شيخ الإسلام بهائي || شاعر إحترقت عباءته بنار التصوف

كتبه | محمد الحسين

لا نقف هنا عند فقيه وعالم دين وفيلسوف إسلامي، لأنه يطيل بنا الوقوف في رحاب ما تركه هذا الرجل من علم ومعرفة في صنوف مختلفة، بل نقف عند شاعر فارسي من الطراز الأول، افرز في شعره احاسيسه الملتهبة، وكتب مقطوعات شعرية صوفية أظهرت في باطنها لهيب نار التصوف الحارقة، حيث نقف عند هذا الإنسان بوصفه شاعرا، ويساورنا العجب أنه كيف ترك العلم زاوية في قلبه وافرغها للشعر، وقد كتم شعره، لكنه فاض منه، حيث أن شعره فضح سريرته النقية :

خلِّيـاني بلـوعتـي وغـرامي      يا خلـيـلَيّ واذهـبـا بسـلامِ

رغم أنه اشتهر بلقب “شيخ الاسلام” بسبب ما خلفه من آثار علمية وفلسفية صنفها في فروع الدين وأصول الفقه ومبادئ الفلسفة الإسلامية، فقد اشتهر أيضا بلقب “المهندس” لأنه كان عالما في الفلك والرياضيات والهندسة المعمارية، وبسبب عظمة ما انتجه من تصاميم هندسية إسلامية كثيرة في إيران اعتبر يوم ميلاده يوما وطنيا للمهندس في إيران، وذلك بعد مضي اربعمئة عام على وفاته وتم اعتماده من قبل منظمة اليونسكو والذي يصادف يوم ٢٣ نيسان.

فعندما تزور أصفهان المدينة الإيرانية العريقة التي كانت عاصمة للدولة الصفوية، والتي يطلق عليها اسم “نصف جهان” أي نصف العالم، ستبهرك عدد من المناظر الخلابة والعمارات الإسلامية البديعة مثل مسجد الشيخ لطف الله، وميدان نقش جهان وجسر سي وسه على نهر زاينده، وقصر عالي قابو وغيره، وربما تتساءل من ابدع كل هذا الجمال والفن الهندسي المعماري الفرد؟ ولن يكون الجواب سوى أنه الشيخ بهائي نفسه، شيخ الجمال والإبداع في الثقافة الإسلامية الإيرانية، ولكن لا نتحدث هنا عن هندسته المعمارية لإنه لا يسعنا المجال، بل نتحدث عن هندسته الشعرية الفذة بشيء من الاختصار.

إن الشيخ بهائي شخصية علمية فذة تبوأت مكانة رفيعة في ميادين العلوم الدينية والعلمية، إنه جوهرة العلم والفن، كما هو جوهرة الأدب، رجل الوحدة بمعناها في التوحيد وكذلك الاعتزال معا، فهو الذي يقول :

وإني امرء لا يدرك الدهر غايتي

ولا تصل الايدي إلى قعر أسراري

رجل الزهد والتصوف، وممتثل العرفان بروحه النقية :

وافرح من دهري بلذة ساعة        وأقنع من عيشي بقرص واطمار

رجل ذاب في العشق الإلهي وذابت به المحبة كما يقول :

خامرت خمرةٌ المحبة عقلي           وجرت في مفاصلي وعظامي

 

لقد عرف عن الشيخ محمد بن حسين الحارثي الهمداني العاملي عند العلماء بالشيخ بهاء الملة والدين العاملي ومعروف عند العموم بالشيخ البهائي، وتخلصه في الشعر الفارسي ب “بهائي”.

عربي من أهل جبل عامل في لبنان، واسمه محمد بن حسين بن عبد الصمد، ينتهي نسبه إلى الحارث الهمداني صاحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع). كانت ولادته في بعلبك في عهد الدولة الصفوية وتحديدا سنة ١٥٤٧م، وهو من عائلة علمية عريقة فأبوة وجده واعمامه كانوا من العلماء والفقهاء المرموقين في زمانهم، وما لبث إن أكمل بهائي تعليمه الاولي في لبنان حتى هاجر إلى بلاد فارس (إيران) هربا من اضطهاد الدولة العثمانية، فكان قد أقام وعائلته فترة في هرات (افغانستان) ثم قصد متجها إلى أصفهان، المدينة التي كانت وقتذاك عاصمة للعلوم الدينة وقبلة للفلسفة الإسلامية، وكان بهائي قد تتلمذ على يدي المحقق الكركي، وهو من أشهر فقهاء الشيعة في اصفهان، اما عن تلاميذه فنكتفي بذكر واحد يعد من اقطاب الفلسفة الإسلامية في العالم وهو الملا صدرا الشيرازي المعروف بصدر المتأهلين، وخاتمة حكماء الشيعة.

 وقد عني الشيخ بهائي بلطف واحترام الشاه عباس الصفوي حتى عينه في منصب شيخ الإسلام للدولة الصفوية. وقيل أن الشيخ بهائي كان كثير الترحال حيث سافر إلى مدن عديدة طلبا للعلم والحظوة بشيوخ الإسلام وعلماء الأمم، والتبرك بزيارة أولياء الله في مختلف الامصار، فزار مصر وفلسطين والعراق، والبحرين، كما حج بيت الله الحرام، وقد أقام في أصفهان ومشهد وتبريز وقزوين وهرات.

 ورحل الشيخ بهائي بعد أن افنى شبابه وشيبته في خدمة الأمة الإسلامية علما وفنا وحضارة، فوافاه الاجل في أصفهان بحدود العام ١٦٢١م، وذلك بعد أن تجاوز عقد السبعين من عمره، بحياة قضاها في طلب العلم وتدريسه، وبناء على وصيته نقل جثمانه من اصفهان إلى مشهد ليدفن بجوار حضرة غريب طوس الإمام الرضا (ع).

ترك الشيخ بهائي اثارا كثيرة وعظيمة في مختلف مواضيع الدين والفلسفة الإسلامية ومنها كتابه في أصول الدين “الزبدة في الأصول” وكتاب “حديقة السالكين” وكتاب “شرح الصحيفة السجادية” وكتاب “الأربعين حديثا” وغيرها بالإضافة إلى كتب ورسائل في العلوم والهندسة منها كتاب “خلاصة الحساب” وكتاب “رسالة في تضاريس الارض” وكتاب “تشريحالافلاك” وغيرها الكثير من الكتب والرسائل العلمية، وقد وصلت مؤلفاته المخطوطة نحو المئة على أقل تقدير.

 أما في مجال الأدب واللغة فقد ألف بهائي : كتاب “الكشكول”وهو في أربعة أجزاء، من أهم كتب التراث الإسلامي في الأدب، وكتاب المخلاة وهما من أشهر اثاره الادبية، وكذلك كتاب أسرار البلاغة، والتهذيب في النحو، و”الفوائد الصمدية” وهو اول كتاب في النحو العربي الميسر، وألف منظومات ومثنويات كثيرة مثل “رياض الأرواح” و “موش و گربه”، و “نان و حلوا” فضلا عن ديوانه الشعري الذي يشتمل على عدد من القصائد والمقطوعات والاراجيز والمثنويات، والغزل الرباعي.

 فقد ديوان الشيخ بهائي الذي جمع بعد وفاته، وما وصلنا منه ليس سوى ما ذكرته الكتب والشروح والمعاجم وما استشهد به المؤلفين من بعده، ثم إن معظم أشعاره قد ضمنها في كتابه الشهير “الكشكول” ورغم أنه قد تناول في شعره أغراض شتى إلا أنه امتاز بالشعر الديني والمدائح في حق النبي محمد (ص) والأئمة الأطهار (ع) فضلا عن مقطوعات ورباعيات في النصح والوعظ، وقصائد في العشق الإلهي.

وقد قام محمد زين العابدين بجمع وإعداد ما تناثر من شعرهالعربي وطبعه في ديوان احتوى على (232) صفحة وصدر عن دار زين العابدين لإحياء تراث المعصومين في قم عام (2009)، وهو ديوان يتضمن القصائد والمقطوعات التي كتبها الشيخ بهائي باللغة العربية، أما مشتمل شعره باللغة الفارسية فهو غير مترجم للعربية حتى اليوم.

ويقول الشيخ بهائي في إحدى مدائحه، وكأنه يقدم خلاصة لما يختلج في عقله، وزبدة ما افنى دهره في سبيله :

وأخلصـتُ حبّي فـي الـنبـيِّ وآلـهِ

                        كفى في خلاصي يوم حشريَ إخلاصي

وقال يمدح النبي محمد (ص) :

إليك جميـعُ الكـائنـاتِ تُشـيرُ             بأنّـك هـادٍ منـذِرٌ وبشـيـرُ

وشخصك قطب الكائنات فسِرُّها      على سِـرّه في العـالمـين تُديرُ

وقال في قصيدة أخرى :

خليفة رب العالمين وظله          على ساكني الغبراء من كل ديارِ

علوم الورى في جنب أبحر علمه       كغرفة كف أو كغمسة منقارِ

كما قال في ولاية أهل البيت (ع) : 

فإن طعت رب السما فارضه       فحب الائمة من فرضه

وجاء في موطن اخر :

لي أربعةٌ وعشرةٌ همْ ثقتي          في الحشرِ همْ حصني من أعدائي

وكتب في أمير المؤمنين عليه السلام قصيدته الغديرية الرائعة ومنها قوله :

فتىً قُلْ بتعظيـــــــمِه ما تشا      ســـوى ما ادّعته بعيسى النصارى

أعزُّ الـــورى وأجـــلُّ الملا     مــــــــــــحلّاً وأزكـى قريشٍ نجارا

خلاصة أهــــلِ الـتقى والوفا     وركنُ الهــــــــدى ودليـلُ الحيارى

ومن جملة ما قاله في رثاء سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) :

مصابُكَ يا مولايَ أورثَ حرقةً     وأمطرَ مــن أجفانِنا هاطلَ المزنِ

فلــو لمْ يكن ربُّ السماءِ مُنزَّها     عن الحزنِ قلنا إنّه لكَ في الحزنِ

قال في الإمام المهدي المنتظر قصيدة جاء فيها :

فأنعِشْ قلـوباً في انتظارك قُـرِّحتْ    وأضجـرها الأعـداءُ أيّةَ إضـجارِ

وخلِّـصْ عبـادَ اللهِ مِـن كلّ غاشمٍ        وطهِّـرْ بلادَ اللهِ مِـن كلّ كَـفّـارِ

إلى غير ذلك من جميل قصائده التي تغنى بها بحب أهل البيت عليهم السلام، وافاض فيها عشقه الإلهي بأسلوب جزل، ولغة بسيطة يسرح معها الذهن بجميل تعابيره ونقاء صوره ورقي مفرداته.

ثمة شعر صوفي بسيط وخال من الزخرفات البيانية والتعقيدات اللغوية، وقد نظمه باللغة الفارسية والعربية، وهو يقترب بأسلوبه من نظم الشاعر الفارسي الكبير فخر الدين عراقي، كما يقارن بعض الأدباء شعر الشيخ بهائي بغزليات لسان الغيب حافظ الشيرازي، وأما في المثنويات فهو لا يخرج عن نهج جلال الدين البلخي، وفي الرباعيات فإنه مقلد للشاعر الفارسي الصوفي الكبير ابو سعيد أبو الخير.

وفي العموم فأنه لا يظهر من وراء شعره سوى الزهد والعرفان والعشق الالهي، وقد كان بهائي ذا نفس طويل في الشعر حيث أن بعض قصائده تعدت المئة بيت، ورغم انه ابدع في كتابة الشعر باللغتين الفارسية والعربية، الا انه احسن في الفارسيةحيث يقول المصنف الشهاب الخفاجي : “شعره باللسانين العربي والفارسي مهذب محرر، بالفارسية أحسن وأكثر.”

وقد تجلى التصوف كثيرا في شعره الفارسي، أكثر منه في شعره العربي، بل أنه لم يكشف سوى عن لمحات خاطفة من التصوف في شعره العربي.

ورغم أنه سرح من خلال مدلولات عرفانية واضحة، فإنه لم ينحرف في تصوفه عن سابقيه من شيوخ التصوف وشعراءه.

فالخمرة والحبيب من الرموز الشعرية المعروفة في الشعر الصوفي، بالغ الشيخ بهائي في التعرض لهما كحال الشعراء الإيرانيين والمتصوفين وهو يرد من ورائها غايات حقيقية بينة لا تعود إلا إلى الأصل في العشق الالهي، ولكن بهائي يضعنا امام حقائقه الشعرية وجها لوجه وذلك ليس أوضح من قوله بالفارسية :

_ كل ما في العالم دليل على المعشوق.

وقد كتبت الدكتورة دلال عباس في ورقتها البحثية عن الشيخ بهائي وشعره الصوفي تقول :

“إنّ أجمل أشعاره هي قصائده الخمريّة التي قالها في العشق الإلهيّ على طريقة المتصوُّفة، وهي ملمّعات بعضها عربيّ، وبعضها فارسيّ، اعتمد فيها الرمز وأحيانًا القِصّة على عادة الشعراء الإيرانيّين الذين تقدَّموه باعتماد الرّمز في أشعارهم، وهو مثلهم يقصد بالكأس، والنديم، والمدام، والدفّ، والمطرب، والصّنج، والساقي أسرارًا يعبِّر عنها بالإيماء.”

فقد قال في عتاب احبته على شاكلة مفتتح ديوان حافظ الشيرازي :

مضى في غفلة عمري كذلك يذهب الباقي

                                أدر كأسا وناولها ألا يا أيها الساقي

وقل يا سادتي انتم بنقض العهد عجلتم

                                  وإني ثابت ابدا على عهدي وميثاقي

ومن خمرياته المشهورة في ديوانه العربي :

هاتها.. هاتها مشعشعة           افسدت نسك ذي التقى النسيك

يا كليم الفؤاد داو بها                     قلبك المبتلى لكي تشكيك

فاللجوء إلى الرمز كان عادة عند الشعراء المتصوفة، كما هو معروف، وهم ينفتحون في الفضاءات الروحية ويسيحون بها بحرية تامة من خلال رموزهم الملغومة، وهكذا هو الشيخ البهائي يكشف عن فيضه الإلهي بواسطة تلك الرموز وهو يقول في تعبير واضح وصريح بالفارسية ما ترجمته :

أي بهائي، عبائتكَ هذه إذا اشعلتها الليلة

يمتليءُ العالمُ بدخانِ الكفرِ والحموضة والقذارة.

وقد جمع الشيخ بهائي بين الحكمة والدین في لباس واحد كما مزج الفقه والتصوف تحت إطار مشترك كما يقول : “من تفقّه ولم يتصوُّف فقد تَفيْقه، ومن تصوُّف ولم يتفقّه فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقَّق.”

وقال بالفارسية، معبرا عن حال ما وصله الدين :

_ في حضننا صنم وجبهتنا في السجود

لقد ضحك الكفر من اسلامنا.

في الاخير يجدر بنا أن نذكر هنا أن الإيرانيين لا ينفكون عن ترديد جملة من اشعار الشيخ بهائي على الدوام، سيما مقطوعته المعروفة (تمني الوصال) والتي مطلعها بالفارسية “تا كى به تمناى وصال تو يكانه” أي : إلى متى أتمنى وصالك.

ولكن يبقى تصورنا عن شعر الشيخ بهائي غير مكتملا، لأننا لم نطلع على شعره الفارسي بعد فإن جوانب كثيرة منه ستبقى محبوسة رهينة الترجمة التي يمكن أن تطاله يوما ما. وكم نتمنى نحن قراء العربية أن ننتفع بروائع الأدب الفارسي، ونحظى بقراءة الشعر الفارسي الذي لم يصلنا منه سوى القليل رغم طول عمر الترجمة من اللغة الفارسية. حيث تفتقد المكتبة العربية لديوان الشيخ بهائي ودواوين فارسية أخرى كثيرة، وهي أولى بضمها إلى جانب دواوين الشعراء.

مقالات قد تعجبك
اترك تعليق

لن يتم نشر أو تقاسم بريدك الإلكتروني.