الطوفان من ألواح الطين إلى التوراة

عرض تأريخي، أركيولوجي

مقال : ضرغام حسن _ كاتب وباحث عراقي

في اللغة العربية تعني كلمة الطوفان الماء الكثير المغرق الذي يجتاح كل شيء ، تقابلها في اللغة السومرية كلمة a-ma-uru و في الاكدية abubu و تطور معنى هذه المفردة في اللغة الاكدية ليشمل معاني الضراوة و البأس و الشدة ، التي اشتقوها من المعنى الفعلي للطوفان ، فهو شديد البأس ضارٍ و قوي.

وتصور الاقدمون أن الطوفان حدث عظيم غمرت فيه المياه كل الارض ولم تقتصر على بلاد الرافدين فقط ، ولذلك قسموا التاريخ الى ما قبل الطوفان و ما بعد الطوفان، وذكر سكان بلاد الرافدين كما مر بنا أن خمس سلالات حكمت قبل الطوفان بعد نزول الملوكية من السماء، ومن اقدم الاشارات التاريخية الى الطوفان يعود لعصر الملك “اشمي دكان” الذي حكم بين عامي ١٩٥٣-١٩٣٥ ق.م (فاضل عبد الواحد علي | الطوفان في المراجع المسمارية ، سوريا ، الاهالي للنشر ، ص١٧,٢١).

تذكر لنا المصادر الهندية و الصينية و اليونانية و الرومانية اخباراً عن طوفان شامل ايضاً لكنها تختلف عن قصص الطوفان الرافدينية والعبرية.

فالمصادر الصينية تذهب الى جعل الطوفان الحد النهائي لعصر اسمته عصر العشرة العظام ، وتدور قصة الطوفان فيها حول شخص اعرج يدعى “يو”.

اما المصادر الهندوسية فتدور فيها قصة الطوفان حول شخص يدعى “مانو”، الذي انقذ سمكة ذات يوم فعادت له بعد فترة و حذرته من الطوفان كجزاء لاحسانه، و اوعزت له ببناء السفينة وبعد الطوفان رست سفينته على جبل هماوان، و بعد مساعدتها له كشفت له عن هويتها ؛ فإذا هي براهما رب الكون.

وفي مصر ذكر الطوفان في كتابات الكاهن “مانيثو”، كما اشارت له مصادر يونانية ولاتينية، وكان الطوفان حياً حتى في ذاكرة البدائيين من سكان امريكا و استراليا، برغم عدم وجود دليل جيلوجي على طوفان عم الارض جميعاً، لكن من المتوقع أنه حدث و ربما بشكل متكرر في الفترات التي تنتهي بها العصور الجليدية التي عمت الكوكب، فتذوب الثلوج و تسيل المياه في شكل مرعب ربما (سامي سعيد الاحمد | العراق القديم ، جامعة غداد ، ١٩٧٨ , ج١ , ص٢٤٢-٢٤٠).

وفي الرواية التاريخية الوطنية الايرانية تتحدث الاڤستا عن الطوفان الذي حدث في عهد الملك البيشدادي “جمشيد”، حيث يقول يأمر اهورا مزدا جمشيد ببناء السفينة لنجدة البشر الصالحين والحيوانات من الطوفان الذي سيحصل بعد شتاء قاس، حيث ستهطل ثلوج كثيرة ويهطل مطر وتذوب الثلوج فتغمر كل شيء (اوستا ، ونديداد ، فركرد دوم ، بخش دوم ٣٠-٢١).

وفي بلاد الرافدين تأخذ قصة الطوفان صداً واسعاً جداً، خلافاً للحضارات الاخرى، ويعود ذلك لاسباب واقعية، فنهري دجلة والفرات الذين قامت عليهما الحضارة لأول مرة، وفي بلاد الرافدين بالتحديد، كانا في غاية من القسوة، و على خلاف نهر النيل الذي ترتفع مناسيبه في الخريف لتسقي الزرع، تفيض انهار العراق في الربيع فتغمر الاراضي الزراعية وتفسد المحاصيل التي شقي الفلاحون في انباتها وانمائها، وهذا ما يفسر قلة اهتمام العراقيين القدماء بالحياة بعد الموت على خلاف المصريين، ذلك أن الحياة الدنيا الشاقة لم تتح للعراقيين المجال لصب اهتمامهم في قناة الحياة التي بعد الموت.

لقد تصور العراقيون القدماء أن لنهر الفرات روحاً، وهذه الروح على شكل سمكة، فيفيض النهر حين حجم روحه، حجم هذه السمة عن حده، وتضيق به ضفاف النهر (فؤاد جميل ، الطوفان في المصادر السومرية البابلية الاشورية العبرانية ، بيروت ، المركز الاكاديمي للابحاث ، ٢٠١٤ , الطبعة الاولى , ص٨).

إن فيضانات نهر دجلة كانت بطبيعة الحال أعنف من فيضانات نهر الفرات، بسبب زيادة حصة نهر دجلة من مياه الروافد التي تغذيه. وفي بلاد الرافدين و بحسب التنقيبات الآثارية، يمكن اعتبار الطوفان حدثاً تاريخياً، وحقيقة واقعية.

فبحسب التنقيبات التي اجراها السيد ليونارد وولي في مدينة اور قرب المقبرة الملكية، تشير طبقة الطين الغرينية التي غمرت الموقع بارتفاع ١١ قدماً الى حدوث طوفان اجتاح المدينة بعد عصر العبيد اي حوالي عام ٤٠٠٠ ق.م بينما في مدن اخرى مثل لكش و نيپور و شروپاك فإن الطوفان حدث بين عصر جمدة نصر و عصر فجر السلالات الاول اي في المدة ٣٣٠٠ الى ٣٠٠٠ ق.م و هذا ما يؤيده بحسب رأي الاستاذ طه باقر أن اثبات الملوك السومرية التي مر علينا ذكرها تذكر أن الملوكية حلت بعد الطوفان في مدينة كيش ، و نحن نعرف أن سلالة كيش الاولى هذه بدات في الازدهار في عصر فجر السلالات الثاني ، اي حوالي عام ٢٨٠٠ ق.م (طه باقر ، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ، بيروت الوراق ، ٢٠١٢ , الطبعة الاولى ج١ , ص٣٣٥-٣٣٢).

لذلك فتاريخية الطوفان تبرز كحقيقة تاريخية جلية بحسب الشواهد التاريخية والآثارية، لكنها طوفان جزئي اقتصر على مدينة واحدة او عدة مدن، إلا أن الخيال التاريخي للشعوب القديمة صوره لحدث عم العالم اجمع، بسبب ضيق الافق الثقافي للشعوب القديمة المبكرة مثل شعب بلاد الرافدين ، الذي كان أن هناك عالماً كبيراً بحجم الكوكب.

في التراث الرافديني لدينا ثلاثة قصص مختلفة للطوفان، الاولى سومرية و بطلها “زيوسدرا” الذي يرد اسمه في بعض نسخ اثبات الملوك، و الثاني “اوتونا بشتم” الذي يرد اسمه في ملحمة كلكامش التي كتبت باللغة الاكدية باللهجة البابلية القديمة، والثالثة ايضا بابلية و بطلها يسمى “اتراخسيس”.

وقد نشر الاستاذ ارنو پوبل عام ١٩١٤م لاول مرة ترجمة لنص سومري اكتشف في مدينة نيپور، يتحدث عن قصة الطوفان السومرية، تعود فترة تدوينه إلى أواخر العهد البابلي القديم أي حوالي عام ١٦٠٠ ق.م ، ويعتقد الاستاذ فاضل عبد الواحد علي أنها نسخة من تدوينات اقدم بسبب ورود اخبار عن الطوفان في مصادر ابكر منها، ولكن للاسف فإن النص لم يسلم إلا ثلثه من التلف، حيث أن أول ٣٧ سطرًا منه مخرومة، و بدءً من السطر الثامن و الثلاثين، ينتظم النص وقرأ فيه أن احد الآلهة يحاول انقاذ البشر، ثم ينخرم النص عدة مرات وحين يعود فينتظم نقرأ أن الآلهة اينانا (عشتار) بكت على شعبها، بسبب قرار الآلهة باهلاك البشر، ثم نقرأ عن تحذير احد الآلهة لزيوسدرا، و عن صنعه للسفينة ثم تجتاح الاعاصير و المياه البلاد لسبعة ايام وسبع ليالي، وفي اليوم الثامن تبزغ الشمس على سفينة زيوسدرا، وينحر الاغنام و الثيران قرباناً للآلهة، فتكافئه الآلهة على انقاذه للبشر، بأن تسكنه في جنة دلمون بحياة ابدية لا موت فيها.

أما اسم زيوسدرا فيتكون في اللغة السومرية من ثلاث مقاطع zi معنى الحياة و u بمعنى يوم و sud بمعنى اطال، فيصير معناه الرجل الذي جعل الحياة طويلة واسمه يعني الخالد ببساطة (فاضل عبد الواحد علي ، ص٣٥-٢٠).

في عام ١٨٧٢م اعلن عالم الاثار البريطاني جورج سميث عن ترجمته لاحد الالواح المسمارية المكتشفة في مكتبة آشوربانيبال، وأحتوى هذا النص على قصة طوفان مشابهة لما ورد في التوراة عن نوح، ولاحقاً تم التوصل الى أن هذا اللوح هو اللوح الحادي عشر من بين اثنا عشر لوحاً تتكون منها ملحمة كلكامش (فراس السواح | مغامرة العقل الاولى ، القاهرة ، دار الكلمة ، ص١٦١).

تتحدث ملحمة كلكامش عن قتل كلكامش و انكيدو لخمبابا وحش غابة الارز، و عودتهما منتصرين الى اوروك، فتقع الالهة عشتار في حب كلكامش، الذي يرفضها بدوره لانها عديمة الوفاء، فتستشيظ غضبًا وتهرع الى ابيها الإله آنو، فيخلق آنو نور السماء و ينزله الى الارض، فيتمكن كلكامش و انكيدو من قتل الثور، فيثير هذا التصرف جنون الآلهة، فهذا الثور مقدس، ويقررون أن هذا الفعل لا يمر دون عقاب.

لكن كلكامش لن تتم معاقبته لأن ثلثيه إله باعتباره ابن الآلهة لينسون، فيقع العقاب فقط على انكيدو، و يموت جراء ذلك، وبعد ايام من جزع كلكامش على موت رفيقه انكيدو، يدرك أن الموت مصير كل انسان وانه زائل يوماً ما ، فيقرر البحث عن الخلود، ويقوده بحثه الى اوتوناپشتم، و الذي يسرد لكلكامش قصة الطوفان التي كان بطلها، فيحدثه عن قرار الآلهة باهلاك البشر في مدينة شوروپاك، و عن تحذير الاله أياه، ببناء السفينة و اخفاء أمر الطوفان عن الناس، فيصنع السفينة و يحمل بها الحيوانات و بذرة كل ذي حياة مع اقاربه و حرفيي المدينة و ينجوا بنفسه و من معه الى أن ينتهي الطوفان و العاصفة (نائل حنون | ملحمة كلكامش ، دمشق ، دار الخريف ، ٢٠٠٦ , الطبعة الاولى ، اللوح ٦-١١ ، ص٢٢٧-١٤١).

جدير بالذكر أن اسم اوتو ناپشتم يتكون من كلمتين اكديتين هما Watu بمعنى واجد و napis بمعنى نفس او حياة فمعنى اسمه واجد الحياة، وهي ترجمة حرفية تقريبا لاسم زيوسدرا.

أما الرواية البابلية الثانية لقصة الطوفان فبطلها يسمى “اتراخسيس” و يتكون اسمه من مقطعين هما atra بمعنى زاد وكثر (اثرى بالعربية) و asis بمعنى حس وفهم، فيكون معناه ثري الفهم او الحكيم، اما قصة الطوفان خاصته فترى احداثها ضمن نص يتحدث في البداية عن الخلق، إذ تضرب صغار الآلهة عن العمل والكدح، واحتجوا على الآلهة الكبار، فتم استدعاء الخالقة مامي (نينتو) التي خلقت الش مشورة انكى من مزج الطين بدماء احد الالهة، ونأ البشر باعمال الخدمة، وبعد عصور كثر ضجيج البشر وكثرت ازعاجاتهم، فارسل عليهم انليل الكوارث اربع مرات للتقليل من اعدادهم ثم قرر الاله انليل في المرة الخامسة ارسال الطوفان وافناء البشر، لكن انكي يحذر اتراخسيس ويأمره ببناء السفينة، وفعلاً ينجوا اتراخسيس ومن معه بفضل السفينة (فاضل عبد الواحد ،ص١٧٣-١٢٣).

أما اسطورة الطوفان التي أخذت اكبر صدى ممكن فهي اسطورة الطوفان العبرية التي وردت في التوراة، وبطلها النبي نوح.

وتتحدث التوراة عن حزن اللّٰه على خلقه للإنسان، الذي كثر فساده و ظلمه، فيقرر اللّه اهلاك جميع من في الارض من مخلوقات، ويستثني نبيه نوح لبره وتقواه، فيأمره ببناء السفينة، التي يجب أن يكون طولها ٣٠٠ ذراع و عرضها ٥٠ ذراع و ارتفاعها ٣٠ ذراعاً.

ويدخل نوح بأمر يهوه في سفينته، زوجته وابنائه مع زوجاتهم، و من كل نوع من الحيوانات زوجاً ذكرا وانثى، ويحدث الطوفان، ويكون كل البشر بعد الطوفان من نسل نوح، فيصبح نوح أب البشر الثاني بعد آدم (التوراة ، سفر التكوين ، الاصحاح ٦و٧).

مقالات قد تعجبك
اترك تعليق

لن يتم نشر أو تقاسم بريدك الإلكتروني.