غصنٌ مُطعَّمٌ في شجرةٍ غريبةٍ || صلاح نيازي (9)

سيرة ذاتية | الفصل التاسع

هل العراق عراقان : جلاد وضحية؟ هل الوطن في الغربة الطويلة وطنان : خيالي وواقعي؟ هل الوطن هواء وماء وتراب أم أنه خريطة موشومة في الذاكرة؟ هل الوطن باب مفتوح أم باب مغلق؟ هل الوطن مخبر أم أديب؟ هل نَبَت الجلاوزة والأبالسة من لا شيء بالعراق؟ يا فلاسفة العالم هل نبتوا من لا شيء؟

الحرب طاحنة ساحقة ماحقة ضروس. الإعلام لغة خبيثة خائفة. لغة الإعلام ملوثة. اللغة الإعلامية أكبر ما تعاني منه الكرة الأرضية من تلوث. الإعلام العراقي منتصر بقدر ضحاياه، والإعلام الغربي يجرّعك السم بالشوكولاته والدواء والحلوى. اللغة الإعلامية أكبر ما تعاني منه الكرة الأرضية من كوارث. أكبر من كل كارثة حتى ولو نزلت ببلدٍبكامله، ومن كل وباء حتى وإن التهم مدنا ومعابد ومواشي. أين أجد «فسحة الأمل» یا طغرائي؟

قلتُ متابعة نشرات الأخبار، كالسير في حقل ألغام. النجاة مرة، ليست نجاة مائة بالمائة. لابدّ من مخرج. تعودت منذ سنين طويلة، كما قلت سابقاً، كلما ألمت بي ملمة ألجأ إلى حيلة، ربما عادت عليّ بفائدة من حيث لا أدري. كنت ألجأ إلى قاموس «تاج العروس» وأقرأ صفحات لا على التعيين. قراءة شاقة كما تبدو لأول وهلة. وهي كذلك؛ لأنْ لا وجود فيها لترابط الكلمات، وبالتالي لا ترابط في المعاني. وهذا بالضبط ما أردته من وراء القراءة الشاقة، لنسيان همومي الصاكّة.

لكن حروب العراق هذه المرة، على شاشات التلفزيون بالألوان. الدم موثق بحمرة قانية على التراب. الأطراف المقطوعة موثقة بنمالها، الرؤوس المفلوعة موثقة بكسر جماجمها. الأفواه مكسورة بالطول والعرض. وراديو بغداد في عرس من الانتصارات.

أضفت إلى قاموس «تاج العروس» قاموس أكسفورد فلم ينفع. قلت لأجرب هذه المرة الترجمة، ابتدأت بمكبث وهاملت. شدتني قيم شكسبير وتعمقاته في السلوك البشري، ثم انتقلتُ إلى ترجمة يوليسيس لجويس. رواية شاقة بلا رحمة. أنانية؛ لأنها تتملكك، ولا فكاك من أسرها. وجدت فيها كما يجد الجندي الأسير منجاة من نوع ما، حين يقع أسيراً.

لأعترف أنني لستُ مترجماً. لم أحلم في يوم ما أن أكون مترجماً. ما قمت به لحدّ الآن كان اضطراراً. لأعترف أكثر أنني لستُ موهوباً بهذا الفن الصعب. ليست لي قابلية على تقمص روح الكاتب الأصلي بلغته الأم، لأعيدها حية في لغتي الأم. كنت مثل بنيلوب تحوك من الصباح إلى المساء، وفي الليل تحلُّخيوط ما حاكت. مجرد حيلة للنجاة. كذلك كانت الترجمة بالنسبة إلي حيلة للنجاة. هل نجوتُ؟

ماتت والدتي بالسرطان والترمّل الطويل. مات أخي الكبير بتشمع الكبد. يشرب الخمرة من أول تمغط في الفراش. قال لي على الهاتف ما من فائدة. قررتُ أن أموت. إرادة عجيبة لم أصدقها. ظننته عاجزاً يستدر العطف كالعادة. كانت أخبار ابنه في الحرب قاتلة لأي توازن: ابنك مفقود، ابنك أسير، ابنك: البقاء في حياتك. البقاء في حياتك، ابنك أسير، ابنك مفقود. تشبع دماغه بالفقدان والأسر والموت. ثلاث مطارق فتحت ثلاث ثغرات في دماغه. قررت أن أموت. تشمع الكبد. مات فعلاًبإرادته. شعرتُ وأنا أفقد والدتي وأخي، أن آخر جذرين لي بالعراق کُسرا. أصبحتُ كطائرة ورقية انقطع خيطها. تتقلب على غير هدى، وبلا إرادة، وأنا بغير إرادة وعلى غير هدى أقلب صفحات الكتب والوجوه بلا فضول. حتى مشيتي تغيرت. أمشي ببطء، ولا أتفرس في المارّة. لا أتلهف لشيء كمن جفت كبده من العطش وظلت خطواته بطيئة؛ لأنه عرف أن النهر جفّ، فلم العجلة؟ إذا وقعت السكينة على الرقبة، فهل يقلق الخروف: كيف يُطبخ أو من سيأكله؟

أأنتمي إلى انتصارات العراق الموهومة، أم إلى اندحاراته المأساوية؟ أين العراق؟ في الذاكرة، أم في خريطة أطلس؟ مدنها نقاط بلا شوارع، وأنهارها خطوط متعرجة بلا جريان ولا نوارس؟ هل العراق بطاقة بريدية، أم تراب وماء وشجر وبشر؟

بين عشية وضحاها، بتُّ مثل مقامر ساذج. تزينت في نفسه الأرباح. وحين خسر كل شيء تنمّل ولم يغادر المكان. راح يراقب بقية اللعب إلى آخر الشوط للا سبب، وبندم جارح. كذا أراقب المقامرين إلى آخر الشوط، وقد خسرت كل شيء. ثم ماذا بعد ذلك؟ هل أنني أعيش لأنني أخاف من الموت؟ نحن العراقيين لا نحب الحياة، ولكننا نخاف من الموت، فنعيش على مضض.

يضيق الوطن إذا أصبحت الحياة فيه مقامرة على إنسانيتك، وكينونتك. ما من ربح في هذه الحالة، والهرب من الحدود هو ربحك الوحيد. لغاتي تتكاثر في داخلي بصمت. أدخل إلى السجن مع كل سجين، وأدمع مع كل امرأة يموت وليدها بين يديها، أجوع مع كل جائع لم يتعود على التسول، وأكفر مع كل فتاة تترّزق من جسدها لأول مرة. أقف مع طوابير النساء الحوامل على قرصة أو حبة دواء. لغاتي تتكاثر في داخلي بصمت، وأنا أضمر. أضمر وأشحب، وثيابي مهدلة. أزراي مهملة. صرت سجني وأنا طليق بلا تاريخ. اللغة الإعلامية طاحنة ساحقة ماحقة ضروس. وباء يأتيك في كل الاتصالات السلكية واللاسلكية والفضائيات، تتنفسه وأنت تعرف نتن تلوثه. الهواء موبوء من أقصى القطب إلى أقصى القطب، وينتشر بأسرع من دوران الشمس والقمر والأرض. والإعلام العراقي متسيّف وغبي. لغته أميبيا، تمتصّ روحك كقرادة. اللغة الإعلامية قرادة بالكامل، تشفط وتمتص وتبقى قرادة، حتى لو جاءت على شكل شكولاته أو حلوى.

 مر على بالي ما قاله صديقي الروائي العراقي: لم أعد أصدق أي شيء أقرأه باللغة العربية حتى لو كان صدقاً. في الواقع فزعتُ من كل الكلمات التي لا تأتي بالعلاج الفوري للعراق. فزعتُ من كل الكلمات التي ليست لها قوة السحر، نأخذه أقراصاً في الليل، ونستيقظ في الصباح ونحن فاقدو الذاكرة، كأن الماضي لم يكن. كيف حدث ما حدث؟ لا يمكن أن يحدث. أين كان ملايين البشر حينما حدث؟ أين الجامعات والأساتذة والسياسيون والفقراء والجنود؟ من يصدق ما حدث؟ هل سيُكتب في التاريخ وتقرأه الأجيال القادمة في الكتب المدرسية؟

أيتها الأجيال القادمة العنونا صباحَ مساءَ. نستحق الرجم والاحتقار. نحن مقطوعو الصلة بالماضي والمستقبل. نحن جيل طارئ راضخ، خلقنا من نطفة لا بشرية، ومن علقة وحوش كاسرة، مَنْ لم ينتحر أو يفخخ نفسه، فهو خائن للحياة.

اللغة الإعلامية المعارضة، هي الذراع الأخرى للكماشة. تبدأ بالعراق فتصوره سجناً كبيراً وقواویش رطبة مظلمة، ولا تنتهي بأدق تفاصيل قلع العيون والأظافر والاغتصاب الجماعي وكسر الاذرع والأعمدة الفقرية. ما من سماء ونجوم وعشاق في العراق. ما من نهرين وضفاف وقمر. ما من ثمر وهديل وفسائل. اللغة الإعلامية المعارضة قاتلة بصدقها. يا رب اجعل صدقها مجرد إشاعات. من يصدّق ما حدث؟

ليتني ألمُّ نفسي وأرحل. أين أولي من السماء والأرض، يا معرّي؟ في مكان قصي لا يعرفه أحد. آخذ قرصاً في الليل، واستيقظ في الصباح وأنا فاقد الذاكرة. ليتني أنسى كل لغة، ولغتي الصمت. قُتل الصمت بالعراق. نتخاطب عادة بالكلمات، ولا يمكن لنا أن نتفاهم إلا بالصمت. الصمت مملكة الإنسان السرية الداخلية، وهو أكبر المناجم وبالعراق قُتل الصمت. ألد أعداء السياسيين، الصمت؛ لأنه مملكة الإنسان السرية الداخلية. ينزعونه منك بالتعذيب. بقلع العين والظفر والاغتصاب. فلنبشِّر بالصمت، ونرجم أنفسنا. نرجم أنفسنا ونبشِّر بالصمت، وليكن ندمنا جارحاً حدّ النزف. جارحاً حد النزف. لنبشّر بالصمت ونجعله أغلى طقس ديني. حصة للصمت في اليوم في المناهج الدراسية. الغناء ترتيل الصمت. الموسيقى أوتار الصمت، الرسم قوس قزح الصمت. الشعر عصارة الصمت. الفن أصلاً لا يكون أصيلاً وخالداً ما لم ينبت في الصمت أولاً. وفي العراق قُتل الصمت، والكلمة التي لا ترضع من الصمت لا تكون شجرة طيّبة. والشعر بلا صمت نظم ودندنة وضوضاء.

في أحد الأيام بالناصرية، مُنع التجول بسبب إحصاء النفوس. كان نهاراً فريداً في حياتي. رأيت الصمت من النافذة يسور المدينة. لأول مرة رأيت المدينة بجلال مهيب لم أره من قبل. سمعت الصمت كما لم أسمع شيئاً مثله. الشوارع تمتد وتنعطف، وعند كل عكسة تتلاقى، تتزاور وكأن بعد فراق طويل. الأشجار تتحدث برقة فيما بينها وتضوع. هديل الطيور نواقيس في معابد. المدينة معابد مدت أعناقها إلى السماء بخشوع. بالصمت أصبحت المدينة طازجة ولها أجنحة الشقراق. لنحتفل بالصمت، وفي الروزنامة نرسمه بأجمل وحي. تبارك الصمت.

بعد ثلاثة أسابيع من الحمى والسعال، عدت إلى ما كتبت عن الصمت أعلاه. رأيت فيه شططاً، ورأيت فيه ميوعة. شطبت على الفور عشرات الجمل. نقلته مجدداً، مزّقتُ المسوّدة ورميتها في سلة المهملات وندمت. لماذا فعلت ذلك؟ هل لأحسن صورتي لدى الآخرين؟ هل كل ما كتبته في هذه السيرة خديعة وتضليل؟ رحماك ياربّ.

مضت عدة أشهر وأنا أتفادى اللغة: صحيفة ومذياعاً وشاشة وأصدقاء. من كان يدري أن اللغة التي صرفت من أجلها كلّ عمري تقريباً ستكون عدوي الأول؟ وأن القاموس الذي سحتُ فيه كمكتشف، سيكون لي مصيدة أتفاداها؟

حقّاً عجبت من أمسي ويومي. عالمان منفصلان رغم التقويم شقيقان من أمّ واحدة، وأب مختلف. كنت بالأمس أعاني من الآلام الجسدية، برداً وجوعاًوتشرّداً، وها أنني اليوم محاصر أشد حصار بالأمراض النفسية. حنجرة تكره أوتارها. ذاكرة ندمت على ما خزنت من كلمات. عين تخاف مما ألفت. أذن منذعرة من مطرقتها والسندان. شربت أقراص فقدان الذاكرة، فاختلت حياتي. لا يمكن للإنسان أن يعيش بلا ماضٍ. الشجرة لا تعيش الفصول بلا جذور. لكنني انقطعت عن الماضي، وأعيش كيفما اتفق. لا يهمني أبداً حلم كلكامش بالخلود. ما يعنيني الآن من كل لغات العالم وقواميسها كلمة واحدة أو كلمتان: شُفي العراق. إذن ما كان لم يكن، وما حدث مجرد كابوس. كل مذهب، كل فلسفة، كل شعر، كل سياسة لا أجد فيها ذلك الشفاء باطلة. عبرت سبعة بحار يا كلكامش ولم أجد الشفاء. وها أنني مشرد خائب، بلا ماضٍ،وسقطت هويتي حين رجعت من البحار السبعة.

لكن لابدّ من هوية، أية هوية. ما من شفاء ولكن لابدّ من هوية، ولو كان آجرّة سومرية في صندوق زجاجي في متحف. حقا حفظت الشعر العربي، كأحسن ما يكون عليه الحفظ أيام الدراسة، وقرأت أمهات الكتب كأحسن ما يكون عليه الاستعداد للامتحان. لكن كنت مثل غصن طعِّم في شجرة غريبة عنه، نما وظل غريباً. هل كنت غريباً عن التراث العربي ولم أعرف غيره؟ نموت فيه وظللتُ سومرياً؟ لساني خارج من خيمة صحراوية وقدمي بأور؟ أين جذوري الحقيقة؟ ثمة شيء مفقود في كل ما كنت أقرأ من تراثيات. أتلذذ بما كنت أقرأ، وثمة شيء مفقود. وفي لغة الناصرية، كلمات لا تعثر عليها في كل قاموس. حروف لا وجود لها إلا على ألسنتنا نحن في هذه المدينة البائسة المدحورة. حتى طريقة حديثنا تختلف، ونروي القصص بأسلوب لا مثيل له في القصّ الذي قرأته. هل كنتُ غصناً طُعِّم في شجرة غريبة؟ مع ذلك لم يُثمر إلا ثمره هو؟ لماذا أشغل نفسي بهذه السفسطات ما دامت حياتي قد ارتبطت بجذور جديدة. قلت أقلعت عن القاموس منذ أشهر. أراه على الرف، مهجوراً أتألم وازداد عناداً: لن أقربه. حتى الملحد يتألم إذا رأى معبداً قديماً مهجوراً. يكابر أول الأمر. هل يدخل؟ هل يدخل؟ يدخل ويعلل دخوله بمجرد الفضول، ثم ينتشر الله في جسده.

اقلاعي عن القاموس، وعن التفتيش عن هويتي، قرار لا رجعة عنه. ولكن ما معنى «سومر» أو هل لكلمة «اور» وجود في قاموس تاج العروس؟ فتحت القاموس بحجة منطقية. وكمدخن أقلع عن التدخين وشمّ علبة سكائر فارغة، تنشقها فطلب سيكارة باستحياء، قبل أن يشتري علبة كاملة مع علبة كبريت. لكن إيجاد كلمة سومر وأور لا علاقة له بالمثل الذي ضربته عن المدخّن. إني مدفوع بفضول علمي.

(ما أسهل خديعتي لنفسي، ولدي أعمق التبريرات لتقبلها!). قبل أن أصل إلى الكلمتين، نظرت إلى كلمات هنا وهناك بلا أبالية, أولاً كمن ينظر بلا أبالية إلى أمرأة خدعته وعادت. نظر إليها نظرة من يستحي أن يصفح عنها من دون تأنيب، وكل حجيرة في جسده تصيح: تعالي. لم يفارقني دفئك ليلة، فاقشعرّ. لم يصفح عنها فتعذبتْ، وتعذب أكثر وذابا لهاثاً. اللهاث حمى الصمت، وهو أسخنه.

لهثتُ فزعاً. «صارت عيوني بالطول» دهشة. ما من أثر لسومر. تكلّم نوح لغتها. ابتدع قومها الكتابة. صنعوا الآلهة والبيرة وجعلوا للمعابد والزنى الحلال طقوساً وأقانيم. اكتشفوا علم الفلك وقسموا الحياة إلى سنين والسنين إلى أشهر… إلى يومنا هذا. رأيت الكتابة السومرية مذ كنت صغيراً بعيني هاتين. لمستُ الألواح والرقم بيدي هاتين. سرت بين جدرانها، وخفت من ظلام سراديب قبورها. إمبراطورية امتلكت الأرض، وليس لها أثر في قاموس تاج العروس.

مازالت بعض كلماتها شائعة بيننا بالناصرية وأين أور؟ أور.. أور. (والأُور، بالضم: صقع من أصقاع رامَهُرْمُز ذو قرىً وبساتين). أهذا كل شيء يا سيد محمد مرتضى الحسيني الزبيدي؟ أين رامهرمز هذه؟ أعرف يا سيدي كم تعبت في جمع قاموسك، لكن هل تدري أننا نشمها، نشم أور كلما كانت الريح شمالية؟ حين نتعب من اللعب نستريح تحت جدرانها؟ سفرات مدرسية على مدار السنة. ملء أفواهنا الأناشيد، وفي حقائبنا رائحة الخبز والمخللات، وما ألذ البيض في السفر! كيف انسحب نهر الفرات عن أور أميالاً؟ هل ماتت عطشاً؟ أم قُتلت أولاً، وفزع الماء وهرب؟صمد أسد أريدو بكامله، فأنتُشل من تحت التراب. يقف الآن إلى الجانب الأيسر من سراي الحكومة بالناصرية، وملء وجهه حيرة؟ ما الذي حدث لا يمكن أن يحدث ما حدث.

كان تمثال أسد أريدو أول تمثال أراه في حياتي. أصبحتْ حياتي نهباً لأفكار متضاربة، أحبّ الشيء وأنقضه، ما تمتعت بصحبة إلا وكان الندم عاقبتي. كان الشاعر الإنكليزي “تنيسون” يتلذذ بما يحب اليوم ويكرهه في الغد، لكن موقفه المتناقض هذا لا ينم إلا عن ترف فكري، ووفرة ما لديه من خيارات. كان ينتقل من فكرة إلى فكرة كما تنتقل فراشة في جنينة، وأنا لا أنتقل إلا من كرسي إلى كرسي في عيادة من شدة الملل؟ هل فقدتُ قابلة الحسم والجزم كغريق يتخبط ولا يعرف السباحة. لأكن مريضي وطبيبي، ورأسي وعيادتي، هجرتي إلى داخلي، ولأتعرف عليّ، أولاً، وعلى جذوري الخفيّة.

زارني صديق كان قادماً من بغداد، بمنتهى الفطنة والألمعية. له قدرة عجيبة على الضحك على نفسه وإن بدا، حضارياً، لم يخل من هستيرية، وهو إلى ذلك متعتع كأثاث جديد لم تُشد مفاصله بإحكام. من أول قصيدة قرأها عليّ، أدركت أن ملكته الشعريه أعلى مني. أخرج من جيبه الأيمن قصيدة في مدح رأس الحكم بالعراق. استغربت من قوة القصيدة وصلافتها بالقياس إلى ما سرده عليّ من متاعب على يد ذلك الرأس. لم أحرجه. قال أسمع: وضحك تلك الضحكة الهستيرية إياها : أخرج من جيبه الأيسر قصيدة أخرى، أظن كان عنوانها «بشری» وهي من أجمل ما سمعتُ من خلابة وذرابة في الشعر المشحون بالرفث والهجاء لرأس الحكم بالعراق نفسه.

 ضحك ثانية ضحكته الهستيرية وتوقف، ثم قال هذا هو الوضع: صنع منا قروداً، وإلّا كيف نعيش؟؟ رشّ على وجهي غيمة دخان أسود.

قصيدة «بشرى» صوتية على لسان مذيع يبشر مستمعيه بأن رأس الحكم سيأتي إلى الإذاعة،ويعلن للشعب عن بشرى. يتابع المذيع بصوت فرح متشنج موكب رأس الحكم من القصر الجمهوري، من شارع إلى شارع ومن منعطف إلى منعطف، وهو يكرر بشرى، أعظم بشری، نزفّ لكم أعظم بشرى، إطلاق نار، بشرى، أعظم بشرى، لقد أغتيل رأس الحكم، بشرى، هذه أعظم بشری، هللوا وكبروا، بشری.

خرابنا في داخلنا وهذه أتعس طامة، أصبحنا كالخشب المأروض. لأكن مريضي وطبيبي، رأسي عيادتي. لأتعرف عليّ، أولاً، وعلى جذوري الخفية.

أندفعتُ وكأن بقوة غيبية إلى دراسة تاريخ السومريين، ولم تكن متيسرة بين يدي إلا المصادر باللغة الإنكليزية. في الواقع هناك عشرات الكتب والمجلات المتخصصة باللغة العربية، ولكني فضّلتُالمصادر الأجنبية حتى يسهل علي التباهي أمام الأجانب. كيف أتخلص من هذا الحسب والنسب، والتنابز بالأصل والفصل؟ كذلك ما قلته قبل أسطر من أنني (اندفعت وكأن بقوة غيبية إلى دراسة السومريين) لا يخلو من صبيانية ومبالغة. لا أدري لماذا استعمل كلمات لا أعنيها. نبهني المعلم في درس الإنشاء مرّات عديدة على هذه العادة. أمرني مرة:لا تكتب أشياء لا تعنيها؟ ما الذي قصدته بالقوة الغيبية، لا أدري.

المسألة ببساطة، أنني فكرت بجدية، أن مشاكل العراق لا يمكن أن تفهم مالم يفهم ماضيه. لابدّ من وجود صلة أو صلات. ربما أن العراق: شَطرٌ صحراءُ، وشطرٌ نهر، إذن لابد لي من دراسة أدب الرمال، وأدب الماء والطين المفخور. لكني شعرت من قبل بغربة في الصحراء لا حيواناتها ما ألِفتُ، ولا نباتاتها – إن وُجِدت – ما عرفت. صليل سيوفها أحمق الأصوات، وفخرها مُخزٍ.

 مرة أخرى أجد نفسي أهرف وأهذي. لم تكن المسألة بتلك البساطة، ولم يكن همي إيجاد الصلة أو الصلات بين ماضي العراق وحاضره. لست مصلحاً، ولا رائداً ولا قائداً. ما جرّني إلى قراءة السومريين، لا علاقة له بأحد غيري. كنت أتشبث بالحياة بعنف على عكس ما أتظاهر به. وخشية انهياري أمام الأنباء المفزعة الهابة من العراق، أردت أن أشغل نفسي عنها. أصيب كثير من أصدقائي بالانهيار العصبي، وضغط الدم وتصلب الشرايين والسكتات القلبية. ذبلت وجوههم ونشفت من جراء تلك الأنباء. نصف مليون قتيل. مليون قتيل. مليون ونصف قتيل. ثلاثة ملايين يعبرون الحدود. عمارات مكسورة الأرجل باركة على الأرض وشبابيكها مسخمة بلا زجاج. شوارع بكاملها تتسول. أردت أن أحمي نفسي من الانهيار، فاختبأت بجبن وأنانية بين عاديّات سومر ورقمه وألواحه. وحتى أضفي على نزعتي الجديدة مُبرراً منطقياً، رحت أتساءل ماذا يعني أن تبني حضارة وتندثر؟ إمبراطورية وتندثر؟ أن تصوغ لغة يتحدث بها مئات مئات الآلاف من الناس وتندثر؟

كنت طيلة حياتي، كغصن مُطعِّم في شجرة غريبة. هل يمكن لذلك الغصن أن يعود إلى جذوره السومرية الأصلية؟ ما الفائدة؟ في الواقع لم أكن أفتش عن جذوري الأصلية بقدر ما كنتُ أملأ فراغاً.

حقا، كنت أشعر بغربة حتى في أكثر الأجواء حميمية. من يصدق أنني كنت غريباً حتى عن والدتي وأخوتي. أتلذذ بعاطفة أمي وأشعر بغربة، أتمتع بصحبة أصدقائي وأشعر بغربة، أحب الناصرية وأشعر بغربة، وببغداد كانت الغربة جارحة.

أردت أن أعرف سبب هذه الغربة الغامضة، فلم أفلح. كلما فكرت بها ازدادت غموضاً. لماذا حزني منذ الصغر أكبر من كل بيت، وأطول من كل شارع؟

ثمة شيء مفقود في حياتي، لا أعرف كنهه. أكتب قصيدة بانفعال ساخن أو بانفعال بارد، وثمة شيء مفقود فيها. مثل ظامئ يروي غليله بقدح ماء. ينتعش في حينها، وبعد ساعات يعطش كأن لم يشرب ماء في حياته. هكذا كنت أكتب الشعر أنتشي ثم أشعر بشيء مفقود. هل كنت أفتش عن حل دائم؟ عن جرعة ماء تصبح نهراً دائما في صدري؟ أقرأ دستويفسكي ويتورم جسدي من الألم، وثمة شيء مفقود. أقرأ لوركا على ضوء ظلامه الأخضر، وثمة شيء مفقود. أقرأ المتنبي وأعلّم على تعابيره المحكمة بالسيف، وثمة شيء مفقود. أقرأ شكسبير، وأسوح في النفس البشرية، وثمة شيء مفقود. صعدت مع دانتي في فردوسه وجحيمه، وثمة شيء مفقود.

هل لابدّ للغصن المطعم في شجرة غربية من عودة إلى جذوره الاصلية؟ 

«على هونك» قلتُ لنفسي. لماذا كل هذا الركض واللهاث وراء شيء قد لا يكون حقيقياً؟ ربما هذه هي الحياة، وليس ثمة شيء مفقود، إلا أننا نحن الأدباء نحاول أن نضفي عليها أشياء غير موجودة، فنخترع آراء وهمية نصبح أسرى لها طيلة حياتنا. تمر على الإنسان سنين ومراحل، وكلما ابتعدت، حنّ إليها. و كلما كان المستقبل غير آمن، ازداد حنينه إلى السنين الأولى، من الرحم إلى الإرضاع إلى الحضن. تصبح السنين الأولى ملجأً وفردوساً مفقوداً في آن واحد. لكن الأمّ تشيخ، يعقم رحمها، وينشف نهدها، ويتكرمش. عندئذٍ لا تعود ملجأً أو مفزعاً. مع ذلك يبقى الرجوع إلى السنين الأولى، الحلم المستحيل. نغمض عيوننا، فنراه. نفتح عيوننا فلا نرى سوى بقية جدران وزقورة مثلمة ورُقُم وألواح. يصيبنا الاطمئنان بأننا عثرنا على الشيء المفقود. سعادة وهمية لا تعدلها سعادة.

لكن ماذا لو حلت ساعة النشور وقام السومريون بكامل هياكلهم ولحمهم ولحاهم وقلائد نسائهم، ألا نختلف معهم الآن؟ ألا نتنابز ونتقاتل. يبدو أن الإنسان مدفوع بالغريزة على العثور على الشيء المفقود، على اللقاء. وما هم بعد ذلك كيف سيكون الوداع.

مع ذلك نقرأ في كل آجرّة سومرية سحراً، حتى لو كانت في الأصل في جدار سجن. ونسمع في كل بلاطة حمام نسائي كركرات وغزلاً مكشوفاًعميق الإثارة. بعثات لا تنقطع، ينظفون الحجارة بفرشاة رقيقة. سعادة وهمية لا تعدلها سعادة. ولأننا لا يمكن أن نضفي على مخلوقات الحاضر، وموجوداته، تخيلاتنا؛ نلجأ إلى الماضي، فنلبسه أجمل زينة. سعادة وما ضرّ إن كانت وهمية.

مقالات قد تعجبك
اترك تعليق

لن يتم نشر أو تقاسم بريدك الإلكتروني.