عالم يسكن راحة اليد || قراءة في يوتوبيا بحجم الكف

كتبه : عيسى طاهر إسماعيل

صدر ديوان جديد للشاعر الكبير زيرفان أوسي بعنوان “يوتوبيا بحجم الكف”، عن دار كتب، ضمن مشروع إشراقات وهي سلسلة شعرية يختارها ويشرف عليها الشاعر الكبير أدونيس. ومنذ أن سمعت بعنوان الديوان الشعري، وهو ما ينفك يأخذ بشغاف قلبي وفكري وبعد أن أهداني الشاعر نسخة من ديوانه الشعري، وجدت نفسي منقادا للكتابة عنه؛ فكان هذا المقال.

 

يوتوبيا بحجم الكف، يا له من عنوان أخّاذ آسر! يوتوبيا (Utopia) مشتقة من اليونانية حيث “ou” وتعني لا و”topos” وتعني مكان، أي “المكان الذي لا وجود له أو هو اللامكان”. لم يكن للإغريق عهد بهذا المصطلح إنما نحته توماس مور في العام 1516 عندما نشر كتابا بذلك الاسم.

 

ما يميز المكان هو ماديته التي تكوّنه أشياءه التي تحتويه، فإذا كان الزمن طيف يتجلى أثره فيما يتركه من آثار على الأشياء فإن المكان هو ذلك المرئي والواقعي الذي يتجلى بذاته من خلال أشياءه. ماذا نعني عندما نثبت مكانا في نفيه كما هو في يوتوبيا، من حيث هو المكان الذي لا وجود له أو هو اللامكان؟ ما الذي ننفيه هنا؟

 

يوتوبيا مجتمع خيالي مثالي يتسم بالكمال السياسي والاجتماعي والأخلاقي؛ هو حلم بعيد المنال أو هو المستحيل تحقيقه بشكل كامل؛ هو نموذج فكري متخيل لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع المثالي؛ هو أداة للنقد غير المباشر للواقع من خلال رسم صورة مغايرة له تماماً؛ هو تعبير عن الرغبة الإنسانية في التغيير والتحسين والسعي نحو عالم أفضل.

 

إذن كل ما هو يوتوبيا يرتقي بكل ما هو واقع وراهن من حيث الكمال في كل شيء، من خيّر وجمال وعدل. إننا بإثباتنا له في نفيه إنما ننفي عليه واقعيّته وماديته، نجعله شيئا لا يمكن الظفر به، بنفينا له نحن نهرب به إلى حيث لا يناله مطامع البشر وأهوائهم ومساعيهم في تخريبه وتشويهه وجعله نسخة مطابقة عن عالمهم المفتقر إلى الكمال.

 

حسنا فعل مور إذ نفى المكان من حيث أثبت أو أثبت المكان من حيث نفى؛ فنفي المكان من حيث ماديته يغدو أسهل للتشكيل والتصنيع وفق الرغبة. تشكيل وتصنيع العالم في صورة مضادة للعالم الواقعي، تغدو عملية صعبة، ليست بالسهلة أبدا؛ فحتى صانع أفلاطون لم يصنع العالم من العدم إنما صنعه من مادة أولية والمحرك الأول عند أرسطو لم يحرك عدما، إنما حرك مادة ما، بل حتى في الأديان السماوية وفي تجريدها شبه المطلق لتصوير الإله، هي بدورها تتحدث عن مادة قديمة صنع منها الإله العالم.

 

الكف هو المألوف مقياسا متاحا في أي وقت، هو سلف للأقيسة ذات الطابع الموضوعي فيما هو متغير بتغير أحجام الكفوف، هو من الأوائل من بين المقاييس التي تمثل الفطرة، ربما لعب أدوارا مهمة في تاريخ الحِيَلْ في أحجامه المتقاربة وفي أشكاله الجميلة المرنة التي خلبت عيونا فتغاضت عن مرام أصحاب الحيل المحاكة بخبث أو بمكر أو ما يضادهما. لكن الكف هنا لا يُختزل في الحجوم حصرا، فهو يمثل الصغر مهما كبر حجمه قياسا مألوفا للجسم كله.

 

الصغر هنا ذو دلالة مهمة جدا وهي السيطرة والتحكم، يوتوبيا بحجم الكف أسهل منالا للتحكم والسيطرة والتشكيل وفق أحلام الشاعر وكذلك هو أسهل حيطة للمحافظة عليها، بل إخفاءها عن كل متربص بضم اليد وعدم بسطه. والكف أيضا شيء قريب بما يمكن لمسه والتفاعل معه مباشرة دون وسيط، وكذلك هو الواضح البيّن، فما يوضع على الكف يكون ظاهرا مكشوفا للعيان. عندما نصف شيئاً بأنه بحجم الكف، فإننا نقصد بذلك أنه متوسط الصغر، مما يسهل حمله والتعامل معه، وهو من المقاييس الإنسانية المباشرة التي تربط الأشياء بجسم الإنسان.​​​​​​​​​​​​​​​​

 

إن العنوان يوحي بديوان شعر يتناول العلاقة بين الأحلام الكبيرة والواقع المحدود، وكيف يمكن للإنسان أن يجد المثالية والكمال في التفاصيل الصغيرة في الحياة، أو أن يخلق عالمه المثالي الخاص رغم محدودية قدراته وإمكاناته.​​​​​​​​​​​​​​​​ والعنوان يجمع بين المتناقضات بطريقة شاعرية عميقة، فلا يمكن لنا إلا أن نحمل على يوتوبيا صفة الاتساع والكبر، بما أنها مطلق في كل ما هو مثالي، لذا ربما كان اللامكان من حيث كثافته في تحصيل ما هو تام ومثالي يحوز على صفة الاتساع والضخامة. والكف مهما اسرف الخيال في تضخيمه فإنه يبقى حائزا على صفة الصغر والمحدودية قياسا إلى الجسم كله، فحتى كف عملاق، هو صغير قياسا لضخامة جسده. من بيان ذلك، نرى أن العنوان قد جمع في صيغة شاعرية مبهرة بين الضخامة والصغر في توليفة عالية متقنة.

 

يمكن أن نؤل العنوان ضمن الوحدات الدلالية التالية :

 

تصغير الحلم الكبير / الأحلام المثالية الكبيرة (اليوتوبيا) يمكن اختزالها وتصغيرها لتصبح بحجم يمكن الإمساك به وحمله (الكف)، تحويل المستحيل إلى ممكن، يمكن من خلاله خلق واقع آخر على نحو جديد ومبتكر.

 

الحميمية والقرب / الكف قرب وشخصي وحميمي، فاليوتوبيا هنا ليست مدينة فاضلة بعيدة أو مجتمعا كاملا، بل هي تجربة شخصية قريبة وحميمية يمكن لمسها والتعاطي معها وتشكيلها من جديد على نحو من القرب والألفة.

 

المثالية المحدودة / قد يكون هناك علاقة قوية في وعي البشر من أن الكمال مرتبط على نحو ضروري بما هو مثالي وكبير، مشاريع كبيرة ورؤى عظيمة، لكن عنوان الديوان يخرج عن ذلك الوعي المألوف ويخلق لنا واقعا آخر أو وعيا آخر يقول، قد يكون الكمال الذي نبحث عنه موجودا في الأشياء الصغيرة والبسيطة أو يمكن لنا أن نخلق الكمال من خلال الأشياء الصغيرة والبسيطة، وليس بالضرورة في الرؤى الكبرى، وهنا أهمية الأشياء الصغيرة في تشكيل ما هو كبير وواسع.

 

القدرة والسيطرة / إمكانية امتلاك الإنسان لمصيره وقدرته على خلق سعادته الخاصة (يوتوبياه) بين يديه، الكف بدلالاته من حيث القرب والصغر يفتح إمكانيات كبيرة في القدرة والسيطرة.

 

التوتر بين الحلم والواقع / يعكس التوتر الدائم بين الطموح اللامحدود (اليوتوبيا) والإمكانيات المحدودة (حجم الكف). وهو توتر يصب في الأخير في مصلحة الكف بما أن المواد المشكلة منها العالم المثالي (يوتوبيا) هي اللغة التي لا تحد في تشكيل جمل وعبارات يمكن من خلالها خلق عوالم لا منتهية.

 

الواقع المتخيل/ لا يملك الشاعر وهو الذي لا يحوز على أداة غير اللغة إلا أن يبني عالما متخيلا مثاليا خاصا في قصائده، عالما واقعيا متخيلا صغيرا بحجم الكف، لكنه عالم كامل متكامل، عالم إنساني كبير.

 

 

¶ الإهداء: إلى النساء الأيزيديات الأسيرات 

 

الإهداء للنساء حصرا، وللأيزيديات حصرا مرة ثانية، ثم للأسيرات منهن حصرا مرة ثالثة؛ هذه الحصور الثلاث، هذا الحصار المضروب من جوانب ثلاث، يشي برغبة الشاعر في استثناء كل النساء من الإهداء ثم كل الأيزيديات من الإهداء وكل الأسيرات من الإهداء لتنحصر في “النساء الأيزيديات الأسيرات”، هذا الحصر الثلاثي، إذا ما ربطناه بعنوان الديوان، لظهر الغرض وبان: يوتوبيا بحجم الكف مهداة للنساء الأيزيديات الأسيرات.

في يوتوبيا بحجم الكف، هذا المكان المثالي الخيالي المتسم بالكمال السياسي والاجتماعي والأخلاقي، لهو التعويض الأنسب والأفضل للنساء الأيزيديات الأسيرات، وكأن الشاعر ولفرط حسه المرهف والإنساني، يريد أن يبني يوتوبيا بحجم الكف لتلك النساء.

 

¶ التعويض الرمزي وربطه بالإهداء

 

الشاعر يدرك أن النساء الأيزيديات الأسيرات قد عشن الجحيم الحقيقي، الخطف والاستعباد والإذلال، في مقابل هذا الجحيم الملموس، يقدم لهن “يوتوبيا” عالماً مثاليا بديلا، ليس كهروب من الواقع، بل كإعادة تأكيد على إنسانيتهن وكرامتهن المسلوبة، وكأن كل كمالات العالم ليست بقادرة على تعويضهن إلا يوتوبيا من حيث هو المكان اللامكان الذي يتجسد فيه العدل في كماله والمساواة في كمالها والعيش الرغيد في كماله.

في التأكيد على دلالات الكف من قرب وحميمية وألفة وحنان وعطاء وحماية، يدخل الكف في حرب مع الوحشيّة التي عشن فيها تلك النساء الأيزيديات الأسيرات. الكفوف والأيدي الصلدة والأرجل الصلبة والقلوب المستئذبة والعيون المتحجرة في محاجرها التي اجتاحت عالم تلك النساء، يعوضهن يوتوبيا بحجم الكف، حيث أمام الفضاءات الواسعة للخوف والعذاب، يقدم الشاعر مساحة حميمة، آمنة، قابلة للإدراك والتشكل على نحو آخر.

 

الديوان يصبح فضاء لتحرير هؤلاء النساء رمزيا وتعويضن، حيث يصبح من الممكن إعادة تعريف هويتهن ليس كضحايا وحسب، إنما كرموز للصمود والكرامة الإنسانية.

 

النساء الأيزيديات الأسيرات فقدن جنتهن الأرضية، بيوتهن، عائلاتهن، أمانهن، أحبابهن. الشاعر يعوضهن بجنة شعرية، صغيرة لكنها مكتملة، نقية، خاصة بهن.

الإهداء ليس مجرد تكريم، بل إعادة تموضع لهؤلاء النساء في مركز السرد – من هامش المأساة إلى محور الأمل والجمال.

 

عندما تعجز العدالة الحقيقية عن الوصول إليهن أو تعويضهن، يأتي الشعر ليقدم شكلاً من أشكال العدالة الرمزية، بإعادة إنسانيتهن وكرامتهن إليهن من خلال الكلمة. لكن لم الشعر تحديدا؟ لأن الشعر وحده من بين الفنون الذي في مقدوره خلق عوالم تضاهي العالم الموجود بل وتتفوق عليه، هو الفن الذي عدّه هيجل أسمى وأعلى الفنون، من حيث هو الفن الأقل حاجة للمادة الملموسة وأكثر تجردا من القيود الحسية.

شذرتان من يوتوبيا بحجم الكف. 

 

يرى هايدگر أن الشعر شكل مميز من الفن وشكل مميز من الكلام، لأنه يكشف لنا اللغة الأصيلة بطريقة تجذبنا إليها، وتدعونا لنتكيف مع ما هو جوهري حقاً في عالمنا، فلا عجب أن تبوأ الشعر مكانة عظيمة قبل أن تتشكل الأديان. وقدعدّ هايدگر النص الشعري قريبا جدا من النص الفلسفي وربما هنا يؤكد – إلى حد ما – الإتهام الذي يكيله البعض للفلاسفة بأنهم ليسوا أكثر من شعراء سيئيين.

 

كما يقول أن الشعر يحرر الكلمات من الاستخدام اليومي المبتذل ويعيد الكلمات إلى قوتها الأصيلة في الكشف ويخلق عوالم جديدة بدلاً من مجرد وصف الموجود؛ لذا أهتم هايدگر بالشعر وله نصوص تأويلية عميقة حول أشعار هولدرلين وتراكل وغيرهما.

في كتابه “أصل العمل الفني” يرى هايدگر أن الشعريؤسس الحقيقة بدلاً من مجرد نقلها، يفتح عوالم جديدة للمعنى والفهم، يحافظ على التوتر بين الانكشاف والاحتجاب. فيما يلي سأتناول شذرتين من يوتوبيا بحج الكف، الشذرتين هما: الشذرة رقم (2) والشذرة رقم (95).

 

الشذرة رقم (2)

أيتها الرمالُ

التي تمقتُ وطأة الأقدام

أما زلتٍ تنتشين بحركة البحر؟

 

الرمال كمتعدد تحمل مفارقة وجودية عميقة، فهي تكتسب هويتها من التجمع وليس من الفردية وقد سبق الفيلسوف اليوناني يوبوليدس الميلتوسي أن طرح مفارقة كومة الرمل ليطرح بذلك مشكلة الهوية، فمتى تكفّ كومة الرمل أن تكون كذلك عندما نأخذ ذرة منها في كل مرة حتى لا تبقى في الأخير إلا ذرة واحدة. هذا المفارقة تشير إلى أن بعض الكينونات لا تتحقق إلا في الجماعية، وأن قوتها تكمن في التماسك الجمعي رغم هشاشة الوحدة الفردية. إنها استعارة للجماعات المهمشة التي تستمد قوتها من تضامنها الداخلي.

 

الطبيعة المزدوجة للرمال، ازدواجية الصلابة والرخاوة تعكس حالة إنسانية عميقة، القدرة على المقاومة والقابلية للتشكيل في آن. الرمال صلبة بما يكفي لتحتفظ بكيانها، لكنها رخوة بما يكفي لتتأثر بالقوى الخارجية، وهذا يرمز إلى المرونة الدفاعية والقدرة على البقاء مع القبول بالتغيير القسري. النساء كجماعة مهمشة، النساء الأيزيديات الأسيرات، التي تكتسبن هويتهن من التجمع كنساء ومن التجمع كأيزيديات ومن التجمع كأسيرات، صلبات كي تحتفظن بهويتهن كما الرمال وفي الوقت ذاته تأثرهن بالقوى الخارجية العمياء التي تدوس عليهن في محاولة لمحو هويتهن.

 

الأقدام تمثل رمزية العنف الأعمى، القوة المجردة من الوعي الأخلاقي، إنها لا تأبه، أنها عمياء أخلاقياً، تمارس القهر دون تمييز أو رحمة. هذا العمى يشير إلى طبيعة العنف المنهجي الذي لا يرى في الآخر سوى موضوع للسيطرة والإذلال. تغيير الشكل هنا ليس مجرد تدمير مادي، بل تشويه للهوية ومحاولة لإعادة تشكيل الضحية وفق إرادة الجلاد.

 

البحر يمثل الأمل التطهيري، البحر يحمل دلالة القوة الطبيعية المضادة للعنف الإنساني. الترطيب هنا ليس مجرد تليين مادي، بل تطهير روحي وإعادة تشكيل بالحب بدلاً من القسوة، حركة البحر تمثل الاستمرارية الكونية التي تتجاوز لحظات العنف العابرة، البحر يمحي ما تركته وطأة الأقدام من تشويه لحق بالهوية.

 

الانتشاء هو مقاومة اليأس: أما زلت “تنتشين” تكشف عن صمود روحي استثنائي، رغم الألم الحاضر، تحتفظ الرمال بقدرتها على الانتشاء بالجمال الطبيعي. هذا يشير إلى أن الأمل ليس مجرد انتظار سلبي، بل فعل مقاومة إيجابي ضد محاولات سحق الروح. العنف يُشوه مؤقتاً، لكن القوى الطبيعية (العدالة، الحب، الزمن) ستعيد التوازن وتمحو آثار القسوة.

 

الذرة الواحدة (المرأة الواحدة) لا تحمل هوية “الرمال”، لكن اجتماعهن يشكل هذا الكيان الجمعي الذي يحمل هوية واحدة مشتركة. هذا التعدد يعكس كيف استُهدفت الجماعة ككل، وكيف أن المعاناة الفردية تصبح جزءا من مأساة جماعية.

النساء كن صلبات في إيمانهن وهويتهن الأيزيدية، لكن رخوات أمام القهر والعنف، قابلات للتشكيل القسري، للانكسار تحت وطأة الظلم. هذه الازدواجية تعكس الهشاشة الإنسانية أمام الوحشية المطلقة.

 

الأقدام العمياء لداعش – أقدام لا تميز بين إنسان وآخر، تداس دون وعي أو رحمة، تغير الأشكال الإنسانية إلى مجرد كتل مدوسة. إنها العمى الأخلاقي وفوضى الشر التي لا تعترف بالكرامة الإنسانية.

البحر الذي “يرطب ما هو خشن وصلب” هو استعارة للعدالة الآتية، للإنقاذ الذي سيغسل آثار الألم، للحب والحنان الذي سيعيد تشكيل هؤلاء النساء بلطف بدلاً من القسوة.

انتظار الموج الآتي يجسد الصمود رغم اليأس، فالرمال “ما زالت تنتشي”، الروح لم تنكسر تماماً، وأن الأمل في الخلاص والانتقام العادل ما زال حيا. إنه انتظار اللحظة التطهيرية التي ستنفض عن هؤلاء النساء كل آثار الوحشية.

 

 

الشذرة رقم (95)

أنا نمل يحمل الكون

أنا جرّةُ قرويّ

تُهادنُ العطشَ

أنا شبرٌ من الظلّ

مرميّ في جدار

 

 

تقدّم الشذرة الأنا في ثلاث صور متتابعة، لا بوصفها هوية ثابتة بل ككينونة متحوّلة تتجلى عبر رحلة وجودية ثلاثية: الحمل والمهادنة والرسمي. وهذه التحولات لا تمثل مجرد استعارات، بل خرائط أنطولوجية تكشف مسار الكائن في مواجهة ثقل العالم، وتعبّر عن انتقال الذات من الفعل إلى القبول إلى التلاشي، في رحلة تُجسّد المفارقة الإنسانية بين المحدود واللامحدود، وبين الحلم والخذلان.

 

في هذه الصورة الأولى، يبلغ التوتر أقصاه، الكائن الأصغر يتّخذ على عاتقه حمل الأعظم. ليست الصورة مجرد مفارقة بين ما هو ضئيل جداً وما هو عظيم جداً، بل هي تجسيد للعبء الوجودي.

فالنمل هنا ليس رمزاً للكدّ فقط، بل تمثيل للوعي نفسه الذي ينهض بحمل الكون، وإذا كان كل وعي هو وعي بشيء، كما يقول هسرل، فإن الوعي بالوجودية لهو الوعي الأثقل، هو الوعي الجذر الذي يتفرع منه كل أنواع الوعي بالأشياء.

 

إنّ “النمل الذي يحمل الكون” لا يحمل مادة بل يحمل معنى، لا وزناً بل وعياً بالثقل، فيصير الحمل مشروعاً وجودياً مستقبلياً يعبّر عن مسؤولية الكائن تجاه ذاته والعالم. وهكذا يتبدى فعل “يحمل” كفعل تأسيسي للكينونة، أصل الأفعال كلها، إذ لا وجود بلا حملٍ لمعناه، ولا وعي بلا عبءٍ يوازيه.

 

 

تتحول الأنا من فعل الإرادة إلى فعل المهادنة، من الصراع إلى التصالح، في انقلابٍ جوهري في الوظيفة الوجودية. فالجرة التي صُنعت للإرواء لم تعد تملأ، لم تعد تقوم بوظيفتها الوجودية كما يجب والتي من أجلها تكونُ؛ بل تهادن، أي تتقبّل العطش وتُصالح نقصها. إنها صورة القبول المرّ، لا بوصفه خضوعاً، بل باعتباره وعياً بحدود الممكن، واعترافاً بأن المقاومة التامة قد تُفقد المعنى. تُهادن الجرة العطش كما يُهادن الإنسان قدَره، لا لأنه استسلم، بل لأنه أدرك أن الحقيقة أوسع من قدرته على الامتلاء. إنها لحظة الحاضر، حيث تتوازن الإرادة مع النقص، ويصير العجز ضرباً من الحكمة.

 

الأنا الثالثة : شبرٌ من الظلّ مرميٌّ في جدار

تصل الذات هنا إلى أقصى درجات التلاشي، إلى الانمحاء. من حملٍ فاعل إلى مهادنةٍ واعية إلى رميٍ سلبيّ؛ من الإرادة إلى الغياب. الظلّ، بصفته وجوداً مشتقاً، لا يملك أصالةً خاصة؛ وجوده مرهون بغيره، كما في ظلال الكهف الأفلاطونية. والإنسان، كظلٍّ هو الآخر، مرميٌّ في جدارٍ صلدٍ للعالم، جدارٍ لا يختاره ولا يتحكم فيه. إنها صورة الاغتراب الوجودي، حيث الكائن يُقذَف في الوجود دون إرادته، كما يقول هايدگر. هنا يصبح “الشبر” وحدة القياس الإنسانية للغياب، مساحة ضوء صغيرة تقيس الفاصل بين الكائن والعالم، بين الحضور والزوال.

 

¶ حركة الوجود الثلاثية

في هذه الصور الثلاث تتجلى حركة الوجود عبر أزمنته الثلاث: المستقبل (يحمل): الوعي كمشروع وعبء ومسؤولية. والحاضر (تهادن): التصالح مع النقص والاعتراف بالمحدودية. والماضي (مرمي): المقذوفية الأصلية للوجود، حيث يُستعاد المعنى بوصفه أثراً باهتاً في جدار الزمن.

يتحوّل الفعل من الإرادي إلى التصالحي إلى السلبي، كاشفاً منحنى الكينونة الإنسانية بين الأصالة والسقوط، وبين المعنى والعدم.

 

وتكمن المفارقة في أن الصغر يحتوي العظمة: النمل، الجرة، الشبر وهي رموز تمثل الهامشي والضئيل؛ تتسع للكون، للعطش، للجدار. إنها استعارة كبرى عن الإنسان الذي، رغم هشاشته، يحمل في وعيه اللامحدود. هذه المفارقة هي قلب التجربة الشعرية في يوتوبيا بحجم الكف، أن يُختصر العالم في ما لا يُقاس، وأن يُرى اللامتناهي في كفٍّ صغيرة.

 

¶ اليوتوبيا المعكوسة

في هذه الشذرة لا يقدّم زيرفان أوسي خلاصاً، بل مواجهةً صافية مع ثقل الكينونة. فـ “النمل” لا يحمل الكون لأنه قادر، بل لأنه لا يستطيع أن يفرّ منه. و”الجرة” لا تهادن العطش إلا بعد أن أدركت عبثية الصراع معه. أما “الظل المرميّ في جدار”، فهو الإنسان وقد صار أثراً أخيراً في صلادة العالم.

 

اليوتوبيا هنا لا تُبنى كحلم، بل تنقلب إلى وعي باستحالة الحلم، إلى يقظة في قلب المأساة. إنها اليوتوبيا الوحيدة الممكنة: أن نحمل ثقل العالم دون أن ننكسر، وأن نفهم الألم دون أن نُفقده معناه. المكان الذي بدا حلماً بالتمام والكمال يغدو في النهاية اعترافاً بالمحدودية ووعياً بالمأساة بوصفها شرطاً للوجود.

زيرفان أوسي لا يبني يوتوبياه ليلوذ بها، بل ليواجه من خلالها العجز الإنساني في أصفى صوره، العجز الذي لا يُهزم لكنه يُحمل.

وفي هذا الوعي المأساوي يتجلّى الجمال، أن نعرف ثقل العالم ونحمله في كفٍّ صغيرة دون أن تنكسر.

هكذا تتحوّل “يوتوبيا بحجم الكف” من فضاءٍ للحلم إلى مساحةٍ للفهم، ومن مدينةٍ مثالية إلى كفٍّ مفتوحة على العالم، تُمسك بالكون لا لتملكه، بل لتتأمّله وتُبقيه حيّاً في اللغة.

مقالات قد تعجبك
2 Comments
  1. إبراهيم ناصر علق

    ديوان “يوتوبيا بحجم الكف” يبدو مثيرًا للاهتمام، وأتمنى أن يحمل في طياته معاني عميقة وجميلة كما يوحي عنوانه.

  2. لطيفة علي علق

    عنوان الديوان “يوتوبيا بحجم الكف” مثير فعلاً، ويبدو أنه يحمل في طياته عمقًا فلسفيًا يستحق الاستكشاف. أتطلع لقراءة المزيد عن أفكار الشاعر زيرفان أوسي!

لن يتم نشر أو تقاسم بريدك الإلكتروني.