الشعر المؤرخ هو نوعٌ من فنون الأدب عند العرب، يتضمن عبقرية تبهر القارئ بعظمة الفكر، وسرعة الخاطر، ومتعة التصوير، ودقة المعنى، ولا يتقنه إلا من كان له نصيب من القدرة الجمالية والبلاغية والبديهة لذلك وُصِف نظم هذا النوع من الشعر بالصَّنْعَةِ المعقّدة؛ لما تتطلبه من إحساسٍ عميقٍ، وفكرٍ لمّاحٍ، وقابلية فذّة، وبديهة حاضرة.
وكما يُسمى بالتأريخ الشعري أو التأريخ الحرفي لأنه يُعنى بتأريخ الحوادث وتثبيت الوقائع من ولادة أو وفاة أو زواج أو بناء المساجد والمشاهد المقدسة والمدارس والمستشفيات أو أحداث سياسية أو صدور كتاب أو غير ذلك من المتفرقات، بواسطة حساب الجُمَّل الأبجدية، حيثُ أنَّ لكلِّ حرفٍ رقماً يماثله، فيقوم الشاعر بتأريخ الحادثة ببيتٍ من الشّعرِ أو شطر بيت، بعد هذه المفردات ومشتقاتها (أرّخ، أرّختُ، تأريخه)، فكأنّها كلمات مفتاحية لتدلنا من أين نبدأ بالحساب وبعد جمع النتائج نصل إلى التأريخ المطلوب الذي دائمًا ما يكون بين قوسين.
وقد أجاد بعض الشعراء في نظم التأريخ بالهجري والميلادي وهذا يدّل على عبقرية وتميز. وبدأت أنتبه إلى هذا النوع من الشعر أثناء إبحاري في تراجم العلماء والأدباء بين الرسائل والكتب، فقد جرت عادة علماء الدين ورجال الأدب أن يؤرخوا أحداثهم المهمة من مواليدهم وووفياتهم وما شابه ذلك شعراً، فيسهل على الباحث التعرف على التواريخ في زمنٍ كان يسود فيه الجهل وعدم الاهتمام بالمحاضر الرسمية وتسجيل التواريخ.
وكانت هذه التواريخ لا تخلو من ظرافة وبلاغة وبديهة في النظم، وجمالية عالية ودقة في التشبيه والاقتباس من آي القرآن الكريم والأحاديث الجليلة وعيون الشعر.
ورغم ذلك يراهُ البعض ممن يتعصب للأدب بأنه ليس شعراً، فعمود الشعر ينحصر في أغراض الغزل والمدح والرثاء والحماسة والحكمة، وما عدا ذلك ليس سوى مؤشر ضعفٍ وتهافتٍ في الصنعة، وأنا أوافق هذا الرأي إذا كان المقابل يعد نفسه شاعراً ولا ينظم سوى التأريخ الشعري وكان متكلفاً في صنعته أو كان شعره لا ينطوي على ما ذُكر من مميزات لهذا الفن، أما إذا توفرت كلّ السمات المطلوبة فلا مانع من القول بأنه شعر، فضلاً عن أنه يتضمن ألفاظاً فائقة ومعانيَ جميلة تروق لها النفس وتطرب الأذهان وتبكي العيون في حالة الوجد والرثاء.
وقد تعمقت أكثر فأكثر في الشعر المؤرخ خصوصاً بعد تعرفي على أخي وصديقي حسن آل عبّاس السنابسي الذي يهوى هذا الفن ويتذوقه أيّما تذوق ويقطف ثماره في أي بلدٍ يزوره ويجدها ناضجة قد حان قطافها، وبعد اللتيا والتي أنشأنا صفحةً تُعنى بنشر عيون أدب التأريخ التي لا يعرفها إلا من غاص في بحر الشعر اللجي، مقتنصاً لآلئه ودرره الكامنة، عَلَّنا نقدمُ خدمةً صغيرة لمن يرغب في سجلات الأدب وخزائن العرب.
ومن نماذج هذا الفن، قول الشاعر السيّد محمّد علي النجّار الحلي مؤرّخاً وفاة الشيخ أحمد الوائلي:
أنا إن بكيتُ خطيب آل محمدٍ
ومدامعي سالت من الأحداقِ
كررتُ أحمد حين قلت مؤرّخاً
(يفنى الزمان وذكر أحمد باقي)
1423 هـ
أو قول الشيخ حسنين قفطان في تأريخ وفاة الخطّاط الكبير الأستاذ عباس البغدادي:
أُنبِيكَ خطَّ الثُلثِ ذا حدثُ
جللٌ تُرى أفأنتَ مُكتَرِثُ
هذي حُرُوفُكَ ماتَ مُلهِبُهَا
وَهْجَ الحياةِ فلو تَرى جُثَثُ
فُقِدَ الذي أحياكَ ساعِدُهُ
فاليومَ يَحسُنُ بعدَهُ العَبَثُ
قُلْ مُذْ فقدتَ (مُؤَرِّخاً) يدَهُ
عباسُ يبكي فقدَهُ الثُلُثُ
1444 هـ
ومن الطريف أنني وجدت نموذجاً من الشعر المؤرخ بالعامية أو كما أسماها الشاعر يوسف آل ابريه في كتابه الأبوذية ظل وضوء : بالأبوذية المؤرخة، إذ ينقل قول الشاعر مجيد القيسي مؤرخاً ولادة نجله قيس عام 1962:
نَبِل قوسي يصيي الصقر ورّخ
وسفر ليلي ابصباح السعد ورّخ
الفيس ابمولده ابتهل ورّخ
(ضمد غالي أكون) ايدوم إليّه

مقال رائع يسلط الضوء على جمال الشعر المؤرخ ودوره في توثيق الأحداث. يبرز أهمية الفن الأدبي في حفظ الذاكرة الثقافية.
مقالة رائعة تبرز جماليات الشعر المؤرخ وأهميته في توثيق الأحداث. أسلوب الكتابة يعكس بعمق غنى الأدب العربي وتاريخه.