تلتفت منصة مدار 24 إلى واحد من أهم الكتب التي صدرت في منتصف القرن العشرين والذي ظل راهناً ليومنا هذا، لنسلط الضوء عليه في قراءة سريعة لأبناء هذا الجيل، الكتاب الذي قدم تصوراً عميقاً للثقافة بوصفها الإطار الذي تتكوّن فيه الحضارة، والذي طرحه المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي، حيث قدم فيه نقداً للمفاهيم السائدة في الفكر العربي في النصف الأول من القرن العشرين، ليعيد بناء مفهوم الثقافة من داخل التجربة التاريخية والحضارية للمجتمعات الإسلامية.
ويعد مالك بن نبي (1905–1973) أحد أبرز المفكرين في القرن العشرين في العالم العربي، وهو من رواد مشروع النهضة الفكرية الحديثة. تلقى تعليمه في الجزائر وفرنسا، وتأثر بتيارات فلسفية واجتماعية متعددة، لكنه حافظ على منظور نقدي صارم، ترك بن نبي سلسلة “مشكلات الحضارة” التي تعد من أكثر الأعمال تأثيراً في الفكر العربي المعاصر، وتميزت بأسلوب تحليلي يجمع بين الفلسفة والاجتماع والتاريخ.
تعرف الثقافة بأنها نمط شامل يوجّه السلوك ويخلق الانسجام بين الفكرة والعمل، وبين الفرد والمجتمع، وبين الماضي والمستقبل. ومن خلال هذا التصور يضع بن نبي أسساً لفهم الأزمة الثقافية التي تحول دون نهوض العالم العربي والإسلامي، ويحدد شروط تجاوزها عبر إعادة تشكيل الوعي وتوجيه الأفكار.
فيشكل كتاب “مشكلة الثقافة” أحد أعمدة مشروع مالك بن نبي في تحليل مأزق العالم الإسلامي. يطرح فيه رؤية تؤكد أن النهضة ليست ممكنة إلا عبر إعادة بناء الثقافة بوصفها القوة التي تشكل الإنسان وتوجه طاقته نحو الفعل الحضاري. ومن خلال تحليله النفسي والاجتماعي والتاريخي، يوضح كيف يمكن للثقافة أن تكون نواة لحركة جديدة تعيد للمجتمع فاعليته. فيقدم في الكتاب نقداً عميقاً للمفاهيم المستوردة، ويدعو إلى بناء ثقافة أصيلة لا تنغلق على ذاتها ولا تذوب في غيرها. وهو كتاب يظل راهناً، لأنه يلامس الأسئلة الكبرى التي تواجه المجتمعات العربية والإسلامية في بحثها عن معنى النهوض والدور والمستقبل.
يبدأ بن نبي بتفكيك التصورات السائدة حول الثقافة والتي يراها مجرد معارف أو فنون بالنسبة إليه، الثقافة هي “المحيط الذي تتشكل فيه شخصية المجتمع”، وهي القوة التي تصنع الانسجام الداخلي في الجماعة وتمنحها رؤية مشتركة للعالم. فيعرض الكاتب أبعاد الثقافة بوصفها منظومة قيم، وتصورات، ومواقف، وأخلاق، ولا يمكن اختزالها في إنتاج الكتب أو مظاهر التعلم. وهذا التعريف يجعل الثقافة شرطاً للتحضر لا نتيجة له، ويجعل إصلاحها مقدمة لكل إصلاح اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي.
كما يرى بن نبي أن الجانب النفسي هو المدخل الأساس لفهم القيمة الحقيقية للثقافة. فالثقافة، لكي تكون فعالة، يجب أن تخلق “قابليات” جديدة في النفس وتعيد تشكيل الإرادة والعقل والوجدان. وهي بذلك ليست مجرد خطاب خارجي، بل قوة تتحول إلى سلوك يومي. ويبين الكتاب لنا أن بناء ثقافة أصيلة يعيد للفرد ثقته بنفسه ويحرره من التبعية والتقليد.
ومن بعدها الاجتماعي يتناول بن نبي الثقافة بوصفها قوة توحيد ونسقاً يخلق انسجاماً في العلاقات بين الأفراد. فالمجتمع الذي يفتقد ثقافة مشتركة يصبح عرضة للتفكك والصراع الداخلي وفقدان الهوية. كما يربط بن نبي بين الثقافة والمؤسسات، ويرى أن العلاقة بين الفرد والجماعة تحددها القيم الثقافية التي تشكل المعايير السلوكية. لذلك تصبح الثقافة أساساً لبناء مجتمع متماسك يمتلك تصوراً واحداً للمستقبل.
يرى بن نبي أن النهضة الحضارية تبدأ بفكرة تسري في المجتمع فتغيّر من نظرته إلى ذاته. ويؤكد أن أي مشروع حضاري يحتاج إلى “ثقافة موجهة”، أي ثقافة تعرف أولوياتها وتحدد مسارها. ويكشف عن خطورة الأفكار الميتة، وهي التي تعطل الفعل وتولد العجز والاستسلام. فيضع بن نبي مهمة النخبة في إعادة ترتيب منظومة الأفكار وفق حاجات النهضة، بعيداً عن الاستيراد غير النقدي للنظريات الغربية.
ويتوقف بن نبي مطولاً عند ظاهرة الأزمة الثقافية في العالم العربي والإسلامي، ويبين أنها أزمة بنيوية وليست مجرد نقص في الإنتاج الفكري. فجوهر الأزمة، كما يرى، هو فقدان الفكرة الدافعة التي تجمع المجتمع حول مشروع حضاري واضح. وتتجلى الأزمة في التناقض بين خطاب يدعو إلى الأصالة وآخر يدعو إلى التحديث دون أن يتحقق توازن بينهما. ويؤكد أن تجاوز الأزمة يحتاج إلى إعادة بناء الثقافة على أساس من القيم الفاعلة التي تربط بين المعرفة والعمل.
وأخيرا يفرق بن نبي بين مسار الثقافة في التاريخ ومسارها في التربية. ففي التاريخ تتولد الثقافة من أحداث كبرى، ومن المواقف المصيرية التي تصوغ روح الأمة. أما في التربية فهي تنتقل عبر المناهج والتعليم والقدوة الاجتماعية. ويشرح لنا أن التربية إذا انفصلت عن الثقافة فقدت تأثيرها، وأن أي إصلاح تربوي يجب أن يبدأ بإصلاح ثقافي.
