حكايات عن مراكش || الحلقة الأولى _ سَحُّ الرَّمل

كتبه : أنيس الرّافعي

في يوميّاته المُعنونة ” مساءات غير عاديّة بعيدا عن بوينس ﺁيرس ” ، يُخبرنا لويس ، الملّقب في كلّ أرجاء المعمورة بـ “الحكيم الشاعر على نهج ابن المعّرة “، أنّهُ حلّ بمدينة مراكش سنة 1952 حُلول العارف الذي أبصرها قبل أن يرتحل إليها ، حينما كتبَ ، بإيحاء من ابن عربي ، عن محنة ابن رشد بين ثنايا ” كتاب الألف “. أمّا وصولهُ الحقيقيّ إلى الحاضرة الحمراء، فكان بعد عقدين من ذلك التاريخ الأوّل، وتحديدا منتصف شهر مارس من العام 1975.

 

كانت زيارة خاطفة، لم تستغرق سوى يوم واحد لا غير، قضّى لويس سحابته برفقة دليله السياحيّ السّي الأمين، الذي تفضّل بقيادته وسط حشود ساحة “جامع الفنا “، قصد الاستماع إلى رواة الحلقة وهم يسردون حكايات ” ألف ليلة وليلة “، كما توقّفَا عند امرأة تقرأ الفأل في خطوط اليد، ثمّ تجاذبا معها، لبعض الوقت، أطراف الحديث وطوالع النجوم.

 

وعندما اقتعدا كرسيين، من أجل شرب الشّاي الأخضر المنعنع على ناصية مقهى “ماطيش”، أخذَ السّي الأمين يحدّثُ لويس مطوّلا عن فنّان مُقعد غريب الأطوار، سليل المدينة القديمة، يُدعى مولاي لحسن، كان يعاني، فوق شلل ساقيه منذ الولادة ، من صداع غير طبيعيّ يشبه طَرقا لا يتوقّف على قحفة الجمجمة ، لدرجة أضحى معها مسكونا بوهم أنّ ثمّة شيئا ما داخل رأسه مثل الديدان تقريبا.

 

أسرابٌ منها كانت تخترق طبلة أذنه وهو نائم ، وتبيض هناك طوال الوقت بأعداد غزيرة مُحدثة صوتاً كسحّ الرّمل ، لكنّهُ لا يدري لِم لا تخرج تلك المخلوقات المائعة القذرة من الجهة الأخرى، وترفض، بإصرار، أن تغادر المياه الإقليميّة لدماغه ؟

 

الأدهى من هذا، كما روى السّي الأمين، أنّ مولاي لحسن أصبح مُقتنعا بأنّ الهسيس، الذي تحدثه يده وهي توقّع ضربات الفرشاة أثناء الرسم، هو السبب في نموّ ذلك الشيء المُعضل بأذنه.

 

فعلى نحو غير معقول، ساورهُ الشعور بأنّ الموجات الصوتيّة الناجمة عن الحركة النشيطة لأصابعه، كانت تذكي وتُسَعّر دورة التناسل في الديدان بشكل لا حدّ له، ثمّ تجعلها تتمادى في النقّر داخل رأسه.

 

إلى أن أتى يوم، لم يعد مولاي لحسن قادرا على الاحتمال أكثر، فرسم لوحة رائعة كما لم يرسم في حياته قط.. لوحة بثّ فيها كلّ مكابداته وعبقريته، التي تستوجب أن يموت المرء، قبل هذا، عدّة مرّات حتّى يرسم بمثل تلك البراعة المعجزة ، ثمّ أقدمَ على بتر مصدر الموجات الصوتيّة إلى الأبد .. بتر يده اليمنى بشَفرة ساطور ..

 

تُخبرنا نفس اليوميّات، أنّ أصابع لويس، المشوّهة من كثرة الخلق، ارتعشت لحظتها على رأس قطته ” بيبُو ” ، وطفحت عيناه الكليلتان بماء الدهشة عند سماعه لهذه الواقعة ، التي منّى النفس ووطّدَ الخيال لكتابتها ، عما قريب ، على شكل أمثولة أو قصة قصيرة ، تحت عنوان : ” اللّوحة الأخيرة ” .

 

وعلى ما يبدو أنّ هذا العزم أكلتهُ عجلة النسيان القاسيّة ، لأنّ أيّ قارئ نبيه أو خبير أدبيّ متمرّس لم يعثر على أدنى أثر يُذكر لهذا التدوين ، سواء في الأعمال الكاملة للويس ، تلك التي صدرت بعد وفاته بجنيف في 14 يونيو 1986، أو في مخطوطاته المحفوظة بأرشيف المكتبة الوطنيّة للعاصمة الأرجنتينيّة إلى يوم الناس هذا .

 

لكن ، عند تصفّح مذكرات السّي الأمين ، الموسومة ﺑـ “أريج البستان في تصاريف العميان ” ، تكشفُ لنا سُطورها ، أنّ لويس قام بزيارة ثانية ، بمعيّة زوجته مَاريا ، إلى مراكش العام 1985 ، وعبّرَ للسّي الأمين عن رغبته في التعرّف إلى الفنّان صاحب اليد اليمنى المبتورة. وهو الأمر الذي نفّذهُ الدليل السياحيّ الوفيّ، دون تردّد ، وبكلّ الكرم المشهود للمغاربة الأشراف .

 

إذ يَحكي أنّه قادهُ عبر سلسلة من الأزقة المظلّلة والدروب الملتوّية ، التي يمكن أن تنشب وسطها ، في أيّة لحظة ، حرب أهليّة ضروس بين الوساوس والجنّ ، إلى مقرّ سُكناه بأحد المنازل المتداعيّة ﺑ ” الملاّح اليهوديّ ” ، ثمّ قفلَ راجعاً لاصطحاب السيّدة مَاريا إلى فندق “السَعدي” .

 

بعدها ، اختفى لويس لمدّة نهار وليلة بأتّمهما ؛ ولما عادَ السّي الأمين إلى الفندق للاستفسار، اكتشف بأنّ الزوجين غادرا في صباح اليوم التالي إلى وجهة غير معلومة ، لكنّ موظّف الاستقبال سلّمهُ رسالة تحمل اسمه، ممهورة بتوقيع لويس .

 

فضّها السّي الأمين ، وشرع في القراءة : “انتابتني حمّى طارئة ، وغير متوقّعة ، بمجرّد دخولي إلى منزل مولاي لحسن .الرجلُ أكرمَ وفادتي واعتنى كما يجب بما ألّمَ بي ، غير أنّ وعكتي واصلت تفاقمها ، لدرجة أني لم أعد أدري على وجه اليقين إن كنت متيقّظا أم أني أحلم.

 

أردت أن أٌفيق؛ بيد أني لم ﺃعثر على نفسي كي أصحو ، ورغبت أن لا ﺃنبثق من غمد الحلم، بيدَ أنّ حواسي ظلّت قيد العمل في الجهة الأخرى من جسدي .

 

وفي مهبّ ذلك السقم اللاّذع ، كنت أرى مولاي لحسن على نفس حالتي بين اليقظة والحلم . أغمض عيني الجامدتين كعيون التماثيل ، و ﺃراهُ مغلولاً على هيئة طائر بَازي لهُ حجم إنسان ، يخبط خبط عشواء بجناح واحد واهن لا يكفي للنهوض أو للتحليق .

 

عيناه فاغرتان على سعتهما ، وعتمة طاغية تمتدّ كالصراط أمام ناظره . تغازله ، فيقع في شرك المشاهدة. يمعنُ التحديق إليها بإرادة مسلوبة ، حتّى تطلّ منها نقطة نور بعيدة تنوس بين الالتماع والانخماد ، وتتحرّك في اتجاهه مثل جرم سماويّ صغير . تكبرُ تدريجيّا، وتبزغ من قلبها فجأة يدٌ تخرق السواد ، ثمّ تنشبُ أصابعها في رقبته منعقدة كاﻷنشوطة . تَواصل إطباقها ، إلى أن يمتلئ حلقه بالبكاء ، وتفيض روحه .

 

يعود، آنئذ ، إلى صورته البشريّة ، ويقوم من سريره كما يقوم الميّت على نفخة الصور. أغمض عيني وﺃراه ..فالعيون المغلقة ترى ولا تخون.. أراه يسحب أعضاءه ككرسيه المتحرّك الذي تركه وراءه .. أضناهُ تعب شديد هدَّ جسده كأنّما اصطدم في سباته بكتل وحواف لم يشعر بها في حينها ، لكنّه يمشي واقفا في ما يشبه المعجزة .. أراه يدخل إلى مشغله ويوصد الباب.. ومن خلف الباب أراهُ يقف أمام حامل خشبيّ كبير الحجم تغطيه ستارة بيضاء…

 

أغمضُ عيني و ﺃراهُ يدسّ نفسه تحت السّتارة ، ثمّ يبدأ الرسم بيسراه .. يغيبُ طويلا، ويشرق لهنيهات كي يغيّر الأصباغ أو الفراشي ، وسرعان ما يعود ليخفق تحت الخباء مثل قلب على وشك الانفجار …

 

لا أرى ما الذي يرسمهُ ، لكنّني أرى مقدار ما يغدقهُ من حماسة وشغف.. أرى روحه التي ترفع بدنه عن الأرض بعدة سنتمترات .. أرى مخلوقات الظّلام التي تذرعُ القماشة جيئة وذهابا ، كي تمدّ له يد التفاصيل وجوهر الشكل الذي يقولُ له كُن فيكون ..أرى البقع التي تنفذ إلى مسام السّتارة .. أرى لوحة ثانية تشكّلت في غفلة من الأولى ، وﺃسمع سَحَّ الرَّمل الذي يعزفُ بينهما كالنَّاي …

 

أغمضُ عيني وﺃرى مولاي لحسن يخرج أخيرا من تحت السّتارة مضّرجا بالألوان ، التي تغطي ساعديه وتسيل على أطراف أصابعه .. أراهُ يتراجع قليلا عن الحامل الخشبيّ ليرى ما صنعت يده الفريدة المتبقّية .. أرى نصلا حادا كضربة نور يشقّ بغتة ما يحيط به من ليل فضفاض لانهاية له .. وﺃرى رشاش دم يندفع من معصمه المقطوع ، ويطمس بقع السّتارة …

 

تنكسرُ يقظتي، فأهبّ من سريري كالملدوغ لأنقذه .. أقفُ دونما حيلة إلى جانبه بعد أن خرّ أرضا مغشياً عليه .. ﺃنظرُ بجزع إلى اليد المبتورة ، تلك التي مازالت تتحرّكُ مثل ذيل قصير لأحد الزواحف المجنّحة .. أتقدّم ، وﺃنضُو عن اللّوحة ستارتها ..

 

كانت فارغة مثل وجه الظلام ، لم يشبها نزر من شكل أو لون. أَفقتُ فعلاً من حلمي، فأبصرتُ أسفل سريري طافحا بالديدان ، ولمّا حانت مني نظرة إلى معصمي كانت يدي اليمنى قد طارت من مكانها.. ولا ﺃثرَ لأيّ دماء” ! .

______________________________________

(*) : قسطٌ من المعلومات المُدرجة بين تضاعيف هذه الحكاية، عن زيارة الكاتب الأرجنتينيّ خورخي لويس بورخيس ( 1899-1986) إلى مراكش ، وردت في معرض الحوار الذي أجراهُ الناقد المغربيّ محمّد ﺁيت لعميم سنة 1999 ، مع زوجة بورخيس السيّدة مَاريا قُداما ، في الفترة التي كانت تهيئ فيها لإقامة حفل تكريميّ لبورخيس بمناسبة الذكرى المئويّة لوفاته. || ﺃنظر _ ( بالعربية ) : خورخي لويس بورخيس ، أسطورة الأدب ، تقديم وترجمة : محمّد ﺁيت لعميم ، المطبعة والوراقة الوطنية ، مراكش ، ط 1، 2006، صص26،27.

مقالات قد تعجبك
2 Comments
  1. زائر علق

    قصة مثيرة للاهتمام حول لويس وعلاقته الروحية بمراكش قبل زيارته الفعلية لها. من الجميل كيف ربطت بين رحلته الفكرية مع ابن عربي وابن رشد وبين تجربته الحقيقية في المدينة الحمراء.

  2. لطيفة علي علق

    مراكش دائمًا ما تحمل في طياتها عبق التاريخ والثقافة. من الرائع اكتشاف تجارب شخصية مثل تجربة لويس في هذه المدينة الساحرة.

لن يتم نشر أو تقاسم بريدك الإلكتروني.