إن أغلب الروائيين المعاصرين هم من خريجي التخصصات الأدبية أو اللغوية في الجامعات، ويعملون في مكاتبهم بين رفوف الكتب التي تحاصرهم، ولا يريدون النزول الى الشارع والاختلاط بالناس، والخوض في الحياة العملية واكتساب التجارب التي لا غنى عنها لفهم الآخرين .
الجامعات لا تعلّم سوى الأدب الكلاسيكي، وأنه ينبغي أن تكتب الرواية استنادا الى التجارب الشخصية في المقام الأول . وهذا أمر جيد من حيث المبدأ . ولكن كم رواية بإمكان شاب لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره أن يكتبها عن نفسه ؟ قد يكتب رواية واحدة جيدة اذا كان صاحب موهبة ، ولكن الرواية الثانية ستكون عن شاب كتب رواية ناجحة ، ولا يملك الآن نقودا ، وليس لديه صديقة أو حبيبة ، ويتبهدل يوميا في وسائط النقل العام . وهذا أمر غير ممتع على الإطلاق.
لو كان ديكنز قد عمل حسب هذا المبدأ ، لكتب رواية ”ديفيد كوبرفيلد” فقط . تولستوي كان قد خدم في الجيش وخالط علية القوم ، وحرث الأرض قبل أن يكتب ”الحرب والسلام” و”آنّا كارينينا” .
كان إسحاق بابل جنديًّا في الجبهة الروسية – الرومانية إبان الحرب العالمية الأولى، ومراسلًا حربيًّا في فرقة «الفرسان الحمر»، وموظفًا في مفوضية التعليم، ومديرًا لدار نشر في أوديسا، ومندوبًا لبعض الصحف في بطرسبورغ وتبليسي. قطع كثيرًا من الطرق، وشاهد كثيرًا من المعارك. وكان طوال تلك السنوات يكتب ويطوّر أسلوبه. ويجرب التعبير عن أفكاره بوضوح واختصار.
وليس من قبيل المصادفة ان لكل كاتب عظيم تجربته الحياتية الثرية والمتنوعة التي تشكل منهلا لا ينضب لأعماله الأدبية . همنغواي كان مراسلا حربيا في الحرب العالمية الأولى والحرب اليونانية – التركية، وخبر عن قرب مآسي الحرب وانطباعاته عنها أصبحت جامعته الأولى ، وانعكست في كل أعماله المبكرة، التي تعتبر مواقف ولحظات من سيرته الذاتية، وكان شاهدا على الأزمة الاقتصادية في بلاده، وزار العديد من البلدان المختلفة. وعاش معظم حياته خارج وطنه الولايات المتحدة الاميركية التي لم يكتب عنها الا الشيء القليل نسبيا.
جون شتاينبك عمل مراسلا لصحيفة “سان فرنسيسكو نيوز” ليس لأنه كان بحاجة الى المال، بل لأنه أراد أن يخوض في أعماق الواقع الاجتماعي ويجمع المادة الأولية لروايته عن هذا الطريق، العمل كمراسل قادته الى معسكر العمال الوقتيين المهاجرين . هكذا ظهرت رواية ”عناقيد الغضب” . أما ”دوس باسوس” فقد جاب البلاد بحثاً عن المادة الأولية لرواية ”مانهاتن” وثلاثية ” الولايات المتحدة الأميركية ” .
كبار الروائيين أمثال بلزاك وفلوبير وتولستوي ودوستويفسكي وغوركي، واندريه موروا، وترومان كابوتي، ونورمان ميلر وغيرهم، خاضوا في أعماق الحياة، قبل الجلوس امام طاولة الكتابة.
حقائق الحياة المؤثرة ثمينة بحد ذاتها حتى بمعالجة أدبية بسيطة. ولكن الأدب ليس إثنوغرافيا، أو تاريخا، أو علم اجتماع. معرفة شيء ممتع أو شائق والكتابة عنها مهمة الصحفي وليس الكاتب . ثمة ( كتّاب ) تنقلوا بين مهن كثيرة وشاهدوا الكثير من الحوادث الغريبة وكتبوا عنها ، ولكنهم فشلوا في كتابة عمل فني ناضج. لأن استنساخ الواقع عجز عن الأبداع. الكاتب المبدع لا يجمع المواد لعمله الأدبي ، بل يعيش في داخل هذه المواد ، ويتفاعل معها ليحولها الى تجربة روحية يعرض فيها شيئا لم يكن بمقدور القاريء أن يراه لو كان في مكان الكاتب.
يبدأ الإبداع عندما يصمم الكاتب في ذهنه نموذجا للموقف. يرسم صور الشخصيات ، ويطور الفعل . ويملأ الهيكل باللحم والأعصاب. وهنا يتطلب الخبرة الحياتية أين ومتى عاش الأبطال ، ما هي ملامحهم ، وماذا يعملون ، وماذا يلبسون ، وكم يكسبون من نقود، ويتنقلون بأي واسطة نقل ، وماذا يحيط بهم . الكاتب يتوجه الى ذاكرته وخبرته. وتظهر ملامح الورشة، التي عمل فيها في وقت ما، والأماكن، التي استجمّ فيها .
فهم المادة الحياتية يعني القدرة على ادراك معنى كبير في حقيقة صغيرة . على الروائي ان يتعمق في جوهر الأشياء ، ولا يكتفي بوصف مظاهرها الخارجية فقط.