خطر رجال الدين المتشددين على الحياة المدنية في العراق

كتبه : أمين شيرازيان

إن التنوع والاختلاف هما السمة الأجمل والأكثر ثراءً لأي مجتمع حي، والمجتمع العراقي بتاريخه العريق وتعدده الثقافي والديني مثال ساطع على ذلك. في خضم الجدل المتكرر حول إقامة الفعاليات الفنية والترفيهية – كما حدث مؤخراً بخصوص حفل الفنان محمد عبد الجبار في البصرة – يبرز ضرورة الانتصار للبعد المدني الحقيقي للدولة والمجتمع، وهو البعد الذي يضمن الحق في الاختلاف والتمتع بالحريات الشخصية دون وصاية.

لقد قامت الدولة المدنية الحديثة على مبدأ المواطنة المتساوية، حيث يتمتع الجميع، بغض النظر عن انتمائهم الديني أو المذهبي أو الفكري، بحقوق متساوية. وأحد أهم هذه الحقوق هو حرية التعبير، وحرية الترفيه، وحرية ممارسة الفنون. إن المطالبة بإلغاء أو تأجيل فعاليات فنية بحجة تزامنها مع مناسبات دينية معينة، تمثل في جوهرها محاولة لفرض رؤية قطاع واحد من المجتمع على بقية أفراده.

▪️احترام الحقوق وليس فرض الوصاية

يجب على الأفراد والجماعات المتدينة، في إطار الميثاق الاجتماعي والمدني، أن يحترموا حق الآخر المختلف في ممارسة حياته وفق قناعاته، طالما لم يتعدَّ على القانون العام أو حقوق الآخرين. إن حق المتدين في إحياء مناسباته والحداد عليها هو حق مصان ومحترم، لكن هذا الحق لا يخول له ممارسة القمع الفكري أو الاجتماعي على الأغلبية أو الأقلية التي لا تشاركه ذات القناعات أو الأجندة.

مبدأ لا ضرر ولا ضرار: إذا كان الحفل الفني لا يُقام في حرم ديني، ولا يستهدف الإساءة المباشرة لعقيدة الآخرين، فإنه لا يشكل ضرراً على المتدينين. فمن يرفض الحفل دينياً، يملك ببساطة حق عدم الذهاب إليه.

القانون المدني فوق الرغبات الفئوية: يجب أن تكون الضوابط التي تحكم الفعاليات هي الضوابط القانونية والمدنية التي تنظم الحياة العامة للجميع، وليس الفتاوى أو الرغبات الدينية لفئة معينة. الحريات إما أن تُمنح للجميع أو لا تُمنح لأحد.

▪️مفارقة الأولويات الكبرى: الفن في مواجهة الفساد

إنها مفارقة كبرى ومخجلة أن يتجاهل بعض رجال الدين المتظاهرين عشرات، بل مئات، الأحداث الكارثية في العراق، والتي تتعلق بالفساد المالي والإداري وغياب الخدمات العامة وانعدام البنية التحتية، وكلها تُمسّ بكرامة وحياة المواطن بشكل مباشر. ولكنهم في الوقت نفسه يعتقدون أن حفل غنائي يمسّ بـ “قدسية المذهب”.

إنه لمن المخجل أنهم لم يهتموا قيد أنملة بكرامة الإنسان العراقي وحرمته وقدسيته، التي تُنتهك يومياً بسبب الإهمال والفساد، بينما يرفعون رايات الاحتجاج على الترفيه الفني. هذا التناقض الصارخ يكشف عن تضخيم لأهمية القشور والشكليات على حساب جوهر حفظ النفس وكرامة المواطن الذي هو صلب الرسالة الدينية والإنسانية.

▪️البصرة كنموذج للمدنية والتعدد

كما أشار البعض، البصرة مدينة عريقة ومدنية استقبلت سابقاً حشوداً من مختلف المحافظات والطوائف في فعاليات كبرى (مثل دوري الخليج)، وهي مدينة ذات تعدد طائفي وثقافي. إن تهميش الفن والترفيه أو وضعه في خانة “المرفوض” لا يتناسب مع تطلعات الشباب ولا مع صورة العراق المنفتح والمزدهر الذي ننشده.

إن الانتصار للبعد المدني يعني الإيمان بأن الفن والثقافة جزء أساسي من بناء الوعي والترفيه المشروع، وأن المجتمع قادر على احتواء كل الأطياف. المطلوب هو إدارة التنوع باحترام متبادل، وليس محاولة إلغاء المظاهر المدنية باسم الدين.

نحن بحاجة إلى ترسيخ ثقافة التعايش، حيث يمارس الجميع حرياتهم، ويُحترم المتدين في مساجده وحسينياته، ويُحترم الفنان والجمهور في مسارحه وقاعاته، ضمن إطار واحد يحميهم جميعاً: الدولة المدنية والقانون.

مقالات قد تعجبك
1 Comment
  1. إبراهيم ناصر علق

    مقال مهم يسلط الضوء على ضرورة حماية الحقوق المدنية في العراق. يجب أن ندعم التنوع الثقافي وحرية التعبير لضمان مجتمع متوازن وصحي.

لن يتم نشر أو تقاسم بريدك الإلكتروني.