أين النص الأصلي لكتاب كليلة ودمنة؟

كتبه | محمد الحسين

ما يزال كتاب “كليلة ودمنة” مثيرًا للجدل رغم أن القراءات النقدية عنه فاضت وغاصت في البحث عما هو مخبوء بين سطوره. ولا يتفاجأ القارئ العربي عندما يعرف أولاً أنه ليس كتابًا عربيًا، كما قد يتفاجأ أخيراً عندما يشك في كونه كتابًا عربيًا حتى وإن كان مؤلفه فارسي الأصل ويضع موضوعاته بالتعريب والترجمة عن اللغة الفارسية البهلوية.

إذا طالع قارئ عربي أشهر ثلاثة كتب قصصية جرت برمزية الحيوان والبهائم على التوالي مثل حكايات إيسوب وقصص فولتير وكليلة ودمنة، فإن الأخير هو أهمها وأبدعها بلا أدنى شك، لأن عبد الله ابن المقفع قد تجاوز فيه حدود الإبداع في الترجمة أو التأليف .

بادئ ذي بدء يمكن الخلاصة إلى نتيجة بينة لمحاولة الإجابة عن السؤال الذي طرحناه في عنوان مقالنا دون إلتواء، ومفادها هو ما يذهب إليه رأي بعض المستشرقين وعلى رأسهم المستشرق الألماني “تيودور نولدكه” إلى الاعتقاد بأن كتاب كليلة ودمنة هو من وضع ابن المقفع، ثم إنه يَفترض -ولا يقطع- بوجود نص أصلي لما ترجم عنه ابن المقفع هذا الكتاب، إذ أن نولدكه لا يبحث عن الأصل السنسكريتي الهندي ولا النص الفارسي، لأنه ليس ثمة نص غير ما ألفه ابن المقفع باعتقاده.

 

المعروف عن تيودور نولدكه هو شيخ المستشرقين الألمان، وهو صاحب الكتاب الذائع الصيت “تاريخ القرآن” والذي أعتقد فيه أن القرآن كتاب مؤلف من إلهام النبي محمد، وهو استاذ المستشرق بروكلمان، وما يخص بالذكر هنا هو أن كلام نودلكه يعتبر على نحو ما حجة ساطعة في التراث العربي والإسلامي.

 

في الواقع نحن ليس أمام كتاب مقدس، ولكنه ثمة كتاب يحمل نص مؤلف أو مترجم أو بالأحرى مفسر على حد تعبير ابن النديم (قوله وفسره ابن المقفع) وهذا الكتاب له من الأهمية ما يجعله في صدارة الكتب الموضوعة في ذلك العصر، ولأنه يخاطب الحاكم بشكل شبه مباشر ويتدخل في شؤونه فأصبح منذ ذلك الوقت محط أثارة للجدل، وصار مؤلفه يشكل مصدر قلل للسلطة.

 

وهذا الكتاب وهو كتاب “كليلة ودمنة” الذي وضعه عبد الله ابن المقفع المتوفي سنة (١٤٢ هجرية) بلغة رمزية وضع في العصر العباسي، وكان ابن المقفع مترجمًا ينقل الآداب العالمية للغة العربية ليس فقط عن طريق الفارسية ولكن من خلال لغات أخرى كالهندية واليونانية، والمعروف عنه أن جميع ما نقله ابن المقفع للعربية بقي مرجعًا في التراث، لأن الكتب الأصلية اختفت بطريقة أو أخرى، حتى صارت الكتب التي يترجمها تعرف باسمه.

 

ولكنه لا توجد رواية مسندة في بطون الكتب التاريخية وكتب التراث الأدبي أو تلك المصادر التي أرّخت المدونات العربية تثبت أن كتاب “كليلة ودمنة” من أصل هندي أو فارسي، حسب ما خلص إليه المستشرق الألماني نودلكه وهذا ما أشرنا إليه في البداية، وإضافة إلى ذلك فإن النقد الأدبي الحديث في بعض أصواته يشير أيضًا إلى أن هذا الكتاب قد وضعه ابن المقفع، وأما قصة الأصل الهندي والفارسي فهي ليست إلا محض خيال ابتدعها المؤلف لدرء الخطر عن نفسه.

 

يقول ابن خلكان في هذا المنعطف : “ويقال إن ابن المقفع هو الذي وضع كتاب “كليلة ودمنة”. وقيل: إنه لم يضعه وإنما كان باللغة الفارسية فعربه ونقله إلى العربية، وإن الكلام الذي في أول هذا الكتاب من كلامه.”

فابن خلكان هنا يضعنا في محل الشك بين وجود النص الاصلي وعدم وجوده، ثم يستخلص نتيجته من أن ابن المقفع قد لفق علينا تلك القصة المثيرة التي نسجها في مقدمة الكتاب.

ومع وجود هذه النسخة العربية البديعة من النص فأنه استحالة أن تصل الترجمة التي قام بها ابن المقفع إلى هذه الحدود، لأنها تجاوزت الأصل (على افتراض وجوده) بمراحل متقدمة، ومن غير الممكن في ذلك الوقت أن يوجد مترجم يمتلك مثل هذه القدرة على نقل نص بإمكانيات لغوية خارقة، يتفوق فيها على ابتداع النص الأصلي.

 

لا ننكر أن ابن المقفع كان مترجمًا بارعًا، وهو ابو المترجمين العرب، ولكن يجب أن نعترف أنه كان مخادعًا بارعًا وخائنًا من الدرجة الأولى، كما لا يخفى أنه عاش في عصر قارب سقوط الدولة الأموية وبدايات ثورة العباسيين، حيث أنه احتفظ بعلاقات طيبة من كلا الجانبين ولم ينخرط في ولاء أي منهما.

يقول المثل المشهور أن الترجمة خيانة، ولأن ابن المقفع تعدى حدود المترجم المحترف فأنه كان خائنًا لمستوى غير معقول في ابتداع كتاب مثل “كليلة ودمنة”. فهل ننسى ما قاله الجاحظ في كتابه البيان والتبيين؟، حيث اعتبر ابن المقفع مع جملة آخرين من أدباء عصره من زمرة الكتاب الفرس “المزورين” أي الذين يأتون بكتابات من تأليفهم وينسبونها لمن يشاءون حسب ما تقتضي المصلحة، رغم أن قول الجاحظ هنا فيه نوع من التهكم، ولكن يمكن أن يكون ابن المقفع قد فعل مثل ذلك خصوصًا في كتابيه “الأدب الصغير” و “الأدب الكبير” حيث أنه كان متأثراً بالثقافة والحكمة الفارسية أشد تأثير.

فعلى الرغم من أن النتيجة التي يذهب إليها معظم المثقفين العرب من الذين قرأوا كتاب “كليلة ودمنة” وأدركوا أنه كتاب مترجم كتبه الفيلسوف الهندي بيدبا إلا أن الحقيقة التي لا تكاد تكون متوارية عن أنظار الكثيرين هو أنه كتاب مؤلف وليس مترجم، وأن مؤلفه بالأصل هو عبد الله ابن المقفع وليس بيدبا، وذلك هو نتيجة ما خلص إليه الباحث المصري محمد النجار في كتابه “كليلة ودمنة تأليفًا لا ترجمة” الذي أكد عبقرية القريحة العربية المتمثلة بالأديب عبد الله ابن المقفع والذي ابدع في اخراج هكذا مؤلف تراثي عميق.

إذا طالعنا على سبيل المثال كتاب “نهاية الأرب في اخبار الفرس والعرب” وهو كتاب مجهول المؤلف، وقد وضع في القرن الثاني الهجري، وله قصة أخرى في تأليفه تتقاطع مع قصة كتاب “كليلة ودمنة”، والذي يحيلنا ايضًا إلى التصديق بقول الجاحظ ورأيه في حقيقة عبد الله ابن المقفع حيث يقول الأصمعي في المقدمة أن الخليفة هارون الرشيد قد طلب منه ان يحكي له اخبار الأمم السالفة، ثم سأله عن اخبار الملوك وسيرهم، وجاء اليه بكتاب “سير الملوك” الموضوع في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان والذي كان مودوعا في خزينة بيت الحكمة، وطلب منه ان يقرأ له منه فصولا، وقيل انه كتاب دونه عامر الشعبي وأيوب بن قرية وعبد الله بن المقفع ، ويعتقد نولدكه هنا ان كتاب سير الملوك هو ايضًا مقتبس من احدى مؤلفات الدينوري، ان اجتماع ابن قرية بعبد الله ابن المقفع واشتراكهما في تأليف كتاب لا يمكن تصديقه لأن ابن المقفع قد قتل في سنة ١٤٢ هجرية أي بعد وفاة ابن قرية بأكثر من خمسين عاما فمن المستحيل أن يتقبل العقل أن الخليفة عبد الملك قد جمع بينهما سنة ٧٥ هجرية من أجل تأليف ذلك الكتاب.

لا يختلف الحال كثيرا في كتاب سير الملوك، فهو يشبه قصة كتاب كليلة ودمنة حيث يخلص معضم الباحثين إلى ان شخصا جمع أخبارا ووضعها في مصنف وجعل المقدمة باسم الأصمعي، كما هو الحال في كليلة ودمنة، فكلاهما كتابان مشكوك في اصولهما.

وتقول المصادر العربية متفقة أن كتاب كليلة ودمنة قد ترجمه ابن المقفع عن الأصل البهلوي (الفارسية الوسطى) وهو بدوره منقول عن الأصل الهندي (السنسكريتي) ثم إنه لا وجود يذكر للأصل الفارسي، حتى أن الفرس ترجموه عن نسخة ابن المقفع مدعين أن نسختهم قد اختفت، ناهيك عن اختفاء الأصل الهندي، والسؤال هنا لماذا يعود الفرس لنسخة ابن المقفع وهي ليست أصلية متخطين بذلك النص السنسكريتي الأول؟

 

والجدير بالذكر أن حتى الترجمات الغربية اعتمدت على نسخة ابن المقفع، فلم ترجع للأصل الهندي ولا الأصل الفارسي، على حساب أن تكون ترجماتهم هي الأكثر وثوقًا.

 

ثم نجد أنفسنا هنا أمام كذبتين : الكذبة الهندية التي تقول أن الكتاب سرق من خزينة الملك وهي كذبة لا يصدقها غير الصبيان المولعين بقصص السندباد.

والكذبة الفارسية التي تقول أن الكتاب قد ضاع وهيهات أن يضيّع الفرس ريشة طائر منقرض من خزائنهم المحكمة.

 

لكن ابن المقفع ألف في بداية الكتاب قصة حلت عقدة النص وذهبت بالقارىء إلى خيال واسع جدًا، حيث أن وجود شخصية مثل برزويه يعني أنه يكمن هناك كاتب محنك وروائي من الطراز الرفيع وهذا حقًا ما امتاز به ابن المقفع.

 

أن الاعتقاد السائد الذي يقول أن كتاب “كليلة ودمنة” هو نسخة معربة عن الكتاب الهندي القديم الذي يسمى “پنج تيترا” أي الفصول الخمسة والذي وضعه الحكيم بيدبا، أصبح فيما بعد حقيقة راسخة من حقائق التراث التي لا يمكن الشك بصحتها، غير أن النظر في ذلك الكتاب الهندي وكتاب ابن المقفع يضع الشك محل اليقين، وذلك لعدم وجود تطابق بين النصين يمكن على اساسه اعتبار الأخير مترجمًا عن الاول، فهل يعني هذا ابداع في الترجمة جعل ابن المقفع يخرج بنص متفوق على النص الاصلي، أو أنه اقتبس فكرة الكتاب “الشكل” وراح يصوغ من خياله مضمونًا جديدًا، ومنصرف بأسلوبه عن مضمون الكتاب الاصلي؟

 

إن من يقرأ كتاب “كليلة ودمنة” هذا يعني أنه قرأ كتابًا عربيًا لأبن المقفع، ولا يمكنه أن يقول مثلاً : أنني قرأت كتاب “پنج تيترا” الهندي، أو قرأت ترجمة ذلك الكتاب.

 

وبعد أن سألنا عن النص الاصلي لكتاب “كليلة ودمنة”، لا بد أن نتساءل في نفس الوقت عن الظروف التي اتاحت ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة الفارسية مع أنه كان محفوظًا في الخزانة الملكية الهندية، وكان مؤلفه بيدبا قد أوصى بعدم ترجمته لأسباب سياسية معروفة، فينقل هنا المفكر والناقد عبد الفتاح كيليطو في كتابه “من شرفة ابن رشد” قوله : “الحال أن بيدبا لا يخشى أن تكون ترجمة كتابه رديئة أو غير أمينة، ما يخشاه هو أن يتملكه الفرس ويستمدوا منه القوة والمجد” ولكن ما حصل في الاخير هو مشروع خيانة من قبل رجل هندي غير معروف قام بنسخ الكتاب بطلب من برزويه الذي كلفه ملك الفرس بذلك، وهذا ربما يكون هو نفس الفعل أو ما يشابه الذي قام به ابن المقفع وهو خيانة من نوع آخر ألتبست في جُبّ الترجمة.

 

ثمة إذن بعد سياسي كبير يمكن الكشف عنه من أول قراءة للنص، ومع وجود مثل هذا النص في عصر هو من أشد العصور تحفظًا للرأي السياسي، العصر (بداية الدولة العباسية) الذي انصب اهتمامه على تصفية المعارضين له، والاهتمام بكتابة التاريخ من وجهة نظر تخدم مصالحه على حساب الفئات الأخرى، فيمكن أن نتسائل أنه كيف قد استطاع ابن المقفع القريب من الولاة أن ينتقد السلطة الحاكمة بمثل هذه الرمزية ثم يظن بنفسه أنه سيسلم من تهمة الزندقة أو من القتل والتعذيب الذي تعرض له فيما بعد.

 

لنا أن نتذكر أن ابن المقفع قد أتهم بالزندقة وهي أخطر وأشد تهمة في عصره، وقد تم تعذيبه جسميًا وجسديًا، أي أنه عذب حتى الموت واستمروا بتعذيبه والمثلة به بعد موته، وقد اغتيل وهو في ريعان شبابه (٣٦عاما) وبداية نبوغه.

 

لقد تسنى لأبن المقفع بأن يقوم بهذا العمل العظيم الذي كان أشبه بالمغامرة وهو قد وجد نفسه امام قضية لا يمكن السكوت عنها، وكما فعل بيدبا امام دبشليم، فإن عليه أن يجهز نفسه لصلاح هذه الأمة من خلال ارشاد حاكمها الجديد سيما وأن السكوت في مثل هذه الحال أمر شنيع.

 

وإن لا يُخطأنا الظن باعتقادنا فإن ابن المقفع قد كان متعمدًا من أجل أن يقع في مصيدة الحاكم وذلك حتى يحصل على جائزة الزندقة _بتعبير مجازي_ فدائاً للأمة التي يجد من الواجب اصلاحها، فالزندقة هي التهمة التي كانت بمثابة أعلى جائزة تمنح للأدباء والعلماء والفلاسفة في ذلك الزمان، والتي كانت كنوع من رد الجميل واثابة العلماء والفلاسفة والادباء على جهودهم من قبل السلطان، فقد اشتهر عن ابن المقفع قول المهدي : “ما وجدت كتاب زندقة إلا وأصله لأبن المقفع.”

 

وإن كانت الآراء تذهب إلى أن ابن المقفع قتل ليس بسبب كتاب “كليلة ودمنة”، وإنما بسبب رسالته في الصحابة التي هدد بها النهج الديني للسلطة الحاكمة والتي عرضت فكرًا مستقلاً وحرًا. ولكن كتاب “كليلة ودمنة” أيضًا كان قد وضع النقطة السوداء الأولى في حياة ابن المقفع لدى الولاة والسلاطين حيث بات قتله واجبًا لا يمكن الاغفال عنه.

ثم أنه لولا أن قام ابن المقفع بترجمة كتاب “كليلة ودمنة” لما صار له ذكر خالد تحتفي به الاجيال حتى يومنا هذا، ولكان مجرد مترجم عابر ينقل النصوص بين اللغات فلا يضيف إليها شيئاً، لكنه اختار التفرد والتفوق في عمله أيضًا على حساب النص نفسه.

 

إن الخلاصة التي ننتهي إليها هي أنه عندما نبحث أكثر في أصول كتاب “كليلة ودمنة” نجد أنه كتاب عجيب في كواليسه، فله أصول هندية وفارسية وعربية وأصول أخرى أقدم اشورية وسريانية، كما يوجد أيضا ثمة كتاب يوناني يعطي شبه في الشكل والمضمون لكتاب “كليلة ودمنة” إذن فإن كتاب “كليلة ودمنة” ليس كتابًا عربيًا فقط، لأنه يشبه الكتب المقدسة شكليًا فهو كتاب واحد لكل الأمم وما يختلف فيه هو المضمون واللغة بينما الجوهر العام هو نفسه في جميع النسخ تقريبًا.

لذا فإن البحث عن النص الأصلي لكتاب “كليلة ودمنة” أشبه بالبحث عن الغول والعنقاء إن جاز التعبير، إذ أنه مثل البحث عن أشياء غير موجودة، لكننا نتوهم أو نعتقد بأنها كانت موجودة وأختفت، ولا نعرف تفسيرًا لسبب اختفائها، لأننا عدنا إلى مصادرها فلم نجد منها شيئ يذكر. وهذه الحال ليست مع كتاب “كليلة ودمنة” فقط، ولكنها كذلك مع معظم ما وضعه وصنفه أو ألفه وترجمه الأديب عبدالله ابن المقفع شهيد المترجمين.

مقالات قد تعجبك
اترك تعليق

لن يتم نشر أو تقاسم بريدك الإلكتروني.