من كنوز العراق المنسية || القصر النجمي في واسط يكافح الإهمال

محمد الحسين | مدار 24

 

واسط، العراق – يمثل تل النجمي (المعروف أيضًا بـ “القصر النجمي”، أو “الجامع النجمي”) في محافظة واسط وسط العراق، شاهداً صامتاً على فترات تاريخية متتابعة تمتد لمئات السنين، من العصر العباسي الذي شهد تشييده، مروراً بالغزو المغولي ونكبات العصور المظلمة، وصولاً إلى فترتي الاحتلال العثماني والبريطاني. ورغم كل تلك التحولات، يثير وضع هذا الصرح المعماري المتميز اليوم تساؤلات جدية حول صموده أمام الإهمال الحكومي وتعديات غير المتخصصين.

 

▪️تاريخ عريق يواجه الإهمال

 

على نحو لافت، لم تسجل المصادر التاريخية قيام أي من القوى الغازية أو المحتلة بتخريب هذا الموقع أو تشويهه على مر العصور. ومع ذلك، طالت يد العبث البناء الشامخ حديثاً، حيث قام ضعفاء وغير متخصصين بطلائه باللون الأبيض ووضع راية خضراء على قبته، وأطلقوا عليه اسم “السيد أبو نجمة”. في تناقض صارخ، ورغم هذا التشويه الأخير، يبقى الإهمال هو التحدي الأكبر، إذ يفتقر الموقع لأدنى اهتمام من الحكومات والجهات المختصة.

 

يقع القصر النجمي على أطراف مدينة النعمانية في محافظة واسط، وهي منطقة غنية بأكثر من 400 موقع أثري، بما في ذلك قبر الشاعر الكبير أبي الطيب المتنبي وقصر الحجاج بن يوسف الثقفي. وتُعرف واسط بأنها أول مدينة بناها الحجاج الثقفي في العهد الإسلامي بعد الصحابة، لتكون مقراً لولايته المترامية الأطراف، وقد اختار موقعها “لتوسطها” بين الكوفة والبصرة. وما زالت آثار المدينة العباسية تقف شاهداً على العمارة المذهلة وعبق الخلافة الإسلامية.

▪️هوية غامضة وتدهور ملموس

 

يُعرف البناء بـ “القصر النجمي” لأن شكله الخارجي يشبه النجمة، ويقع في منطقة نائية تبعد 23 كم شمال غرب النعمانية. الوصول إليه يتم عبر طرق ترابية وعرة تمتد لأكثر من ستة كيلومترات في مناطق صحراوية غير مأهولة، حيث لا تتوفر أية خدمات أساسية كالماء أو الكهرباء، مما يعكس عزلة الموقع وتدهور البنية التحتية المحيطة به.

 

من المؤسف أن المصادر التاريخية لا تقدم تفاصيل وافية عن سبب وكيفية بناء القصر، وقد أدى انعدام الاهتمام إلى تعرضه للاندثار وعمليات السرقة، خاصة بعد الغزو الأمريكي للعراق، حيث فُقدت نفائس ومحتويات أثرية ثمينة كانت داخله.

 

القصر النجمي أُدرج رسمياً كموقع أثري مهم في قائمة التراث من قبل دائرة السياحة والآثار عام 1935م. وفي عام 2002م، كشفت عمليات التنقيب التي قامت بها بعثة الصيانة التابعة لهيئة السياحة والآثار أن البناء يشغل مساحة 12 × 12 متراً مربعاً، ومبني بشكل هندسي داخلي يتكون من عدة طبقات من الأقواس المتقاطعة. الأهم هو اكتشاف قبرين أسفل القبة، يحملان نقوشاً بالخط الكوفي تشير إلى أنهما يعودان إلى “العالم الرباني محمد البلقي” ووالدته.

▪️جدل حول وظيفته

 

يشير تحليل المعالم المعمارية إلى أن البناء لم يكن قصراً أو داراً للحكم بالمعنى التقليدي، إذ يفتقر إلى الغرف والإيوانات ومنافذ الترفيه، مما يثير شكوكاً حول التسمية. كذلك، لا يبدو أنه كان جامعاً كبيراً، على الرغم من وجود محراب للصلاة، نظراً لصغر باحته. المنطق الأرجح، بحسب بعض الباحثين، أنه صرح تكريمي ومرقد لقبري البلقي ووالدته، مع احتمال أن يكون مرقداً رئيسياً لمقبرة أكبر اندثرت معالمها.

 

ويعتقد بعض الباحثين أن التل النجمي يعود لعهد السلاجقة، مستندين في ذلك إلى نمط القبة الذي يحاكي العمارة السلجوقية، وقد يكون عُرف بـ “تل ابن البلقي” نسبة للمدفون فيه.

 

الموقع، الذي يضم باحة داخلية وبئراً شبه مندثرة ذات نقوش مميزة، لا يزال وجهة للعوام من الطائفة الشيعية في المنطقة المحيطة، الذين يزورونه معتقدين أنه من أضرحة الأولياء، فيمارسون فيه بعض الطقوس مثل الصلاة ووضع الحناء والرايات، مما يشير إلى تحوله إلى مزار شعبي.

يواجه “القصر النجمي” اليوم تحديات كبيرة؛ بين أهميته التاريخية المعمارية، وغموض هويته ووظيفته الأصلية، والإهمال الرسمي، وسوء الاستخدام الشعبي، يبقى هذا الكنز العراقي بحاجة ماسة لجهود حقيقية ومدروسة لحمايته والحفاظ على إرثه للأجيال القادمة.

مقالات قد تعجبك
1 Comment
  1. Marie Martin علق

    من المؤسف أن نرى معلمًا تاريخيًا مثل القصر النجمي يتعرض للإهمال. يجب أن تُبذل جهود أكبر للحفاظ على هذا الإرث الثقافي المهم.

اترك تعليق

لن يتم نشر أو تقاسم بريدك الإلكتروني.