوقت. السابعة والنصف. هاري الآن في الخارج يتفرج على اللعبة. صعدت إلى الطابق الأول. دفعت الباب ودخلت. كان سيد البيت وزوجته وديانا يشربون الشاي. ردوا على سلامي بهمهمة. وتركت ديانا الغرفة متحججة بغسل الصحون. كيف أبدأ. سعل سيد البيت طويلاً. كان أقربهم إليّ، وأقربهم إلى الموت. يريد أن يودع الحياة بوئام. عنفني بتسامح. وسألني لماذا أهنتُ ديانا؟ لن تنسى لك ذلك. مرة واحدة استرجعت كل حواسي وتكلمتُ باطمئنانٍ شديدٍ. شرحت له، وكانت عينا سيدة البيت في الجريدة، وأذناها صوبي. البيئة التي جئت منها، كما تعلم لا يسمح للنساء بالجلوس مع الرجال، فكيف لي أن آخذ ديانا إلى السينما؟شيء غير معقول في أعرافنا، ولا يمكن لي أن أصدقه في بلدكم. لم أتوقف ولكن لم أذكر لهما المعلم خضر. تركت سيدة البيت الجريدة، مبتسمة ابتسامة خفيفة راضية. صاح سيد البيت: تعالي يا ديانا. إنه لا يعني شيئاً، مجرد سوء تفاهم. كانت ديانا تسمع؛لأني سمعت نشجة دامعة وراء الباب. بالفعل كانت عيناها دامعتين حينما دخلت. استقبلتها واقفاً بكلمة «متأسف» «متأسف للغاية». صدقيني. قالت That ‘s all right then بانهيارٍ وفرحٍ. ورمت نفسها عليّوطوقتني بشدّة وراحت تكرر all right then عدّة مرات وبكتْ، كأنها مذنبة نادمة. – سأجلب لكَ شاياً إذن. هل تريدُ بعض البسكويت؟ – مع ذلك لا أعقل أنني أستطيع أن آخذك إلى السينما. ضحكت قليلاً. – أنت لا تثق بنفسك. قالت سيدة البيت غامزة لامزة. ماذا لو ذكرتُ لهم المعلم خضر؟
كنا في الصف الرابع الابتدائي في المدرسة الغربية بالناصرية. معلمنا خضر شديد الحرص بحمقٍ. عِصِيّ تعذيب الأكف معه من أول درس. ركن حزمتها إلى جانب. يختار نوع العصا من نوعية المخالفة. كانت أعمارنا تتراوح بين العاشرة والحادية عشرة. لم نستحلم بعد، ولا ندري ما الذي يفعله الزوج بالزوجة في الفراش. ننام قبلهما. ولكن ما الذي نزل على رأس الأستاذ خضر فحدثنا – من دون سابق انذار – عن طريقة جديدة اكتشفها لامتحان وفاء أصدقائه. قال الأستاذ خضر إذا أردت أن أختبر وفاء صديق جديد، أدعوه إلى البيت. وبعد فترة أقول له لابدّ لي من الذهاب إلى السوق لساعة أو أكثر. ثم أطلب من زوجتي أن تبادله النظرات والإغراء. فاذا استجاب فإنه ليس بصديق، وإن رفض فهو عين الصديق. عزيزي الأستاذ خضر نحن في الصف الرابع الابتدائي. ما من وظيفة لآلاتنا التناسلية إلا التبول على الحيطان وربّما في الأسرة. لا نخجل منها؛ لأنها لا شيء. فلماذا حدثتنا بذلك الحديث السمج؟ لم يكن سمجاً في وقته؛ لأننا لم نفقهه. فقط عندما كبرنا واسترجعناه عرفنا أنه سمج وأنت كذلك. يا أستاذ خضر، ماذا لو كان صديقك الجديد مُغرياً، وماذا لو مالت إليه زوجتك فعلاً، وهمّتْ به وهمّ بها واتفقا على زنى، واتفقا على أن تقول لك أنه لم يستجب، فيخونك طيلة حياتك وأنت سادر واثق؟
بالطبع لم أقل لسيد البيت وزوجته أي شيء من هذا القبيل، حتى ولو دفاعاً عما ألحقته بديانا من إهانة. لله درّك يا سيد خضر بالكاد نجوت بالناصرية من عصاك التي تبللها ليكون إيذاؤها أكثر، لتلاحقني بها إلى لندن. وأنت يا جدتي رضية، أتدرين ما الذي فعلته بي؟ حكايتك حكاية.
ظننتك جدتي فعلاً. لكنها مجرد عادة استحكمت فتصورتك جدتي لأمي أو جدتي لأبي. عادة مستحكمة خلقت أصلاباً وأرحاماً. نسمي المسنين جدتي أو جدي. مجرد عادة.
كنت أراها في غرفة مظلمة تجلس وسط الفراش الممدد على الأرض منتصبة لا تتحرك. تئن أنيناً لا ينمّ عن ألم، بل عن كرهٍ وحسدٍ وتطحّرٍ. تركوها لشأنها؛ لأنها كثيرة الشكوى والمطالب. تشرب السكائر بلا انقطاع وأمامها فنجان النشوق تدحس في أنفها السعوط وتعطس. لكنها تجلس منتصبة لا تتحرك. وأكثر ما كان يخيفني منها عيناها. عيناها واسعتان حادتان ثابتتان كعيني بومة. لا تتحركان. تشعان في الظلام. كانت كأنها تصغي بعينيها. عيناها لا تتحركان متركزتان في باب الغرفة المفتوحة. كلما سمعت وقع قدم طلبت شيئاً، ماءً، سكائرَ، كبريتاً. قدحاً آخر من الماء. لا، أريد ماءً بارداً. اشعلْ لي السيجارة. ارمِ لي هذا العقب. نظف المنفضة. قلت اغسلها. هل الإبريق في المراحيض. هل فيه ماء؟ اذهب وتأكد. أين أمك؟ هل هي عند بيت فلان؟ اذهب وقل لها أريد أن أذهب إلى المراحيض؟ أين مسبحتي؟ من أخذ مسبحتي؟ افتح الشباك. لا تفتح الشباك. اغلق الشباك لا إلى النصف. الغرفة مظلمة وعيناها تشعان. عيناها ثابتتان كعيني بومة. سمعتهم يقولون أنها لن تعيش طويلاً. كنت أخاف من النظر إلى غرفتها في الليل. وفي النهار ارتبك من جلستها المنتصبة. قبل أن أصل إلى باب غرفتها أقيس عرضه، أرجع إلى الوراء وأقفز المسافة فتلتقطني عيناها:ها ابني تعال. نظف المنفضة أولاًوارجع. ثم الماء، ثم الشباك. ثم السكائر، ثم أين أمك، ثم الإبريق والماء والمراحيض.
نظرت إلى البومة في غرفتي. العينان هما هما. حادتان واسعتان ثابتتان. مددتُ بتحدٍّ يدي. لمستها. مصنوعة من فخار صيني. ميتة. براقة. لا تتحرك حتى ولو فقست عينيها. نظرت إليها بتحدٍّ أكبر منتصراً على هواجسي اللا مبرر لها. مجرد أضغاث وأوهام. زهوت بانتصاري الفذ. تصبب العرق في مجرى العمود الفقري. وبإرادة قوية هذه المرة لففتها بالمنشفة وكأني أريد أن أقطع أنفاسها المفخورة. كنت أتنفس بصعوبة.
كان ما يصلني من أجور عما أكتبه أو أسجله من أحاديث، جنيه من هنا، جنيهان أو ثلاثة من هناك. ولّد في نفسي قليلاً من الأمل الذي ولد هو نفسه إحباطاً في عموم حياتي. كانت عيشة الكفاف كافية لي، ولكن ما مصير زوجتي وطفلتي؟ لو بقيت على هذه الحالة، لأصبح الفراق المؤقت، انفصالاً بحكم الواقع. الغريب أن مع ولادة ذلك الأمل البصيص، أصبتُ ربما لأوّل مرة، بالحيرة.
ابتدأتْ الأسئلة الوجودية تترى. ما معنى وجودي؟ ما تلك القوة الخفية التي تشدني للحياة؟ ما التاريخ؟ ما الحضارة؟ لماذا اندثرت الحضارات؟ لماذا أطمع بالخلود سراً وأتظاهر بحب الموت؟ هل أتنصل عما كتبت، وأكف عن الكتابة في المستقبل؟ ما الدين؟ ما الأنبياء؟ ما الله؟
