سقوط الجدران : كيف أسقط الصحفيون إمبراطوريات الفساد وأعادوا تعريف السلطة

خاص | مدار 24

من كشف ووترغيت إلى مواجهة الفساد في قلب أوروبا، مدار 24 تتابع قصص الصحفيين الاستقصائيين الذين أثبتوا أن القلم لا يزال أقوى أداة في يد الديمقراطية.

في عالم تُهيمن عليه الأخبار العاجلة وموجات المعلومات السطحية، يبقى السؤال الجوهري قائماً: ما هي القوة الحقيقية للصحافة الاستقصائية؟ تتجاوز الإجابة مجرد نقل الوقائع، لتدخل في نطاق المساءلة الجذرية وإحداث تغييرات اجتماعية وسياسية لا رجعة فيها. نستعرض هنا سجل الصحفيين الذين لم يكتفوا برصد الأحداث، بل أشعلوا شرارة التحول داخل مؤسساتهم وفي المجتمعات التي يخدمونها.

▪️ ووترغيت: لحظة تعريفية للسلطة الرابعة

يظل عمل بوب وودوارد وكارل برنستين في صحيفة واشنطن بوست معياراً لنجاح الصحافة الاستقصائية. لم يكن كشفهما عن فضيحة ووترغيت عام 1974 مجرد “سبق صحفي”، بل كان اختباراً قاسياً لمفهوم الحصانة الرئاسية.

“ما فعلاه أثبت أن لا أحد فوق القانون، وأن مهمة الصحافة هي ملاحقة الحقيقة مهما كلف الثمن.”

أدت سلسة التحقيقات، التي استغرقت أشهرًا من العمل الشاق والمُضني وسط ضغوط سياسية هائلة، إلى استقالة رئيس أمريكي، مما رسخ دور الصحافة كآلية لا غنى عنها لـكبح جماح السلطة.

▪️ نيللي بلي: ثورة الأبطال الاجتماعيين غير المرئيين

في نهاية القرن التاسع عشر، لم تكن الشجاعة مقصورة على المحققين السياسيين. ففي عام 1887، قررت نيللي بلي استخدام أسلوب التخفي (undercover journalism) لكسر جدار الصمت حول معاناة المستضعفين.

من خلال انتحال شخصية مريضة، تمكنت بلي من الدخول إلى مصحة عقلية (Blackwell’s Island Asylum)، حيث كشفت عن: سوء التغذية المتعمد، الاعتداءات الجسدية والنفسية على المرضى، الإهمال التام من قبل الكادر الطبي.

نشرت بلي تقاريرها الصادمة بعنوان “عشرة أيام في مصحة مجانين” في نيويورك وورلد. لم تكن النتيجة مجرد مقالات صحفية، بل إصلاحات تشريعية فورية في مدينة نيويورك، وتخصيص ملايين الدولارات لتحسين الرعاية، مؤكدة أن القلم يمكن أن يكون أداةً لتصحيح الظلم البنيوي داخل المجتمع.

▪️دافني كاروانا غاليزيا: التكلفة الباهظة للحقيقة

في الحقبة المعاصرة، تذكّرنا قصص مثل الصحفية المالطية دافني كاروانا غاليزيا بالثمن الحقيقي الذي يدفعه الصحفيون. كانت غاليزيا معروفة بتحقيقاتها الجريئة التي ربطت بين الفساد المستشري، وغسيل الأموال، ودوائر السلطة في مالطا.

اغتيالها المروع بعبوة ناسفة في عام 2017 لم ينه عملها، بل أجّجه. أدت التداعيات المباشرة لتحقيقاتها، ومتابعة زملائها للعمل بعد رحيلها، إلى : احتجاجات واسعة في الشوارع، استقالة كبار المسؤولين بمن فيهم رئيس الوزراء.

إن قصة غاليزيا هي تذكرة صارخة بأن الصحافة الحرة هي خط الدفاع الأخير ضد استبداد النخبة، وأن النضال من أجل الحقيقة قد يكلف أرواحاً، لكنه يضمن إمكانية مساءلة الحاكمين.

▪️ تحول الصحافة: من السبق إلى الإمبراطورية

إلى جانب الكشف عن القضايا، هناك من أحدثوا ثورة في شكل ومضمون العمل الصحفي نفسه:

كلير هولينجورث (السبق الصحفي الذي غيّر العالم): بصفتها مراسلة لـ ديلي تليغراف، قدمت أعظم سبق صحفي في القرن العشرين عندما أعلنت عن بدء الحرب العالمية الثانية عام 1939. كانت دقتها وجرأتها في تغطية الصراعات نموذجاً يُحتذى للمراسلين الحربيين.

وليام راندولف هيرست (سلطة الإعلام الجماهيري): على الرغم من الجدل حول “الصحافة الصفراء” التي روج لها، إلا أن هيرست أثبت القوة الهائلة للإعلام في تشكيل الرأي العام وتوجيه السياسات الوطنية (كما حدث في الحرب الأمريكية الإسبانية). لقد أدرك مبكراً أن الصحافة هي قوة شعبية جماهيرية لا يمكن تجاهلها.

▪️ الخاتمة : مسؤولية المهنة النبيلة

تثبت هذه القصص أن النجاح الصحفي لا يُقاس بعدد المشاهدات أو الإعجابات، بل بمدى تأثيره العميق في إحداث المحاسبة والشفافية. هؤلاء الصحفيون، الذين خاطروا بمسيراتهم المهنية وحياتهم، لم يكتبوا مجرد قصص، بل صاغوا عقوداً من الزمن وأعادوا تعريف مفهوم المهنة النبيلة التي تخدم المصلحة العامة. 

مقالات قد تعجبك
2 Comments
  1. محمود عبدالله علق

    مقالة مميزة تسلط الضوء على دور الصحافة الاستقصائية في محاربة الفساد وتعزيز الديمقراطية. فعلاً، القلم هو أقوى سلاح في مواجهة الظلم.

اترك تعليق

لن يتم نشر أو تقاسم بريدك الإلكتروني.