غصنٌ مُطعَّمٌ في شجرةٍ غريبةٍ || صلاح نيازي (8)

سيرة ذاتية | الفصل الثامن

إن الانشغال المتواتر بتدبير شؤون اللقمة، أبعدني عن كل شيء سوى ملء المعدة. وحين لم أقدر اندفع إلى تعلم اللغة الإنكليزية، وإلى إشباع فضول ثقافي قديم. كان القلق سمتي، والخوف من الموت جوعاًعلامتي الفارقة. أما حياتي، فأعيشها أياماً غير متواصلة. كل يوم عن أمسه غريب. حينما أقضي النهار وأنام ينتهي زمن، وحين أصحو يبدأ زمن جديد. إلا أنني في هذه الأيام، دخلت في مرحلة الحيرة، وشغلتني لحد القطيعة عن الأشياء، وكأن كل شيء باطل وقبض الريح. كل حديث باطل. كل حب باطل. حتى الأمل خديعة، والحياة برمتها باطل الأباطيل. لم أكن متشائماً. أحب أن أعيش بنعومة وملابسي مترفة وألوانها طازجة إلى أن يأتي الأجل. كنت أسعى إلى الموت بمحض إرادتي، أما الآن فليسعَ إليّ الموت.

الحيرة ملء رأسي. انظر إلى الماضي كمستشفى مهجورة، وإلى المستقبل كمستشفى في طور البناء. الحاضر فقط ما أملك وها أنذا أعيشه بحيرة. قلتُ لا وجود للحاضر. نصفه ماض ونصفه مستقبل. محطة لا يتوقف فيها أي منهما. أصبحت مثل ملاح انهكته الريح. قاوم وقاوم، ثم انهكته الريح وسقطت كتفاه من التعب. استسلم لها وكان شاطئ النجاة غير بعيد. فاض وعاء الرأس بالحيرة، وأصبح أثقل مما يحتمل. أشكو من الصداع، آكل وأشرب بحكم العادة. ذهابي وغيابي بحكم العادة، لا يغريني أي شيء على المشاركة.

حينما أصغي إلى بعض الأصدقاء، وهم متحمسون لحكم أو دين أو قومية، أو يتتايسون حول فكرة أو مفهوم، يزورني داء الحيرة، فانفصل، وكأنني أصغي لهم من غيمة. رفعتني الحيرة عن دنيويات الأرض، وأصبتُ بغرور أسود عقيم. بصورة ما، بتُّ أشعر أنني أمتلك سرّ الحياة، وكل ما يعمله الآخرون خديعة للنفس. ذاك ديدنهم، وديدني عدم التبشير بأي شيء، ولم أكن أنانياً.

تعرفتُ على مخرج إذاعي عراقي، في الإذاعة البريطانية. شخصية مختلفة كأنه لم يكن من طينتي. من أول لقاء غمرني بودٍّ عجيب، ورفع الكلفة بيننا من أول لحظة. لم يسألني مثلاً عن ديني أو مذهبي، أو انتمائي الحزبي، أو سبب مجيئي إلى لندن. لم يحاول أن يعرف ذلك بأسئلة مبطنة. لكنه عرف أنني قريب العهد في غربتي. تحدث عن سباقات الخيول. كان مقامراً. لكنه لا يراهن عليها في فصل الشتاء؛لأن في ذلك قسوة عليها. يطعّم حديثه بمصطلحات إنكليزية عامة لا وجود لها في القواميس أحياناً. دعاني رأساً للمشاركة في برنامجه غداً، وقال الأفضل أن تكتب لك السكرتيرة رسالة لتعطيك التفاصيل. ذلك أفضل لك. كان يطبق القانون بلا تباهٍ. إنسان عملي هو كذلك. معلوماته عملية لا علاقة لها بأيّ خيالٍ. فيما تلا من لقاءات، لم أعِ سر إعجابي به. ثمّة سر فعلاً. بالتأكيد لم يكن بسبب حفظه لمعظم كلمات القاموس، ولا بسبب مرافقته لي إلى المصرف لفتح حساب، ولا بسبب ملء استمارة طلب توظيفي في الإذاعة، ولا بسبب توجيهي في كيفية إدارة الحديث مع العرب الآخرين. ما ذمَّ أحداًقط. عرفتُ بمرور الأيام أن معرفته بالقاموس لم تُعِنْه على تشكيل جمله بالإنكليزية بسلاسة. يعطيك وجهه انطباعاً أن فكره مشغول بصنع الجملة قبل نطقها. وفي جمله إدهاش أو إضحاك دائماً.

لا ينقل من الأخبار إلا أغربها : ولدت طفلة بعين واحدة، أو ولد طفل بثلاثة أرجل. تتبطن لغته عند الحديث مع السكرتيرات بقرصات لا تخلو من إشارات جنسية. يضحكن بحياء. يضربنه على كتفه بألفة ويطلبن منه أن يكفّ. ولا يكف. كان يتمتع بطفولة بإحراجهن، ويعرفنه عفيفاً. سمعته مرة يقول لثلاث سكرتيرات على مائدة الطعام وهو يضحك إن المسيح: NINNY. فهمن القصد. ضحكن وطلبن منه أن يكف. ظل يكررها بين فترة وأخرى، وهن يضحكن. وبتورد خدودهن ولمعان عيونهن يتشجع أكثر (تعني NINNY: السخيف، أو المغفل، أو الساذج ولكنه كان يعني بها المخنث). كنت معجباً أشد العجب بمثل هذه العلاقات البشرية البسيطة، ولكن أعجبت أكثر لأنهن لم يزعلن أو يحتججن وقد وصف نبيهن المسيح بالمأفون. كان مسيحياً. لكن ذلك لم يكن سر إعجابي به كذلك. في حديث عابر مع صديق جاء من بغداد حديثاً، ويعرفه، کشف لي شيئاً لم يكن يقصده. قال أهم ما في شخصيته أنه ديمقراطي بكل معنى الكلمة. نعرفه من بغداد بهذه الصفة. لا يردع رأياً ولا يسخّفه. يصغي كأنه يتعلم، ويتكلم وكأنه في امتحان.

في أول اشتراك لي معه في برنامجه لحن باللغة العربية في عدّة جمل. سكتُّ ولم أقل له شيئاً. لكن اللحن ازداد. ورغم أنني وطّنت نفسي تماماً على عدم التدخل بشؤون غيري مهما كانت الأسباب، إلا أنني لم أصبر. عادة قديمة. قلت أنبهه من باب العطف أولاً؛ لأنه إنسان طيب أو من باب الحرص على سمعته. وحين امتدح لغتي العربية تشجعت، وذكّرته بغلطتين ويدي على قلبي. ضحك فعلاً. قال:أنا محظوظ. أرسلك الله لي نجدةً، وأعطاني النص الذي يقرأ منه لتشكيله. بعد البرنامج شكرني. في الطريق إلى مكتبه شكرني، في مكتبه، وأنا أوقع العقد شكرني. وفي «الكانتين» شكرني أمام زملائه بحب حقيقي. تعلمتُ من هذا الإنسان، شيئاً لم أتعلمه من الكتب.

بعض الكتب العربية مهتمة بإطالة اللسان، وتحشو رأسك بالغرور. باختصار: الإصغاء لكل رأي مهما كان مخالفاً لقيمي أو معتقداتي، هو العنصر الجديد الذي أدخله هذا العراقي الأنموذجي في حياتي الذي يبتعد عن المشاكل قبل التفكير بحلها، وهو موقف إنكليزي عملي. الابتعاد عن المشكلة لا حلها. كان مصاباً بقرحة في المعدة. نصحه الطبيب أن يخلص نفسه من كلّ هَمّ من أي نوع. (المحير أن القرحة في المعدة والأمعاء هي الأكثر شيوعاً بين العراقيين. لا أدري هل هي بسبب الهم أم بسبب أغذية معينة أم بسبب طريقة طبخها). هكذا ببساطة، القرحة تعلمنا الأخلاق. الأمراض تعلمنا الأخلاق الواقعية أكثر من الأديان والكتب.

في أثناء عملي في الإذاعة، تعرفت على الطيب صالح. كان أكبر مني سناً، وبسبب خبرته باللغة الإنكليزية، وحسن إدارته للمحادثة مع الإنكليز، بدا أكبر مني بكثيرٍ، فتحاشيته أدباً. في الواقع لم يكن أدباً مائة بالمائة، ولكن كنت أخشى أن يفتضح لديه جهلي. كانت هذه عادتي كلما التقيت أناساً أكثر مني علماً ومعرفة، ولاسيما إذا كانوا أدباء.

علوم الطيب صالح عافية، كعافية الغذاء، تنتشر في كل الجسد. في حين تعودت في العراق أن أراها معرضاً أو نياشين. نقرأ لدحر الآخرين أو الاستعلاء عليهم. الكتب التي نقرأها نياشين نعلقها على ألسنتنا وحين نتحلق في جلسة ترانا معارض ثقافية متنافسة متنابزة. الجلسة مع الطيب مهدئة للأعصاب. له أسلوب فريد في تشجيعك على مواصلة الحديث. كانت مقابلاته الإذاعية مع كبار الأدباء والفنانين من أجمل وألذ المقابلات. حميمية مطلقة، وانسياب عفوي. قرأت له مجموعة «الودّ حامد» و«موسم الهجرة إلى الشمال» قرباني إليه، وأبعداني عنه احتراماً. أسلوب نامٍ ببطء، وكأنه معني بزراعة أشجار دائمة الخضرة. ونحن – الشباب في الأقل – كنا معنيين بزراعة المحاصيل الموسمية، مسرعين ومتسرعين. نختصر المراحل. الحب ينضج بابتسامة أو بنظرة طويلة. الثورة قلع كل شيء قبلها من الجذور. أُكُل الثورة يجب أن نراها مصفوفة على موائدنا في العشاء. الطيب صالح على العكس من ذلك صبور، لا يتهيج ولا يتحمس، ويترك الأشياء تأخذ دورتها الطبيعية في إكمال نضجها، كما يأخذ الجنين دورته في الرحم.

لم أسمعه مرة يتحدث عن نفسه ليتميز عن غيره. يخالفك الرأي بألفاظ مسالمة، وابتسامة متواددة، فلا تشعر باستفزاز. أعطاني مرّة مجلة أدبية خليجية. في الواقع أنا الذي طلبتها فضولاً. قرأت فيها مقالاً طويلاً عنه لرجاء النقاش. بعد أيام سألته هل قرأ المقال. قال: لا. لكن قرأت العنوان. «دي ابن حلال» – إذن أنت لا تقرأ ما يكتب عنك؟ – …

كثيراً ما كنت أراه يحفظ المتنبي، في مكتبه. في الممر. في المصعد. في المطعم. لم أكن أدري أن ثقافة الطيب صالح إنكليزية منذ نشأته الأولى بالسودان. تشبّع بها طفلاً ويافعاً ومراهقاً، وهو كثيراً ما يروي قصائد إنكليزية طويلة بكاملها عن ظهر قلب. كنا نزور المرحوم محمد محجوب – رئيس الوزراء الأسبق – في شقته المترفة في “نايتسبردج” يكون بين الضيوف عادة وزراء سابقون ووزراء حاليون في زيارة للندن. معارضون، حكوميون. ما أن تنتظم الحلقة، حتى يخرج المرحوم محجوب ديوانه، ويبدأ بقراءة قصيدة منه. ثم يمرر الديوان إلى أي شخص إلى يمينه ليقرأ قصيدة منه. وهكذا من واحد إلى واحد. لكن – ودائماً- ما أن يصل الدور إلى الطيب صالح، ينتهي محجوب وديوانه. تعوّد الطيب قبل أن يبدأ، أن يتلو أبياتاً للمتنبي. الطير على رؤوس الحاضرين. أول ما يفعله محجوب في هذه الحالة، هو إعادة ديوانه إلى الرف، ويسود جو هو الابتهال بعينه. يرتلون – جميعاً – وبالتناوب شعر المتنبي ويثملون. تتحول الشقة إلى معبد مفعم بالتراتيل، تعرفت من خلالها على إيقاعات مسحوره في شعر المتنبي، لم أفطن لها من قبل.

ذكرت عَرضا أن الطيب صالح كان معنياً بزراعة أشجار دائمة الخضرة، وذكرت أنه يترك الأشياء تأخذ دورتها الطبيعية، في إكمال نضجها، كما يأخذ الجنين دورته في الرحم. كان المفروض أن أتوسع قليلاً هنا؛ لأن ذلك من أكبر ما حاولت أن أتعلمه من الطيب صالح الذي يتعامل مع الشعر الشعبي بالانفعال والإعجاب نفسه. يكتشف في أردأ الأشياء فضائل دفينة، وفي أردأ الكتابات جهداً إنسانياً لا يحسن إغفاله. سألني مرة عن كلمات هي أماكن بعينها بجنوب العراق. قرأها علي ضمن أغنية عراقية، وسألني: ألا تذكرها؟ فلم أذكرها (في الواقع تذكرتها وخجلت من سذاجتها) فراح يغنيها بلهجة عراقية ريفية مسكينة، فأحببتها، وطلبت منه أن يغنيها ثانية.

قرأت في هذه الفترة بشغف «ألف ليلة وليلة» و«أبو زيد الهلالي» و«الزير سالم». وتشوقت إلى قراءة النساء. ابتدأت بصناعة الجواري في العصر الجاهلي، وتعليمهن الغناء والشعر وحسن المعاشرة احترافاً. تصورت النساء يطفن في المعابد عاريات كما في الحمامات. ابتدأت المشكلة بورقة التوت. القواميس العربية تسمّي آلتي الرجل والمرأة عورة. من هاتين الآلتين تولد الحياة ونسميهما عورة. يا للعجب! قرأت عن قصص الجواري في العصر العباسي. يسامرن ويغنين ويرقصن، ولنظراتهن فعل السحر. النساء وحدهن يجعلن الحياة أكثر احتمالاً وأقل مللاً. بسعادة النساء وحدهن تقاس سعادة الأمم، وفي البلدان التعيسة أول ما تتعس المرأة، وترضع طفلها بحزن، فيصاب بالبكاء والإسهال.

من أول مرتب، اشتريتُ مسجلاً. ومع الراديو والتلفزيون، كملت أجهزتي الثقافية. كنت أذهب كل أسبوعين إلى مكتبة حكومية متخصصة بالتسجيلات والأسطوانات في منطقة «لسْترْ سْكوير»؛ لأستعير بعض الموسيقى الكلاسيكية والكلام المنطوق: شتى القصص القصيرة، شتى الروايات، شتى المسرحيات، شتى المقابلات. بات لدي الآن برنامج مقسم بالساعات. أصبحتُ مُبرمَجاً بكل ما في الكلمة من معنى. لكن لم يكن لي أي هدف من وراء ذلك، ولم أرجُ أية غاية تبشيرية أو قيادية في يوم ما. ميزة لندن الأولى – كما يبدو – في مكتباتها المتخصصة وفي كل موضوع علمي أو لغوي، أو فني، أو  وثائقي. لندن – بالنسبة للباحثين الفضوليين – مكتبات لا تنقطع، أو قل هي مكتبة كبيرة، وما في ذلك إلا مبالغة مستساغة.

وصلت زوجتي وطفلتي فامتلأتِ الحياة. كنت أتحدث إلى نفسي بصوتٍ عالٍ من الفرح، كلما تأكدت من عدم وجود شخص يسمعني. نسيت السعادة، وها أنني لا أعرف كيف أمارسها. أدندن. أغني. أقرأ الشعر بترتيل، وعند المشي يتحرك ذراعاي بنشوة. هذا هو ما نعنيه بشاطئ السلامة، استرخاء لذيذ يجر إلى نعاس لذيذ. كنت أتلذذ بالنعاس لحظه لحظة، ثم يحتضنني النوم كأمٍّ.

 بات فضولي الثقافي، مقنناً أكثر. كانت قراءاتي مثل تناول الحبوب الطبية، للشفاء فقط، أما الآن فأخذت صفة الفيتامينات للعافية. لكن إلى الآن لم أقترب من الشعر الإنكليزي، ولا من شكسبير، الشعر كالخلقة التي تشكّلها البيئة. وهو العلامة الفارقة للأمة. لكل أمة خلقتها، إذن لكل أمّة شعرها، لا يتطعمه حقيقة إلا أبناؤها. قلت أؤجل قراءة الشعر الإنكليزي إلى أن أقرأ ما كتب عنه من نقد. أما شكسبير فاكتفيت بقراءة الترجمات العربية، وإن حضرتُ أحد عروضه المسرحية، فللتباهي فقط، والعيّ غالبي. 

التاريخ منذ الصف السادس الابتدائي يفزعني. أحفظه أسماء خلفاء وقواد، واستذكره حوادث، وقتلى، وطرقاً تجارية، وجيوشاً، وسبايا، ويختلط أوله بآخره. قطعت صلتي به منذ البداية، وانشغلت بالمستقبل. تصورت البِركة ملوثة فتعلقت بالسراب. كان عليّ في الأطروحة أن أدرس التاريخ هضماً. وكان لابدّ أن أكتب فصولاً عن الخلفية التاريخية والاقتصادية والسياسية للشاعر الأحسائي البحريني علي بن المقرب العيوني. المفروض أن أكتب عنه دراسة باللغة الإنكليزية مع تحقيق جزء كبير من شعره. قلت لأهتبلها فرصة وأتعرف على المدن التي زارها، البصرة، وملكها باتكين، وبغداد وخليفتها الناصر لدين الله، والموصل وأميرها بدر الدين لؤلؤ. جرّني الفضول إلى الدولة الخوارزمية والمغول في شرق العراق، وإلى الدولة الأيوبية، ودولة الموحدين، وإلى الحروب الصليبية. 

كانت الأطروحة، وأهم من ذلك، ما أثارته لديّ من فضول، محفزة لي لدراسة حقل مهم من حقول المعرفة أي التاريخ، الذي شدني إلى النثر العربي أكثر فأكثر. (بدا لي أن معظم الشعر العربي مريض، وموسيقاه وَرَمُه. شعراؤه لا يستحون من مبالغة أو كذب، أو افتخار زائف، أو هجاء عضاض لسّاع نهّاش، ومصدره المِرَّة وكره البشر). 

ليس المهم ما كُتب في الأطروحة، ولكن ما هزّته فيّمن قناعات سابقة وما خلقته من انطباعات لاحقة كان هو الأهم. فالترجمة من العربية إلى الإنكليزية، على سبيل المثال، وبالعكس، تهيئان للمرء عملياً، تباينات العقليتين، المتناقضة في أكثر الأحايين. يمكن اختصار مثل هذه الفروق بعقلية سردية انتشارية، وعقلية تحليلية. نحن قوم مولعون بالصفات لدرجة ننيبها عن موصوفاتها، ومولعون أكثر بالمترادفات، لدرجة التخمة. أما الجملة الإنكليزية في الكتابة الأكاديمية، فقصيرة ومتدرجة، أي كل مرحلة تؤدي إلى مرحلة أخرى. استعمال صيغ الحال في اللغة الإنكليزية يوازي من حيث الكم استعمال الصفات في اللغة العربية. كانت ترجمة بعض النصوص العربية إلى الإنكليزية شاقة، لا من حيث لغتي الإنكليزية التي لم يشتد عضدها بعد،ولكن من حيث اختلاف أساليب المعالجة في اللغتين. 

أهم من هذا وذاك، وجدت نفسي من جرّاء نشداني للتاريخ، مقتنعاً بأنه علم، وليس مجرد روايات، مما شككني بكل قناعاتي السابقة. كيف تتشكل الدول ولماذا؟ كيف تقوى؟ متى يبدأ انهيارها ولماذا؟ هل الدين أفيون حقاً، وأنه أكبر كارثة جلبتها البشرية على نفسها؟ هل التاريخ يعيد نفسه؟ من يصنع التاريخ، الفرد أم الأمة؟ ما دور الفنانين في المجتمع؟ 

لم أستطعء الإجابة عن هذه الأسئلة عموماً، لكنْ مع ذلك باتت تشغلني أكثر فأكثر. لكن ما أعرفه أنني بدأت أشعر بضيق لا من السياسة، ولكن من السياسيين ومن مساعيهم في تمويش (من الماشية)، الناس وتغديدهم (من الغد). السياسيون الفاشلون هم الذين يحدثون الناس عن الغد، أكثر ما يتحدثون عن الحاضر. 

باختصار، لم تعد الشعارات الثورية، تلهب في دمي النار، وأصبحت فلسفة «التغيير من الجذور» تفزعني. أمّا اللغة الإعلامية فباتت مُمْرضة؛ لأنها أشبه ما تكون بتكشيرة فكّيْ جمجمة. (سأتحدث عن عملي في الإذاعة البريطانية بتفصيل في مناسبة أخرى). 

لا يمكن للحضارة أن تطلع بين عشية وضحاها. إنها كالبذور لابدّ لها من نمو بطئ. قد تُعجِّل في خلق مجتمع متعلم، ولكن من الصعوبة خلق مجتمع متحضر، في فترة زمنية محدودة. 

على أية حال، حينما أجيزت الأطروحة وجدت نفسي أمام خيبتين: مرد الخيبة الأولى أنني كنت منصاعاً باللاوعي، إلى ما تعارف عليه الناس بالعراق، من أن الإنسان بشهادته. الخيبة الثانية، أنها خلقت أمامي فراغاً كبيراً، كيف أشغله؟ كنت خلال كتابتها مثل سجين، ولكن حين أُفرج عنه أصبح مسؤولاً عن نفسه. في الواقع كانت الأطروحة مهرباً عن كل ما يمس الواقع، وخاصة واقعي. أنستني غربتي حيناً، وما كنت أعانيه من تشرد ذهني وعاطفي وجسدي. أنستني حتى إعادة النظر بما آمنت به سابقاً، من أنني غادرت العراق حتى أختار میتتي بإرادة حرة. هل كنت صادقاً فعلاً؟ أم أنني كنت أفتش عن حياة أفضل، فخدعت نفسي؟ 

كنت والأطروحة، كزميلي المصري في المكتب. لمدة أربعة أشهر، وهو يتلو علي مشكلته. يتحدث عنها بجزع، ولا يريد نصيحة. التفاصيل نفسها – بزيادة ونقصان – ولكنها هي هي. في الأسابيع الأخيرة كنت أنظر إليه ولا أصغي كالغائب عن الوعي، وحين أصحو لم يفتني شيء. في الواقع كنت أذكّره إن نسي شيئاً. 

في أحد الأيام جاءنا والابتسامة تملأ أسنانه. وصلته برقية وحُلت المشكلة نهائياً. تفاءلت خيراً. ولكن ما كنت أدري أن هذه المشكلة التي بدت عويصة، كانت تخفي وراءها وتحتها مشاكل صغيرة لا تحصى. سلسلة من الشكاوي كل صباح. كصداع الشقيقة مثلا يُنسي آلام المفاصل إلى حين، وآلام الصدر إلى حين. كذا كانت الأطروحة، تخفي وراءها كثيراًمن الأسئلة كنت متردداً في مواجهتها، ولاسيما وقد استقر وضعي النفسي (بوجود العائلة) ووضعي المادّي (بوجود الوظيفة). ما هي مسؤولياتي الآن؟ لم أحاول الإجابة عن هذا السؤال؛ لأن ذلك يتطلب مني إمّا الرجوع إلى العراق، وإمّا البقاء بلندن. لم تكن لدي أية قابلية للقطع والحسم. لكني اكتفيت بما أقنعت نفسي به، من أني ضحية بيئة أورثتني العصاب والرهاب وشتى الأمراض النفسية، وها أنني اليوم بلندن أعيش دورة نقاهة مهما بلغت من سنين. لندن أكبر مستشفى، وأكبر دار نقاهة. 

تحققت لي بلندن رغبتان باطنيتان، لم أكن أعلم كنههما. كانت بمثابة إحساسين نفسيين دفينين، يفسران كثيراً من تصرفاتي التي تبدو متناقضة أحياناً، إلى درجة يجعلانني معها اتخذ مواقف متضارية تجاه شيء واحد، وفي آن واحد. مع ذلك يظهر كل موقف صادقاً بحد ذاته. 

الرغبة الأولى لم اكتشفها أنا بنفسي، وإنما جاءت كاستنتاج من قبل الروائي والكاتب المصري شفيق مقار في مقابلة أجراها لي عام ۱۹۷۹ (نشرت في جريدة العرب): “الدكتور صلاح نيازي رجل دائماً يحذرك من عيوبه ويقول لك إنها عديدة، وأنه فقط يتمنى لو أنك عجزت عن اكتشافها. وذلك دفاع جيد من عدة دفاعات يلجأ إليها المرء ليتخفى، إن كانت تلك رغبة حقيقية. والرجل يقول إنه – منذ طفولته – توجس خوفاً من الناس، ويؤكد أنه لا يذكر يوماً خرج فيه مع أمّه إلا وهو مختفٍ تحت عباءتها. لكنه نسي أن يقول تحت أية عباءة اختفى في تلك المرات التي خرج فيها بغير أمّه. ولا بأس فَتحْتَ السطح الولوع بالتخفي هذه شيطنة لا تخفى، وتحت الشيطنة فيما يشعر المرء، في بعض اللحظات التي تنزع فيها الدروع والدفاعات، حيرة موجعة، وألم فراق کاوٍ وبحث عن خباء عباءة الأم المفقودة».

الرغبة الأخرى التي تحققت لي بلندن جاءت من حيث لا أدري. أكانت صدفة خارجة عن المألوف، أم أنها مجرد حظ شخصي؟ في واقع الأمر، لم اكتشف هذه الرغبة الدفينة إلا بعد سنوات طويلة بلندن. 

قلتُ في صفحة سابقة، أنني أتخوف من الريادة والقيادة، ولكن في الحقيقة تخوفاتي أكثر مما تحصى. مع ذلك كانت خافية عني. لا شك أحبُّ ألّا أنسى، بكلمات أخرى ألّا أُشطب وأُمحى، إذا قيست الأمور بما عانيت من سهر على الثقافة والتعلم، وتكريس كل وقتي لهما. ربما لهذا السبب أتطيّر من كل تكتل أو تحزب من أي نوع؛ لأنه – من باب تحصيل الحاصل – يرفع ويخفض بتحيز من يشاء من دون النظر في القيم الفنية الأصيلة في النص. استقلالية من جانبي، بقدر ما كانت تجنباً.

لم تكن لي أية رغبة في النشر، وفي الوقت نفسهتهالكت على النشر؛ لإثبات وجودٍ فقط، ولم يخطر على بالي التفوق على أحد، أو التصدر بأي معنى. الكتابة لذة فردية بالدرجة الأولى، في أعلى درجات أنانيتها. لا أدري كيف أعبّر عن هذا الإحساس الغامض المتناقض؟ أحب الشهرة، وفي الوقت نفسهأخشى أن يومئ إلي الناس. ولكن هذا لا علاقة له، في الظاهر، بالرغبة الثانية التي تحققت لي بلندن.

تعلّم الثقافة، ليس كتعلم السباحة، يمكنك من أن تسبح في كل نهر. الثقافة إصغاء وتواضع لا يمتلكهما إلا تلميذ حريص على مستقبله ومتى كانت الثقافة علاجاً، يكون الإصغاء والتواضع على أشدهما نفعاً. عند ذاك تكون قراءة الوصفة الطبية ذات مغزی حاسم ومعها ينزل محرار الاعتداد بالنفس إلى درجة صحية. التلمذة، بمعنى الإصغاء والتواضع والمثابرة، هي بيت القصيد.

مدينة لندن – رغم مختبراتها العلمية ومكتباتها المتخصصة – تحمل كل صفات التلمذة من الإصغاء والتواضع والمثابرة. إنها تجبرك – من دون أن تدري – على أن تكون تلميذاً، دائم التحصيل، قليل الاكتفاء. 

في الواقع، لم أتعلم من لندن التلمذة، فمنذ البداية كنت أتهيّب أن أكون «أسطة» أو أستاذاً، ربّما خوفاً من أن أضلل أحداً، أو ربّما وجدت في التلمذة حالة فردية، ذات مسؤولية فردية، صوابها لا يعدّدستوراً للآخرين، ولا خطأها يجرّ إلى كوارث.

واصلت روح التلمذة بشغف من تلك الساعة التي قررت فيها أن أدرس اللغة الإنكليزية بجدّ مريضٍيواظب على أوقات الدواء. هكذا رجعت إلى طفولة ثانية، ولكن كيف لي أن أتعلم بيئة جديدة، أدباًوموسيقى ورسماً ونحتاً ومسرحاً وفولكلوراً؟ سعيد من يموت وهو في قمة تلمذته.

لكن يجب أن أعترف أن العلاج الذي أعطتني إياه لندن مجاناً؛ هو أقراص منع الغرور. المعروف أن لندن مدينة متواضعة بكل ما في الكلمة من معنى. ربما لكثرة الجامعات فيها وقدمها منذ القرن الثاني عشر، ربما لكثرة المختبرات العلمية، ربما لكثرة المتخصصين في الموضوع الواحد، ربما بتأثير أدبيات شكسبير، أصبح الغرور صفة ذميمة. ليس من الغريب إذن أن يكون من بين معاني CONCIET في القاموس الإنكليزي: الزهو، الخيال، الوهم، العناد.

للحقيقة، لم ألتقِ بأحد من الإنكليز مَنْ حدّثني عن إنجازاته أو عن شؤونه الشخصية ويظهر فيها نوعاًفريداً. ولكن تحت الإلحاح والاستزادة، يمر عليها سريعاً بجمل قصيرة وتشعر أنه محرج. أما إذا امتدحت أنت إنجازاته، فإنه سيقع بإحراج أكبر؛لأنه لا يعرف كيف يستقبل الاطراء، فيردد: طيبة منك، طيبة منك، وكأنه يتوسل إليك أن تتجاوز الموضوع.

كانت لي زميلة إنكليزية في المكتب كثيرة الإطلاع على الرواية العالمية، لا تقرأ إلا الرواية. كل ثلاثة أو أربعة أيام، وفي يدها رواية جديدة. لم تشعرني مرة أنها تفوق غيرها في الرواية. لم تتحدث أصلاً عن هذا الموضوع. وما ذكرت يوماً أنها ستكتب رواية. سألتها مرة عن سبب اهتمامها بالرواية، فاحمرت حياء وخجلاً، وكأني كنت أراقب أشياء شخصية في حياتها. قالت باقتضاب: مجرد هواية. – ألا يخطر ببالك أن تكتبي رواية؟ – ليست لديّ اللغة الكافية، كما أنني ضعيفة في تحليل الشخصيات.  كانت هذه الفتاة، أعمق من زميلاتها، وأكثرهن علماًوحناناً وأدباً. أحاطتني برعاية من عانى هو من غربة. رعاية مربية عوضت عن أطفالها المفقودين، بأطفال غرباء.

كنت ألجأ إليها في معنى كلمة أو تفسير مصطلح، أو تحليل بيت شعري. قلت بنفسي هذه الفتاة الصامتة قاموس ناطق. كنت صادقاً في كل استفساراتي عما غمض عليّ، إلا أنني جعلتها وسيلة لفتح حديث. يالله، كم حدثتها عن أسلافي القريبين، موصلاً إياهم بالسومريين، ولو كنت أعرف ما الأقوام الذين سكنوا العراق قبلهم، لما بخلت. حدثتها عن بابل، ففغرت فاها. نظرت إلى يدي حينما أخبرتها بأنني بيدي هاتين لمست حجارة بابل. فازدادت وداعة. كنت أجعل هذه الدوزنات التاريخية تمهيداً للحديث عن نفسي، عن آلامي خاصة وما عانيت، وحين تترقرق أهدابها، أردفها بمشاريعي بتلذذ، ومطامحي وكأنها واقعة لا محالة.

مرة، وقد أشبعتها مشاريع ومطامح، قالت بخفوتٍمن بين شفتيها الطريتين: (AS USUAL, SETTING THE THAMES ON FIRE) 

لم أسمع بهذا القول، فابتسمت وكأنني فهمت ما الذي تعنيه، ثم حجبت وجهها بين صفحتي رواية ذات حجم كبير. قلتُ لابدّ أنها غارقة فيما تقرأ. لم أحاول أن أعرف ما قالت في الحال، ولا في اليوم الآخر ولا في السنة التالية؛ لأنها انتقلت، ولم يكن يعنيني من أمرها شيء؛ لأن غروري كان أكبر من أي عارض مرحلي.

عرفت، بعد حوالي سنتين، وأنا استرجع تلك الفتاة في ذاكرتي، أنها لدغتني لدغة مهذبة، كلدغة القطرة في العين. هل كنتُ فعلاً، كما قالت الفتاة الإنكليزية ساخرة، أجترح المعجزات وآتي بالمستحيل؟ لماذا كل هذا التشبع بالذات؟ من المسؤول عن خرابي النفسي؟ 

حقاً لقد جئت من بيئة، يكتب فيها أحد العازفين على غلاف أسطوانة بأنه «أعظم عازف عود منذ النبي داود». هل كان النبي داود يعزف العود؟ وما هي تسجيلاته للمقارنة؟ جئت من بيئة يقول فيها شاعر معاصر بأنه قرأ الشعر الفرنسي من بدايته إلى الآن. ويقول فيها مغنٍّ بأن كل المغنين يقلدونه ولم ينجحوا، وحين سئل عن الصفة التي يكرهها في شخصيته أجاب بكل ثقة: التواضع. 

جئت من بيئة يقشعر فيها وجه شاعرها الأكبر إذا ما ذُكر بوشكين أو بودلير أو شكسبير، ولو عابراً، في مجلس يضمه.

استمعتُ مرة إلى أسرى عراقيين ينشدون في راديو طهران: “يا خميني سير سير / إحنا (نحن) أبطال التحرير” قلتُ أسرى وأبطال! بالأمس تقاتلونهم، واليوم أسرى لا تذهبون إلى المراحيض إلا برخصة، وها أنكم الآن تنشدون “إحنا أبطال التحرير” ليتنا نوزّع عينات من هذه الأهازيج على المختبرات النفسية لدراستها والتوقف عندها؛ لأنها أصل كل داء في مجتمعنا. ليتها توضع على قرص زجاجي تحت المجهر ينظر إليها المختبريون ذوو الأردية البيضاء والكفوف النايلون بعين واحدة كما يفعلون عادة، ليتعرفوا على أنواع الفيروسات في عينة “إحنا أبطال التحرير” وكيف تشكلت عبر العصور. أدواؤنا بحاجة إلى مختبر إنساني لا إلى ندوات سياسية أو مؤتمرات اقتصادية.

قد يغنى البلد، تسود فيه التعددية، وتبقى الأزمات الروحية كما هي. البخيل بالفطرة، يده غُلّت إلى عنقه حتى وإن أمطرت سماؤه مناً وسلوى. كذلك العدواني بالفطرة، فإنك حتى وإن هذّبته وأنسنته وهديته، فإنه سيصنع لك هذه المرة قيوداً ولكن من ذهب، ويفتخر بتميزه عن غيره من ذوي القيود الحديدية. في كل مجتمع، كما يبدو، صفة منحدرة خاصة به، لا تدخل للأسف في برامج الأحزاب السياسية الخمسية أو الدائمة. فهل وقف سياسي مرة واعترف بأن من أولويات برنامجه، القضاء على الكذب، أو القضاء على المبالغة، أو محاربة الطموح الأهوج المتهور؟ هل وقف سياسي يوماً وأعلنها حرباًشعواء ضد النفاق، وفي برنامجه الدعوة إلى النظافة وتمجيد المنديل؟ أو ضد مصايد صيد العصافير وتحطيم أعشاشها ؟!

في كل مجتمع صفة خاصة به منحدرة يرثها، ويقويها المربون وتتضخم لدى السياسيين، لنقرأ أزمتنا في مناهجنا الدراسية. بالله، ما الذي تفيد منه الفتيات في المدارس المتوسطة من نصوص أدبية رسمية كـ”الخطبة البتراء» لزياد ابن أبيه، حينما اختاره معاوية على الكوفة؟ قال المؤلف : «فلما وصل زیاد إلى الكوفة صعد المنبر ولم يبدأ بحمد الله والثناء عليه كالعادة، وإنما اندفع كالصاعقة يصبّكلاماً كالحجارة على رؤوس الكوفيين”.. ما هذا الكلام المزدهي بدائه أيها المربي؟ يصعد زياد المنبر، ولم يبدأ بحمد الله، ويندفع كالصاعقة يصب كلاماً كالحجارة! هل كنت شاهداً أيها المؤلف؟ أین أولو الأمر من هذه الأخاليط المؤذية؟ أعلى هذه السنّة تنشيء الجيل الجديد؟ ما الذي قال زياد ابن أبيه: «وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والمطيع بالعاصي، والصحيح بالسقيم، حتى يلقي الرجل منكم أخاه فيقول: انجُ سعد فقد هلك سعيد…». أين الرقيب الأخلاقي؟ هذه كلمات مفخخة إرهابية تلقی بالقوة على الطالبات وعليها يتوقف مستقبلهن في الامتحانات المدرسية.

بعد ذلك ينتقل المؤلف إلى الحجاج بن يوسف الثقفي وخطبته بالكوفة أيضاً : “انا ابن جلا وطلاع الثنايا / متى أضع العمامة تعرفوني”يا أهل الكوفة، إني لأرى رؤوساً قد اينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها.. وكأني أنظر إلى الدماء ترقرق بين العمائم واللحى …” أنفتخر حقاً بهذه الدموية المتوحشة، ونجعلها في صميم الدورة الدموية لأبنائنا؟ حتى لو أراد المؤلف أن يعلمهم التشريح الطبي فإنه لم يعطهم إلا سكين المطبخ وما من تشريح أصلاً سوى مسلخة سادية. على أية حال، لم تنبت: «إحنا أبطال التحرير» من لا أبوين.

المدينة التي انحدرتُ منها أشدّ إحباطاً ومكفوفة اليدين. تبكي بصمت؛ لأن حنجرتها بُحَّت من البكاء لعصور. الثكنة العسكرية أكبر مبانيها، وشعارها «أنصر أخاك ظالماً أم مظلوماً». تتورط مع جندي سيئ النظرات شبقاً، فيلتمُّ عليك الجنود بغلظة حيوانات متوحشة. يُعاقب الجندي الذي لا يأتي إلى نصرة أخيه ظالماً أم مظلوماً. 

جئت من بيئة يقول فيها الشاعر: “إذا بلغ الرضيع لنا فطاماً / تخرُّ له الجبابر ساجدينا” ثم يحثك المتنبي على ألا تقنع «بما دون النجوم»، حتى لو كنت تفتش عن لقمة كالحيوانات السائبة في المزابل.

 جئت من بيئة ينشد فيها صبيان المدارس صباحاُ: “لاحتْ رؤوس الحراب / تلمعُ بين الروابي / هيّا بنا هيّا / هـــــــــــــــــــــ” وهذه الـ «ه» تنخسك. تقول لك يا أنت وباحتقارٍ، كأنك مجرد كتلة بلا هوية.

من بيئة تقول فيها المرأة بحنانٍ مُؤذٍ: “خذوني للوغي معكم خذوني / مضمدة لجرحاكم حنونا” أدبيات متخصصة بالكذب، ومفهرسة بالغرور. نعرضهما كالسلع في واجهات الشاشات والصحف. أين دواء «بكرين» و«صدامين» اللذين طبل لهما الإعلام العراقي؟ أبشرْ بطول سلامة يا مرض السرطان. مرّة، قرأتُ ما قاله أحد الشعراء «الكبار» عن ثقافته. شعرت ببؤس. قال بزهو لمحرر إحدى الصحف إنه كان يقرأ كل يوم رواية أجنبية مترجمة، ولمدة ست سنوات. ما الذي حدث لهذا البلد يا ربّ؟ هل وصل داء العظمة إلى مخّ العظام؟ يقرأ رواية كل يوم؟ كيف بمعنى أنه قرأ (2160) رواية على مدى ست سنوات. لكن هل ترجمت في العشرينات من القرن الماضي أكثر من مائة رواية؟ لماذا لم يردّه أحد؟ 

قد يجد السياسيون أسباب مقنعة لتدهور العراق. قد يحصر الاقتصاديون تلك الأسباب بالاقتصاد. أو علماء الاجتماع بالروح العشائرية والإثنية، وقد يعزوها رجال الدين إلى ضلال الناس وابتعادهم عن كلمة الحق، … وهكذا. بيد أنني – وعلى مسؤوليتي – أقول إن سبب خراب العراق – أفراداً ومجموعات – هو الغرور. الغرور أكبر داء بالعراق، خطره أكبرُخطرٍ، ومنذ القدم. يبات أكثر خطراً إذا ترافق مع الطموح. البيئة العراقية بما اكتسبته من أدبيات سابقة منبت للغرور والطموح، وهما على أشدهما استعلاءً واستفزازاً وعدوانية، يجعلان الإنسان متفرداً لا ينتمي إلا إلى نفسه وأوهامها المتورمة. يهددك المغرور بأحلامه ويستصغرك بما سيفعل من معجزات في المستقبل. الغرور يحول الإنسان تدريجياً، إلى دكتاتور، ساحق مدمر. يجعل التنافس غَيْرة مسمومة، والغبطة حسداً ونميمة.

ليتَ هناك مادة قانونية في الدستور تحرم الغرور کالزنى والرشوة، على اعتبار أنه اعتداء على كرامة الآخرين. ليت هناك لجنة متخصصة من كبار القضاة لمراقبة الغرور، اعتباراً من «الأنا» لدى الشعراء المرضى، إلى صور الرئيس، أيّاً كان. محاكمات لا تنقطع إلى أن ينقطع دابر الغرور. عندها سنعيش ببلد متحاب،  ببلد متواشج، و ببلدٍ مبتسم.

ليت التواضع يكون مادة تدريسية أساسية. ليت عبارات مثل «لا أدري» و«الله أعلم» و«وقد أكون مخطئا» تعمم وتنشر بين الناس كالأغاني الشعبية. ليت يُنصب تمثال لـ «ربما» في كل ساحة عامة. ليت في كل اتحاد ادباء أو معهد، أو حزب أو تكتل دوراً للنقاهة والابلال من مرض الغرور.

ليت لنا حزباً يبدأ من عيادة نفسية صغيرة وبشعار واحد «مكافحة الغرور» على غرار حزب «الخضر» بأوروبا الذي رفع شعاراً واحداً في البداية: إنقاذ البيئة من التلوث. كانت لدغة زميلتي الإنكليزية حادة كسكين مسنونة لا تحسّ بجرحها فوراً، ولا ينزف معها دمك فوراً. ولكن بعد حين يبدأ الألم والنزف.

منذ أن تبينت معنى ذلك التعبير الإنكليزي، استجدّت لديّ عادة أرهقتني، وسببت لي عزلة نفسية من نوع خاص۔ كنتُ كلما التقيتُ بزملائي، أتعقب ما يقولون بدقة، تحليلاً ومقارنة. امتدت هذه العادة، إلى ما كنت أقرأ نثراً أم شعراً.

لماذا نتحدث عن أنفسنا بهذا الإفراط لدرجة الإسفاف؟ أحزاننا أكبر من كل الأحزان، وأفراحنا ممتلئة بالأنانية. وفي بعض الأحيان يكون فرحنا تشفياً، بالآخرين. تقرأ قصيدة مثلاً فترى الشاعر موكلاً بالتجسس على نفسه، فيسرد لك ما حدث له بتفصيل مملٍ. لا تدور الأرض إلا من أجله. الليل والنهار من أجله. إذا أحب فحبيبته أجمل أمرأة. صوتها أنعم صوت. فمها أجمل وردة، عيناها نجمتان، ونهداها ألذ ثمرتين. إذا كان ما يحب سمراء، فلتكن عانسة كل شقراء. وإذا كانت شقراء فما أجمل خيوط الشمس، وما أتعس الليل والسمراوات البائرات؛ أشعار ممتلئة بالتنابز. أشعار ممتلئة بالاستمناء، بلا اغتسال.

 أستمعُ إلى محدثي بشوقٍ. سلام ثم يفتح أمامي كل دكاكين معجزاته. كل الحديث هو وما سيفعل. يدور على نفسه. يلبس نفسه نياشين معرفية وثقافية من شتى الألوان. إذا قرأ كتاباً، فما من أحدٍ غيره قرأه. وإذا قرأه غيره فلم يفهمه كما فهمه. إذا قرأ نبأ، يأتيك كالحمام الزاجل. ما لا يعرفه لا أهمية له، وما يعرفه دواء لم يكتشف بعد. وفي كل هذا، إنما كان محدثي يمهد إلى النصيحة، بعد أن يتأكد من بؤسك الكامل، وإحباطك المخزي المذل. لماذا نحن مولعون بالنصيحة؟ هل لأننا لا نثق بقابلية الآخرين على التفكير؟ تصغي إلى ناصحك على مضض. أصبح أعلى منك، فأشبع غروره.

لا يتم حديثنا ولا يطيب إلا بالتشنيع بالغائبين واحداً واحداً، فكراً وعرضاً، خلقاً وحزباً وعشيرة، أصلاً وفصلاً إلى سابع ظهر؟ لماذا نتلذذ بمعرفة شجرة كل شخص، بنات وبنيناً وأسلافاً، وما من شجرة أخرى في أحاديثنا إلا شجرة العائلة؟ هكذا تنكمش الحياة يوماً بعد يوم؛ لأننا قاصرون عن تقمص المخلوقات والموجودات، لا نحلّق مع غيمة ولا نجري مع نهر. لا نطير مع جنح، ولا نسكن عشاً، ولا ندخل جذراً. لا نستبطن هيكلاً عظميّاً رميماً، ولا نعبد رَحِماً رحيماً.

قلت لن أتحدث عن نفسي من الآن فصاعداً. عفواً سأحاول. قال لي أستاذي المشرف على أطروحتي بثقة طبيب،وكأنه يعالجني من مرض: إنك تكثر من “الـأنا” وهذا لا يجوز في الأطروحات الأكاديمية، ولم يكمل قراءة الفصل. كانت تلك الوصفة الطبية ناجعة فعلاً، أولاً لأن “الـأنا” قُرِنت بمرض، وثانياً لأن الأطروحة لن تقبل بوجود هذه العاهة.

كان العلاج صعباً وتطلّب سنوات، ومازلت أشكو من عقابيله. أكثر من ذلك ابتدأت مرحلة وضع ما أقرأ في اللغة العربية على ضوء هذا المحك الجديد. أتابع الـ «أنا» وأتصورها مرضاً معدياً. أرى أمراضاً ولا أرى أطباء، أرى مرضى ولا أرى مستشفيات. العدوى مستشرية، وما من تطعيم. شعرت بغربة نفسية هذه المرة لا تقل قسوة عن غربة الحواس،حينما جئت إلى لندن لأول مرة. غربة الحواس طبيعية، تتأقلم بمرور الزمن، وهي لا تخلو من نفع، أما غربتك عن لغتك فتؤدي إلى التشاؤم. لم أتشاءم بقدر ما حزنت؛ لأنني لم أفكر يوماً كما يفكر مصلح أو قائد أو رائد، لإنقاذ أُمّةٍ.

انكببت على برنامج مقسم بالساعات لإغناء تلمذتي. كان عزائي التعلم ولا أدري لماذا. ورغم أنني كتبت عدّة دواوين على مدى سنوات، إلا أن الكتابة – وحتى الآن لم تكن في يوم ما، شغلي الشاغل. لم تكن ضمن برنامجي التعلّمي أصلاً. على حين غرّة، وجدتُ اللغة العربية ثوباً شتوياً في صيف ساخن، وثوباً صيفياً لا يصدُّ برداً. ندمتُ على ما حفظته من أشعار تمجد اختصار الحياة بالسيف والثأر. ازدادت هذه الغربة أضعافاً بالانتكاسات العربية الموثقة بالصور على شاشات التلفزيون وبلغة العرب الإعلامية الباذخة الكذب. قال لي روائي عراقي: لم أعد أصدّق أي شيء أقرأه باللغة العربية حتى لو كان صدقاً. يبدو أن التغرب عن اللغة بات بين المغتربين، شبه حقيقة. كيف يهرب الإنسان عن نفسه إذن؟ كيف يخرج من جلده وتاريخه؟

لكن لا بدّ من انتماء مهما كان وهماً خادعاً؟ دجلة والفرات كالبطين والأذين في الفؤاد. النخيل في الصدر. الأغاني إيقاع القلب ونبضه. السماء سحنتي، ومن تراب العراق صُنِعتُ. لا تلذُّ للأذن إلا سماعه، ولا تلذ للعين إلا مشاهده ولو في بطاقة. أنا منه وهو مني. لا انفصام. تقمصني الوطن حتى أصبحت خريطة مصغرة له. وها أنا اليوم وطن بلا وطن، وجغرافية بلا جذور.

ما قلته أعلاه، لا أكثر من كلمات عاطفية، قيلت بصدق ولكنها منقوعة بالميوعة للأسف. صحيح إني انشددت إلى التلفزيون والراديو والجريدة. كل نبأ بفزع. أجيب على الهاتف بهلع، وأفتح الرسائل بسوء طالع. العراق وحروبه. الراديو وانتصاراته. الحكومة لا تموت. الأرض تتقطع. البيوت تتقطع. الأسلاك تتقطع، والجسور مبقورة في الوسط، لا يضاء ظلام العراق إلا بالصواريخ. ولا تمطر غيوم العراق إلا راجمات وطائرات. الجنود ورسائلهم وما تبقى من مرتباتهم. يدفنون أحياء في مخابئهم. صراخ مدفون، أنفاس مدفونة، وداعات أخيرة مدفونة. أفواه مدفونة، وعيون أطبق عليها الظلام والتراب كلية كالقار الأسود.

لا فرح في الغربة إلا بفرح العراق وما من فرح. لا انتصار في الغربة إلا بانتصار العراق، وما في العراق إلا اندحارات. أانتمي إلى انتصاراته الموهومة، أم إلى اندحاراته المأساوية؟ أين العراق؟ سماؤه مغلقة، وحدوده موصدة. وأمام كل بيت مخبر دنيء، وجلف. أدخل إلى السجن مع كل سجين، وأدمع مع كل امرأة يموت وليدها بين يديها. أجوع مع كل جائع لم يتعود على التسول، وأكفر مع كل فتاة تترزق من جسدها لأول مرة. اقف مع طوابير النساء الحوامل على قرصة خبز أو حبة دواء. أرى نساء يشربن من ماء البرك الراكدة بلا غلي. بطون الأطفال منفوخة بالمرض، ووجوههم الصفراء تقطّع النياط. العراق يُحرّم فيه البكاء على الأموات، وأمام كل بيت مخبر دنيء وجلف.

مقالات قد تعجبك
اترك تعليق

لن يتم نشر أو تقاسم بريدك الإلكتروني.