جناحٌ من حلم، قلبٌ من وطن || شعر فاطمة قاسم

شاعرة سورية | نصوص مدار 24

✦ المقدمة :

أنا لا أكتب لأُقال،

بل لأُحسّ.

أحمل في قلبي وطنًا،

وفي روحي جناحين من حلم،

وفي صوتي تراتيل من وجعٍ لا يُهزم.

هذه القصائد ليست حروفًا،

بل خطواتي على دروبٍ رسمتها وحدي،

بأصابعٍ ترتجف،

وبقلبٍ لا يهدأ.

لكلّ من يشبهني،

لكلّ من يحمل في داخله أنثى لا تُطفأ،

هذه الصفحات لكم،

وهذا الضوء منكم.

________________________________

✦ الفصل الأول : تراتيل الغياب

1. على حافة الغياب

تركتُ اسمي عند بابك،

ومضيتُ بلا ظلّ،

كأنني لم أكن سوى ارتعاشة في صوتك،

أو نَفَسًا ضائعًا بين تنهيدةٍ وأخرى.

كنتَ رحيلًا لا يشبه الرحيل،

كنتَ انطفاءً في عينيّ،

ونارًا في صدري،

كنتَ كلّ الأشياء التي لا تُقال،

ولا تُنسى.

الروحُ لا تهدأ،

تتخبطُ في زوايا اللحظة،

تلك اللحظة التي علّقتني بين الحياة والموت،

بين أن أكون،

أو أكون أكثر وجعًا.

أحملُك في داخلي كوصيةٍ لا تُنفّذ،

كقصيدةٍ لم تكتمل،

كطفلةٍ تنتظر يدًا لا تعود.

كلّ مساءٍ،

أعيد ترتيب حزني،

أغسل وجهي بدمعةٍ لا تُرى،

وأكتبك على جدران الصمت،

كأنك الحقيقة الوحيدة في هذا العالم المزيّف.

أحببتك كما تحبّ الأرض المطر،

لكنك كنتَ غيمةً لا تمطر،

وكنتُ أنا،

أرضًا عطشى،

تنتظر ولا تنسى.

• رقصة الحنين، حافيةً على الوجع

ترقص،

حافيةً كما وُلدت من الوجع،

كأنّ الأرض تعرفها،

وتحنّ إلى خطواتها التي لا تُشبه أحدًا.

كلّ تمايلةٍ منها تُعيد ترتيب الغياب،

كأنّها تُراقص ظلًّا لا يُرى،

وصوتًا لا يُسمع،

ونبضًا لا يعود.

الحنين ينسدل من أطراف أصابعها،

والذكرى تلتفّ حول خصرها كوشاحٍ من نار،

تُداري ارتجافها بابتسامةٍ لا تُقنع أحدًا،

وتُخفي انكسارها خلف إيقاعٍ لا يُسمع.

قدماها لا تطآن الأرض،

بل تمشيان على حوافّ الذاكرة،

تُراوغان الحنين،

وتُداعبان الغياب كأنّه شريكٌ لا يُمسك يدها.

كلّ التفافةٍ منها تُربك الهواء،

تُعيد للغرفة رائحةً كانت،

وللمساء نغمةً لا تُعزف،

وللجدران وشوشةً لا تُقال.

تمايلها ليس رقصة،

بل صلاةٌ تُؤدّى بالجسد،

ونشيجٌ يُترجم بالحركة،

ووجعٌ يُكتب على صفحة الضوء.

هي لا ترقص،

هي تُشفى،

هي تُعيد ترتيب نفسها

على إيقاعٍ لا يسمعه أحد،

لكنّه يُنقذها.

• ولادة على زجاج نافذة

كان الليل ينسدل على المدينة كستارةٍ من صمت،

وأنا في سيارةٍ تمضي ببطء،

كأنها تعرف أن شيئًا سيحدث،

شيئًا لا يُقال،

ولا يُنسى.

لمحته،

جميلًا،

كأن وجهه خُلق من ضوءٍ نادر،

كأن عينيه نداءٌ لا يُقاوم،

كأن الزمن توقف ليمنحني لحظةً واحدة،

لحظةً تكفي لولادة حب،

ولنهاية سلامي الداخلي.

توقّف الزمن،

ثم عاد،

لكنه لم يعد كما كان،

صار يكرر صورته على زجاج نافذتي،

كأن الليل صار مرآةً له،

وكأنني صرت ظلّ أنثى

تحدّق في وجهٍ لا يغيب.

طال الطريق،

والليل امتدّ كوشاحٍ من لهفة،

وصورته عالقة على ظلام النافذة،

كأنها وشمٌ لا يُمحى،

كأنها مرآةٌ لا تعكس إلا هو.

كانت لحظة ولادة،

ولادة حبٍ لا يطلب إذنًا،

ولا ينتظر وعدًا،

حبٌ جاء كوميض،

وغادر كجرحٍ لا يُشفى.

هلا فهمت يا رجلي،

معنى أن تُحاك من عينيك قصيدة،

تصيح بها أنثاك في مفارق الطرق،

كأنها تناديك من كلّ جهة،

ولا تسمعها إلا القصائد.

• قنديل الذاكرة

حين يتحوّل الحب إلى ذاكرة،

لا ينطفئ،

بل يضيء،

لكنّه لا ينير الطريق،

بل يربككِ،

يمنعكِ من التلذذ بالنور بعده،

كأن الضوء صار عائقًا،

كأنكِ لا ترين إلا وجهه في كل إشراقة،

ولا تسمعين إلا صوته في كل صمت.

الحب حين يغيب،

لا يرحل،

بل يتحوّل إلى قنديلٍ معلّق في صدرك،

يضيء حين لا تريدين،

ويخفت حين تحتاجين،

كأنه يعرف كيف يربككِ،

كيف يترككِ معلّقةً بين الحنين والنسيان.

أمنياتٌ غريبة تنمو فيكِ،

أن تراه في وجه غريب،

أن تسمعيه في أغنيةٍ لا تخصّكما،

أن تكتبي له دون أن تكتبي اسمه،

أن تحبيه دون أن تعودي إليه.

أنتِ لا تعيشين الحب،

بل تعيشين صداه،

تتذوقين طعمه في كل شيء،

لكنّكِ لا تبتلعينه،

كأنكِ تخافين أن يختفي إن نسيته،

وتخافين أن يؤلمكِ إن تذكّرته.

هو هناك،

فيكِ،

كقنديلٍ لا يُطفأ،

كظلٍّ لا يُغادر،

كقصيدةٍ لا تُكتب،

لكنّها تُحسّ،

وتُبكيكِ كلّما حاولتِ أن تبتسمي.

2. حين يمتدّ الخريف على جسدي

الخريف ليس فصلًا،

إنه امتدادٌ لغيابك على تفاصيل جسدي،

أوراقٌ تتساقط من ذاكرتي،

جلدي يشيخ من الانتظار،

وعيناي تنسى ملامحي،

كما نسيتَ أنت صوتي حين رحلت.

أنا الأنثى التي كانت جميلة،

قبل أن يسرقها الانتظار،

قبل أن يتحوّل الشوق إلى تجاعيد،

واللهفة إلى ارتعاشات لا تهدأ.

أتحدث عن الخوف،

عن ذلك الوحش الذي يسكنني كل مساء،

عن الألم الذي لا ينام،

عن اللقاء المستحيل الذي أراه في أحلامي،

ولا أصل إليه.

كلّ شيء فيّ يحنّ إليك،

حتى صمتي،

حتى حزني الذي تعلّم كيف يبتسم كي لا يفضحني.

أنا ظلّ امرأة،

كانت تحبّ،

ثم انتظرت،

ثم نسيت كيف تكون الحياة دون وجع.

3. حين تعود اليد التي غابت

بعد عامٍ من الغياب،

تتنفّس الأرض كما لو أنها خُلقت الآن،

كأن الأكسجين كان مختبئًا في صدرك،

وكأنني كنت أتنفّسك دون أن أدري.

كلّ شيء ينتعش،

الضوء يرقص على وجهي،

والهواء يمرّ بي كعاشقٍ خجول،

حتى قلبي،

ذلك القلب الذي اعتاد الصمت،

يخفق الآن كأنّه طفلٌ رأى أمه بعد فراق.

العناق…

لن يكون عناقًا،

بل طقسًا مقدّسًا،

يمتدّ حتى تذوب المواجع،

حتى تصمت الحروف،

حتى لا يعود للعتاب مكان،

فما جدوى اللوم حين تلتقي الأرواح؟

حين يصبح الحضور أبلغ من كلّ الكلمات؟

لكنّ الألم لا يختفي،

هو هناك،

يراقب من بعيد،

كظلٍّ لا يجرؤ على الدخول،

لأنه يعرف أن الأمل أقوى،

أن اللقاء يشفي،

ولو قليلاً.

أنا لا أطلب تفسيرًا،

ولا وعدًا،

يكفيني أنك هنا،

أنك عدت،

أنني لست وحدي في هذا الخريف الذي طال.

__________________________________

✦ الفصل الثاني: أنثى لا تُهزم

4. أنثى تطير بالحلم وحده

هي لا تمشي،

هي تطير،

بجناحين من حلمٍ لا يهدأ،

تخاف، نعم،

لكنها لا تتراجع،

تتعثّر،

لكنها لا تنكسر،

كأنها خُلقت من طينٍ فيه نُسج الضوء،

ومن وجعٍ فيه وُلد الرجاء.

تسعى لحلمٍ لا يجيء،

كمن تكتب رسالةً إلى غائبٍ لا يقرأ،

لكنها تكتب،

وتعيد الكتابة،

وتؤمن أن الحروف، إن صدقت،

تصل،

ولو بعد حين.

هي لا تملّ،

لأن التعب لا يعرف طريق قلبها،

قلبٌ يسكنه الحنين،

ويضيئه الأمل،

كأنها أنثى من نجمٍ وندى،

تتوهج حين يخفت الجميع،

وتحلم حين ينام العالم.

ترسم دروبها وحدها،

بأصابعٍ ترتجف أحيانًا،

لكنها لا تتوقف،

تزرع على أطراف الطريق أمنياتٍ صغيرة،

وتسقيها بدمعٍ لا يُرى،

وبضحكةٍ لا تُسمع،

وبإيمانٍ لا يُكسر.

هي لا تنتظر أحدًا،

لكنها تحبّ،

ولا تطلب شيئًا،

لكنها تعطي،

كأنها تعرف أن الحبّ الحقيقي لا يُشترط،

بل يُمنح،

كزهرةٍ تنبت في صخرٍ،

وتُزهر رغم كلّ شيء.

مقالات قد تعجبك
اترك تعليق

لن يتم نشر أو تقاسم بريدك الإلكتروني.