غصنٌ مُطعَّمٌ في شجرةٍ غريبةٍ || صلاح نيازي (3)

سيرة ذاتية | الفصل الثالث

كانت أمنيتي الوحيدة لا الوصول إلى لندن، لا العيش فيها، ولكن الموت في مكان آخر، الموت بإرادتي، أردت «أن أحس اللذة السوداء في الوفاة»… أردت أن اختار نوع موتي، كما اختار السهروردي موته. كان أشقّ شيء علىّ أن يشفي قاتلي غليله. أن أموت تحت قدميه وآلات تعذيبه مهاناً مذلاً. أمنيتي أن أحرمه من إشباع حقده.

غمرتني النشوة ثانية، حينما تفتحت أمامي أوروبا خضراء شاسعة. إذن – قلت لنفسي – هذه أوروبا وكلها قبر لي، ومرة واحدة شعرت بلذة الانتصار، كمن يخاف المشنقة فيتلذذ بقرص للموت. الآن أستطيع أن أقرر مصيري في أية لحظة. أصبحت إرادة موتي بيدي، وهو حق لا أريد لأحد أن يفرضه علي بالتجويع والتعذيب والإذلال. قررت أنْ لا التفت إلى الوراء بعد اليوم. أحببتُ القطار؛ لأنه كان يخبُّ بقوة إلى الأمام. يدخل في الأنفاق الجبلية المظلمة ويخرج بقوة إلى الأمام. هديرك أيها القطار أجمل تهويدة أمّ في أذني اليوم.

في الممر الضيق، اعترضتني أربعة عيون طفيلية، شيعتني إلى المراحيض، وعند عودتي وقفتْ في طريقي، فتعثرتُ بها. الأخ عراقي. عرفناك رأساً. كانا متلصقين بذلّ حيوانين تائهين. في الثلاثين من عمرهما. تاجران في طريقهما إلى ألمانيا. لا يعرفان أية لغة. النعمة المتشنجة بادية على وجهيهما وفي عيونهما حيل. مع ذلك ذكرت العراق بحنان، وفاض جسدي حنيناً دامعاً. غيّرا وجهتهما بـ «ميلان» وقررا المجيء إلى لندن بدلاً من ألمانيا. اقترحا بكرم وأريحية أن نبقى بميلان ليلتين للراحة، على أن يدفعا مصاريفي، مقابل مساعدتي لهما في الترجمة. عاثا فساداً بأجساد النساء المارات، والنساء الواقفات، والنساء الجالسات، ولم تسلمْ منهما حتى النساء في السيارات. يعلقان على كل عجيزة، وما من عجيزة استجابت، وشبعا احتقاراً. خافا من لحم الخنزير فامتنعا عن أكل لحم الضأن، وتصورا لحم الدجاج لحم غراب، وما من امرأة. تعبا من الاستمناء لدرجة اصفرار الوجوه.

قال الأكثر تجارة منهما، ونحن في منتصف النهار: – آه لو كنت ببغداد الآن، نائماً على حصيرة قرب الحائط، وأنادي على أم الأولاد، بثوبها الرقيق الشفاف. أطلب منها قدح ماء. ثم أقول لها ما هذا وراءك؟ وحين تلتفت إلى الخلف أرش الماء على ثوبها فيلتصق بجسدها. قررا النوم مبكراً هذه الليلة، يتخذان قراراتهما في الأكل، والشرب، والنوم، والتعب، والفرح والتعاسة معا. يقرآن نفسية بعضهما بعضاً بيسر. ويعرف كل واحد ما يدور برأس الآخر من أفكار. غداً عصراًسنغادر إلى لندن. كانا سناداً لي من الوحشة التي كنت أشعر بها. تأخرا في النوم حتى الساعة العاشرة صباحاً. سألتُ المسؤول في الفندق عنهما: – غادرا هذا الصباح في الساعة السابعة إلى ألمانيا. – والحساب؟ – دفعا حسابهما فقط. لكنني لم أكل بنهم كما أكلوا، ولم أشرب خموراً غالية كما شربا، ولم أطلب ساندويشات إضافية، كما طلبا. دفعتُ حسابي، وأحسستُ ببكاء ما. لا فرق. جئت لأموت ولا يهم متى. أعيش هدنة مع الموت قد تطول وقد تقصر.

لعقتُ الجرح، وقررتُ الذهاب لزيارة مبنى أوبرا «لاسكالا» وكاتدرائية «دوومو». لماذا؟ رغبة لا يحسها إلا المحتضرون الذين يريدون أن يتزوّدوا ساعة الوداع برؤية ما كان عزيزاً عليهم. أو ربّما أردتُ باللاشعور أن أغير خريطة الماضي وأستبدلها بخريطة أخرى. – أستاذ صلاح، أستاذ صلاح. أنا تلميذك في المدرسة «الجعفرية» هل نسيتني؟ جئتُ لإجراء مفاوضات لاستيراد أقمشة وبذلات وقمصان. أستاذ يبدو عليك التعب. أستاذ هل تحتاج إلى خدمة؟ تعال معي إلى المعمل.سأهدي لك بذلة راقية وقمصاناً. أستاذ يبدو عليك التعب يا أستاذ، تعال أغدّيك – شكراً سأسافر إلى لندن بعد خمس ساعات. دخل عليّ ابن الحلال هذا نفسه مرة إلى غرفة المعلمين، وفي يده رشاشة حقيقية، محشوة بإطلاقات نارية حية. – صلاح (بلا أستاذ)، هل صلّحت دفتر امتحاني؟درجتي لا تقل عن تسعين من مائة. فهمت؟ أحذرك. قبل أن يخرج، التفت إليّ مؤشراً بإصبع واحدة ونظرة مفترسة صلبة: أحذرك.

كانت لندن مكسوة بثلج عالٍ قياسي عام 1963. الثلج يغطي الشوارع والأرصفة والسطوح والأشجار. السيارات مغطاة بالثلج، وكذلك المعاطف. البخار يخرج من الأفواه كثيفاً. جئت من بغداد بملابس صيفية، وصداع آلاف الكيلومترات، وحيرة بحجم عصورٍ.

مع ذلك، أحدث نفسي، ها أنني أعيش يوماً إضافياً. يالله. وليكن ما يكون غداً. زادت طمأنينتي نسبياً بتغير البيئة: رمادية سماء لندن. الأيام طويلة. ثلج حتى على المداخن. لغة جديدة على الأذن. شقرة شعر وزرقة عيون. سير السيارات إلى اليسار. بيئة جديدة تبرهن لي في كل منعطف وواجهة مخزن، أنني نجوتُ، وأنني أعيش يوماً إضافياً. نجوتُ من خطرٍ، ووقعتُ في خطر الموت جوعاً. قلتُسأطيل أيامي بالتقتير وكسرة خبز. بكسرة خبز فعلاً أطلت أيامي. جوعي في طفولتي بالناصرية أعانني على تحمل الجوع بلندن. وما همَّ؟ مادام كل شيءحواليّ غريباً، وليكن ما يكون غداً، كانت سعادتي بمقدار غربتي. نشف وجهي، ونشفت فلوسي، ولابدّ من دفع الإيجار، سيدة البيت وزوجها الوديع لم يطالباني بإيجار لأسابيع. الثلج نابت في العظام. الجوع يمتصّ اللحم، ولا رسالة من بغداد. شعرت يتيماً بحاجة إلى نوم دافئ، وحنان وتهويدة أطفال. التقتير على أشُدّه، وكسرة الخبز عزّت.

ما الحل؟ عزّ الصديق وما من معيل. خطرتْ ببالي فكرةٌ: أمرضُ، وأنامُ في المستشفى. أشبع معدتي الفارغة لأسابيع. أسمع لغة الرحمة من الممرضات المعقَّمات. كم كنتُ بحاجة إلى من يناديني باسمي صلاح أو مستر نيازي، وإن كان شفقة. أن يسأل عني ويجسّ نبضي. من أين ينزل عليّ المرض؟ رحماك يا ربّ: أعطني رحمة المرض، لم تبقَ لي من رحمة سواها. ألمُّ أعقاب السكائر من الشارع، القط بقايا الفواكه والخضر من الأسواق الشعبية ليلاً. ليت الإقامة في المستشفى تطول. ليتني أمرض يا ربّ.

الأشجار عارية وتجاويف جذوعها محشوة بالسخام. استغربت من البراعم المغلقة الكبيرة على الأغصان رغم الثلج. تمنيتُ أن أعيش إلى أن تتفتح البراعم فقط، تفتّح براعم الأشجار بلندن، عسير وطويل. كنت اتفقدها كل يوم. أجدني في الحدائق العامة وحيداً، في المقاهي وحيداً، في الازدحام وحيداً. تنعّمت حقاً بكوني نكرة. لا يعرفني أحد وكأن على رأسي طاقية الإخفاء. لا يجذبني شيء، ولا أنجذب إلى شيء.

 من سوء الطالع أهدتني ربّة البيت، مصباحاً كهربائياً تحمله بومة. ارتعدتْ فرائصي وشكرتها بشكّ. كانت عينا البومة حادتين تنظران باستقامة جارحة في عيني. لا تطرفان. لا تميلان يميناً أو يساراً، كل ما يعنيها أنا. كأنهما تستجوبانني بضمير ميت. تطيرتُ منها وأرقت. أطفأت الضياء وغلفتها بمنشفة بيضاء. ساد الظلام الكثيف الذي يعقب عادة انطفاء ضوء حاد. تسلل ضوء الشارع من بين الستائر إلى الغرفة. نظرت إلى المنشفة البيضاء حول البومة، كانت تشبه في هيئتها رأس شبح مكفناً. أدرتُ وجهي إلى الحائط. ثم قمتُ بهمة، أمطت عنها لثام المنشفة ودحستها في الشنطة وقفلتها.

هكذا سار الروتين، أخرج البومة من القمقم صباحاًلتراها سيدة البيت، وأعيدها إلى القمقم ليلاً. كان لا يغريني شيء للرجوع إلى الغرفة مبكراً. الإيجار لم يدفع، والبومة بالمرصاد، فهي النور الوحيد في الغرفة، وليس لدي نقود لتشغيل جهاز التدفئة. أدخل تحت اللحاف، وكأني أدخل بين طيتين من ثلج.

في هذه الأثناء، كنت أقترب من نفسي أكثر فأكثر. أتحدث إليها وأتحاور معها. فرحتُ باكتشاف ممالكي المطمورة. كل تجاربي الماضية وكلّ قراءاتي السابقة قد أبعدتني عني. شرعتُ أهاجر إلى الداخل هذه المرة. (كتبت قصيدة «الهجرة إلى الداخل» ونشرت في الديوان بالعنوان نفسه. صدر عام ۱۹۷۷).

كنتُ أجتّر نفسي، حين خطرت ببالي فكرتان على حين غرة. أصبحتا قناعتين لم أحِدْ عنهما. الأولى افترضتُ فيها، أنني ولدت جديداً. أخطأتُ أم أخطأوا بحقي سيان. المهم ما وقع وقع. نجوتُ بالصدفة وأُتلفَ أصدقائي. لأبدأ من جديد وأتعلم حياة جديدة. الفكرة الثانية: «اعمل لديناك كأنك تعيش أبداً».

باتت العودة إلى العراق من باب المستحيل. لم يبقَفي يدي من فلوس لتكفي شراء تذكرة العودة. كنت مؤمناً أن اللغة، لا يمكن أن تلتهم. عملية طويلة وشاقة تحتاج إلى تكريس. قلتُ لو أتقن جملة واحدة في اليوم، فسأكون أفضل مما كنت عليه بالأمس، وفي الغد سأكون أفضل مني اليوم. تعلّمُ اللغة يحتاج إلى تواضع ومثابرة.

حقاً التزمت بالمثابرة، ولم ألتزم بالتواضع الذي نصحت نفسي به، إلا جزئياً. تأبطتُ القاموس حيثما سرت، حتى صار جزءاً من أعضاء جسدي. أقرأ ما تقع عليه عيني. أسجله على ورقة صغيرة. أفتش عن معناه في القاموس أولاً، وأسأل أول عابر عن كيفية نطق ما كتبتُ، ثم أذهب مع ما يتجمع لديّ إلى مكان منعزل وأدرّب أوتار حنجرتي على التلفظ. (لم أدخل مدرسة لتعلم الإنكليزية). وصل هوسي باللغة الإنكليزية إلى حد التمعن بمائة كلمة يومياً، وما همّ إن نسيتُ تسعين منها أو أكثر، همّي أن أتعرف عليها، حتى لا تكون غريبة تماماً.

بعد أقل من سنة أطرتني سيدة البيت وزوجها. لا أدري هل كانت تطري مثابرتي على التعلم، أم أنها وجدت تحسناً في لغتي. مع ذلك وقعت بإشكال جديد. حين أتحدثُ، أعطي انطباعاً أنني أعرف اللغة الإنكليزية إلى حد ما. لكن من يستمع لي في مرة أخرى سيكتشف على الفور أنني استعمل الكلمات والصيغ نفسها. واللغة – أية لغة – تلاوين تعبيرية متعددة تقال عفواً. شعرت بضيقٍ. الأدهى أنني لا أفهم ما يقال، لا لأنه يقال بسرعة لم تتعود عليها طبلة الأذن؛ ولكن لأن التركيب غامض. هبْ أنني عرفت كل كلمة واستوعبتها موسيقى وإيقاعاً، إلا أن المعنى يبقى غامضاً.

ما فاتني، هو أن اللغة الإنكليزية لغة اصطلاحية، وهذا هو أختلافها الأكبر عن اللغة العربية مثلا. قاموس «اليأس» الصغير لا يشرح المصطلحات. لذا أسميته قاموس اليأس. من يعيرني قاموساً أوسع؟ 

دعتني سيدة البيت مرة للقاء بعض أقاربها. كنت أراقب كل حركة كيف يصبون الشاي، كيف يسألون المقابل كيف يحبّ الشاي. ثقيلاً؟ خفيفاً؟ شاياً أسود؟ أم شاياً بالحليب؟ هل يأخذ الشاي بالسكر؟ كم ملعقة؟ كيف يقدمون الفطائرة كيف يأكلونها؟ كيف يمسحون أفواههم؟ أين يضعون المناديل؟ هل يتركونها على المائدة مطوية؟ بهذه الصورة، كنت أبني – من دون علمي – علاقات اجتماعية مع اللغة. واللغة – أية لغة – علاقات اجتماعية، في مراحلها الأولى، على كل، دار الحديث على موضوعات شتى. تعبت من ملاحقة الجمل وشعرت بإنهاكٍ. أدوزن أذني على صوت رجل وعلى إيقاع جملة، فما أن يدخل صوت نسائي حتى تتغير الدوزنة الأولى فلا ألحق بالمعنى.

سمعتُ سيدة البيت في هذه الجلسة تقول IT IS NOT MY CUP OF TEA والتفتتْ إليّ قائلة: أليس كذلك يا صلاح؟ ذهلتُ أول الأمر وشعرت بإهانة. كوبي أمامي وكوبها أمامها ولم أمسسه. قلتُ بثقة من يدرأ عنه تهمةً هو براء منها. لا. لا إنه کوب شايك، أقسم إنني لم أمسسه. حين قلتُ لم أمسسه، ضحكوا تعجباً. ولكن حين ألححت على براءتي اكتشفوا عدم فهمي للجملة التي تعني بالإنكليزية: هذا الشيء ليس من ميولي أو لا يروق لي. (متى أتخلص من هذا الشك يا ربّ. لماذا تقتصر علاقاتنا على تهمة، اتهام، ثم اصدار حكم)، الشيء بالشيء يذكر. كنت في إحدى الليالي في منطقة بيكاديللي القريبة من «سوهو» الشهيرة بحاناتها وتبذلها وزناها، ومأكولاتها الصينية والإيطالية…

ذهبتُ إلى التواليت في محطة بيكاديللي، فرأيتُ جمهرة من الرجال محلولي البناطيل قليلاً، يتظاهرون بالتبوّل ولا يتبولون. فتحت أزرار بنطلوني، فأشرأبت الأعناق بفضول ووقاحة. زررتُ بنطلوني، وهربت ببولتي من دون أن ألتفت إلى الوراء. هنا – وما كنت أدري – أحد مراكز الشاذين جنسياً. البوليس لا يستطيع أن يتدخل قانوناً، لمجرد الشك، حتى لو بقوا ساعات طويلة على تلك الوضعية، ومن دون تبول. قد يكونون يشكون من انحصار البول، فكيف للبوليس أن يثبت عكس ذلك؟ حتى وإن عرف الجميع أنهم شاذون جنسياً.

قلت: هربت من دون أن التفت إلى الوراء صعدت السلم. سألت بائع الصحف عن عنوان في شارع «بيكر». قال كلاماً لم أفهمه. كان يتكلم لغة يسمونها «الكوكني» (وهي اللهجة الدارجة التي يتكلمها أهالي لندن في المنطقة الشرقية منها). رجوتُهُ أن يعيد ما قال، فضحك ونطق جملة أكثر استغلاقاً، وهنا هبّ صديقه المخمور الواقف إلى جانبه وقال لي: leg is pulling your He. نفرت أشد نفور. ربطتُ مشهد الشاذين المرابطين في التواليت من دون تبولٍ، بجر الساق، فاقشعرّ جسدي. تحدثتُ لسيد البيت بعد أشهر عن هذه الحادثة، مشتكياً، فضحك ضحكاً طويلاً وسعل من جرّائه. قال إن هذا مصطلح، يعني: «أنه يمزح معك». بلعتُ خجلي، وأخذت أدنو من اللغة بحذر وتأنٍ.

اقتنعتُ أن سيدة البيت وزوجها، يجهلان الثقافة، والكتب، وأسماء الأدباء، والرسامين الإنكليز، التي كانت متداولة فيما بيننا – نحن الشباب – بالعراق. فهما يجهلان مثلاً، تي. أس. إليوت، وأيدث سيتول، ولورنس دريل، ولا يعرفان عن دي. ایج. لورنس، سوى أنه كان متهما بالنازية. كانت سيدة البيت لا تعرف أين تقع مصر. وقد صرفت ُوقتاً طويلاً معها وأنا أشرح لها أنني من العراق وليس من إیران، وأن بغداد هي عاصمة العراق وليست طهران. اقتنعا اقتناعاً خفيفاً، وكأنهما يشكان في قدرتهما على تذكر هذه المعلومات الجديدة فيما بعد (لماذا كنا ندرس كل أوروبا ومدنها، وكل أمريكا شماليها وجنوبيها ومدنها الصناعية، وعدد سكانها، وليس في مدينتنا مطار، اللهم إلا قطار فرعي يذهب على خط الحديد نفسه مساءً، ويعود على الخط نفسه صباحاً قبل استيقاظ الديكة والأذان). مع ذلك كانا أغنى مني معرفة وأثرى، يصلان إلى المعنى بكلمات قليلة، مثل كلمات برقية مركزة. يتوضح المعنى أكثر بالتلون الموسيقي في الجملة. تسمع في ذبذبات الصوت، الهديل مرة وهزيم الرعد مرة. تسمع الأمومة في أعمق تجليات حنانها مرة، وأضعف ارتعاشات الخوف مرة أخرى.

حبال صوتي مدوزنة على إيقاعات صوتية رئيسة وقليلة. أوتارٌ محدودة بلا تنويعات. حنجرة سيدة البيت اوركسترا كبيرة ترفّ آلاتها كأجنحة فراشات، وتصعد كموج. حنجرتي طبلة وناي يتحاوران بمللٍ طويلٍ. 

طوّعت سيدة البيت وسيده (هي لم تكمل الدراسة بسبب الحرب الثانية، وهو نفر عسكري كان يشتغل في معامل الأسلحة، فنخبت صدره المواد الكيماوية)، الثقافة، إلى حاجاتهما اليومية. يعرفان كل ما يتعلق بنظافة البيت وتعقيمه. ما أفضل السوائل لتنظيف السجاد والشبابيك. يربيان النباتات البيئية بحسب تعليمات الخبراء. سيدة البيت تغني للنباتات وتحدثها بعاطفة وكأنها في حضانة. تسقيها بمقدار، بحسب التعليمات، وبدورقٍ خاص. كل حاجة في البيت، جامدة أو نباتية، لها شخصية خاصة، وتحتاج إلى تعامل خاص، ومداراة علمية، بحسب آخر الوصايا المختبرية. كنتُ بالمقارنة، أتغنى بالقوس قزح، وربما أسرد أجمل ما كُتب فيه من شعرٍ، وفي أية لوحة رسم، وهما، سيدة البيت وسيد البيت يتلذذان به کالأطفال، ولكنهما يعرفان تكوّنه العلمي، وتدرّج ألوانه، ويعرفان بدقة، انسجام الستائر مع الأثاث مع ديكور الحائط، ويفضلان – عن طريق القراءة والتجريب – أفضل المواد لتلميع مقابض الأبواب. حنجرتي صدئة ومروضة على إيقاعات محدودة، وأنماط متوقعة. حين أتحدث، لا أدري أين تختفي، الكلمات والجمل التي تعلمتها. وما من شيء تعلمته يكفي لحوار طوله ساعة في كل مرّة. حين أصغي لهما، لا أجد في تعابيرهما، كلمات خارجة عن المألوف، ولا صياغة متعسرة. مع ذلك، أجدني عاجزاً. لابدّ أن هناك أسباباً أخرى. عليّ أن أتأنىف لستُ في عجلة. تعلّم لغة، نمو يمكن تسريعه إلى حدّ ما، ولكن لا يمكن اختصار مراحله.

لم يزدني الإحباط إلا هوساً على هوس. قلت لأدخل اللغة من بابها الأوّل، في المكتبة. وضعت قاموسي على الطاولة مع عُدّتي من الأوراق. واستللتُ من كتب الأطفال كتابين لا على التعيين. بدأتُ أقرأ وأدوّن وأراجعُ القاموس. لم أثر فضول العاملين في المكتبة ولا فضول الأطفال وأبائهم. لقد رُبّوا هنا على حمل الأشياء على محمل الجدّ. كثيراً ما يستشهدون بمثل قديم: «الفضول قتل القطة»، رغم أن لها تسعة أرواح.

قرأتُ كمية كبيرة من هذه الكتب بانجذاب حقيقي. ما كنت أدري أنني سأدخل إلى عالم مسحور، عالم «ألِسْ» في أرض العجائب.» الكلمات كبيرة الحروف، الجمل قصيرة، والصور ترف من الألوان. العصافير على الأشجار كالثمار الملونة. أنواع الطيور. ضفادع تثير الشفقة في جلستها على عجيزتها، أو في سباحتها في الماء وسيقانها ضعيفة وطويلة وكأنهما ذيلان رقيقان. غزالة برأس ممتلئ بأجراس عيد الميلاد، وذنب منتصب كنبتة برية، سمك يرفع نفسه فوق الماء قليلاً بأفواه كبيرة مبتسمة، حمار صامت بود واستغراب، بطوط تثرثر فيما بينها وهي طائرة. سنجاب على الشجرة. سنجاب وبندقة صغيرة بين يديه القصيرتين، يقضم بها بعجلة، كأنه يدغدغها. عالم مسحور تختلط فيه براءة الحيوان ببراءة الأغصان، ببراءة الماء، ببراءة الألوان والغيوم، ببراءة الكلمات والحوار. هل عدتُ طفلاً؟ فعلاً عثرت على واحة حنون. توسع عالمي بأسماء الحيوانات والنباتات. حيوانات لها أرق الأفواه البشرية في التخاطب. وأشجار تُساقط عليك ثمرة ورحمة، وتغطيك بأحنى ظل، وفوقك الهديل والسقسقة. 

زارتنا مرة في لندن، قريبة لنا مع ابنها، كان عمره خمس سنوات. ابنتي الصغيرة تقاربه بالعمر، تعارفا أولاً بالنظرات الفضولية والاستكشافية، وبحذر انسجما بدُماها الأجنبية. يتحدثان: هي بلغتها الإنكليزية وهو بلهجته العراقية، مع ذلك انسجما لا بالأفكار وإنما بالعمل. مرة تظاهرتُ بالنوم. عزفتْسارة على البيانو نوتتها المفضلة. اشترك معها بحماقة بكل أصابعه، فنهرتْهُ. بعد ذلك، ناغتْ قطتها بدلال، وهو يراقب بغضبٍ، ثم بدأتْ تقرأ بصوتٍ عالٍ. فاذا به يصرخُ بها: سأكسرُ البيانو، وأقتلُ القطة، وأمزقُ الكتاب. من أين جاء بهذه الألفاظ؟ أي مجتمع هذا الذي يغرس في طفل عمره خمس سنوات، كل هذا الاستبداد وحب التدمير؟ أيهما أكثر لا معقولية خيال تلك القصص العذبة عن الحيوانات المؤنسنة، أم واقعية هذا الطفل العراقي الوسيم ذي العينين النافذتين لدرجة الاختراق؟

ما همني؟ المهم أن أتعلم اللغة، وإن جاءت على لسان طير أو دعسوقة. حقاً غمرتني سعادة، وأنا أتعرف على هذا العالم المسحور، وكأنني عثرتُ على شيءٍ مفقود. ألثغُ بالكلمات، وأذني تزداد إصغاءً.

في المقهى في إحدى المرات، سألتُ رجلاً كبيرَ السن بعد محاورة، غيرتها لتصبّ في موضوع أعرفه عن رأيه بلغتي الإنكليزية. همهم لا بأس. أنا لا أستطيع أن أتكلم لغة أجنبية مثلك. أدهشني، حينما قال : كلماتك لا بأس، ولكننا نستعملها بطرق مختلفة. قلت له ما السبب؟ انحرج؛ لأنه لا يريد أن يحرجني، همهم بعد أن أخفض صوته وتواضع، ربما هناك ثلاثة أسباب. ذكر سببين لم اقتنع بهما، وتفادى السبب الثالث. أين تكمن العلة؟ بدأت الآن بالإصغاء إلى الناس بصورة مختلفة. 

سمعت سید البيت يقول لزوجته: «سأذهب غداً إلى شركة التأمين بالباص هذه المرة، أو هذا هو المعنى العام الذي استخلصته منه. ولكنه كيف قال سأذهب؟ أي سين الاستقبال: بـ WILL أو WOULD، بـ MIGHT أو MAY أو COULD أو CAN أوSHOULD أو SHALL لكل من هذه الكلمات معنى محدد واحد. هل قال I AM GOING أنا ذاهب، وهي تشير إلى المستقبل؟ لكنّ سيد البيت لم يترك ساعات الغد مفتوحة، بل حدّدها في الساعة العاشرة، وبما اكتسبه عن أهمية للوقت، لابدّ أن يقول صباحاً أو مساءً.

الجملة الإنكليزية، ليست يقينية جافة. تسمع الجملة الإنكليزية وكأنما اشترك في صياغتها شخصان في آن واحد: أحدهما يروي وآخر يعترض. لذا تكثر فيها خطوط الرجعة، والجمل الاعتراضية وكل ما يقلل من يقينيتها. إلى ذلك فهي لا تغفل عن الاحتمالات غير المتوقعة. 

الجملة التي ذكرتُ آنفاً: «سأذهب إلى شركة التأمين بالباص هذه المرة»، جملة يقينية، مقبولة، لدى الذهنية العربية، ولكنها غفل عن الاحتمالات اللامتوقعة. قد يلحقها رجل الدين بـ«إن شاء الله»؛لأن الإنسان في نظره مسیّر بقوة غيبية؛ أي إن أموره ليست بيده، وهكذا يسهل عليه التنصل منها إن لم يذهب إلى شركة التأمين، إلا أن الجملة الإنكليزية تلك غير معنية بالجانب الغيبي، وإنما بالجانب القانوني، وبالمنطق في آن واحد. فالفعل «سأذهبُ»، مع سين الاستقبال، لم يقع بعد. هو مجرد قرار لم ينفذ.

وحتى يوضع موضع التنفيذ، تعترضه جملة احتمالات غير متوقعة منها توعك الصحة، منها الطقس الذي قد يقطع سير المواصلات، منها إضراب سائقي الباصات، أو أي طارئ غير منظورٍ. لذا لابدّ من إشفاع سأذهب بما يقلل من يقينيتها، كأن تقول: إذا كانت الأمور مؤاتية، أو على ما يرام. وعلى هذا تكون «غداً» أقل مصيرية. ومن السهولة أن يكون غداً آخر، أي أن موعد الذهاب غداً – إذا ذكرت الاحتمالات – لا يكون ملزماً.

حين كنت أتحدثُ إلى سيد البيت، يصغي بإجهاد ويقول IF (إذا) PERHAPS (ربما) أو ?ARE YOU SURE (هل أنت متأكد؟) أو إذا ضاق مني قال: I DON’T KNOW(لا أدري). لماذا كان يكرر هذه الصيغ بلطفٍ جارح، يقطع عليّتسلسل أفكاري. ليتني أعرف. قلت له مرة: لي القابلية أن أحفظ بسهولة مائة كلمة إنكليزية كل يوم، ردّ عليّ باستغرابٍ مهذبٍ: كل يوم؟ بسهولة؟ طعنني وحقّ الكعبة. يكذّبني وجهاً لوجه. تغيرت سحنتي، وظهرت روحيتي العراقية المجبولة على المبارزة، قلت له: هل تشك في قابليتي؟ اعتذر أشدّ اعتذار. اعتذار طفل اقترف ذنباً لم يكن يقصده. قال لي «وَقْعُ الجملةِ» وسكت.

ذهبتُ إلى غرفتي وفي قلبي إحنة. كتبتُ الجملة على ورقة ووضعتها أمامي؟ ما الذي أفزعه في الجملة؟ قلتُ لأشرّح الكلمات ببرودٍ وحيادٍ، فإني أريد أن أتعلم. (كنت في السابق أشكّ في قابلية المعترض على الاستيعاب، ربما تطورتُ قليلاً فهانذا أذعن لامتحان جملتي). أعدتها مرتين وثلاثاً. كان محقاً، فلو قالها لي شخص آخر لشعرتُ بقرفٍ أكبر مما شعر به سید البيت. أولاً ومن حيث المعنى الإجمالي، هي جملة مزهوة بنفسها، متغطرسة ومغرورة، ثم هي غير دقيقة الصدق. ثم هي إهانة لقابلية السامع بصورة غير مباشرة. الواقع إنني لم أكن «أحفظ» مائة كلمة في اليوم، ولكن كنت أمرّ على مائة كلمة، وأحاول أن احفظ بآستماتة مائة كلمة في اليوم، لم يكن تعبيري دقيقاً ولا واقعياً. ثم ما هذه الكلمة «بسهولة»؟ أليست تعييراً بقابلية سيد البيت؟ صحيح أنني لم أكن أقصد ذلك، ولكن كان عليّ أن احترز.

الجملة تلك، بالإضافة إلى معناها الإجمالي، لا تصلح أن تكون تركيبة قانونية أو منطقية؛ لأنها جاءت يقينية جافة، أيْ إنها لم تأخذ بنظر الاعتبار، الاحتمالات غير المتوقعة، التي ذُكِر بعض منها سابقاً. ولا حاجة للقول إن إنهاء الجملة بـ «كل يوم» كانت بمثابة «دعك الملح في الجرح» كما يقول المثل الإنكليزي. كان من الأفضل لو قلت على سبيل المثال: «لبعض المحظوظين قابلية على حفظ مائة كلمة كل يوم. جهدت نفسي أن أكون مثلهم، ولكن لا يبقى منها في ذاكرتي مهما حاولت إلا كلمة أو كلمتان أو بضع كلمات». جملة كهذه، متواضعة، قانونية منطقية، لا تستفز السامع، ولا تعيّره. قد أكون بعد تشريحي للجملة، قد عثرت على علة رئيسة في عدم قدرتي على التواصل مع الآخرين، ولكن ما العلاج؟ 

يا ربّ عونك، لقد اُرتج علي. قررت من دون سابق إنذار وقبل الكدّ في إيجاد العلاج أن استأصل، وكأنْ بالكي بعض العادات المرضية البشعة: كالاعتداد بالنفس والحديث عنها، والشكوى، ومنابزة الآخرين بمطامحي.

هنا قوم، لا يفرقون بين الاعتداد بالنفس والعجرفة. وتواطنوا على أن الحديث عن النفس، شيء شخصي لا يحسن التحدث به للآخرين. الشكوى – إن لم تكن عامة، فهي مرض، والطموح استعلاء وانحراف. الإقلاع عن هذه العادات المشينة صعب، كصعوبة استبدال المشي على اليديْن بدل القدمين، نشأت عليها، منذ وعتْ أذني صوت والدتي.

الأمّ العراقية ترضع طفلها الغرور مع الحليب: أجملُ طفلٍ، أفضلُ طفلٍ في المدرسة، درجاته أعلى الدرجات بين أقرانه، المعلمون يستغربون من ذكائه، جاء بالمرتبة الأولى. بجمل كهذه تنمّي الأم في طفلها روحاً ديكية، قوية في المظهر، هشة في الداخل، والديك مهما كان تطوّسه، أجبن مَنْ عليها. 

المجتمع العراقي كذلك، يفضل الشهادة النظرية على الخبرة، والبنات الشابات يفضلْنَ المتخرج على الحِرَفي، لأن رزقه منتظم ومضمون. المدرسة تحشو رؤوس الطلاب بما تفرضه من أشعار حماسية بطولية، بقيم يقاس فيها الإنسان بحجمه الفيزيائي، الضخامة مثال أعلى، العضلة آلة تدمير وهيمنة، الشاربان الكثان رجولة، وشعر الصدر فحولة، تنعكس مثل هذه القيم الصحراوية العضلية، في طريقة تعبيرنا منذ الطفولة، ولأنها تنمو شيئا فشيئا؛ لا نشعر ببشاعتها، بل نتلذذ بها، ونتفنن في سبکها بأسلوب فخم شعراً ونثراً. معظم شعرنا، معظم نثرنا يجب أن يدخل إلى مستشفى الأمراض النفسية.

شربتُ الاعتداد بالنفس والطموح، منذ البداية، وها أنا اليوم أحاول شيئاً مستحيلاً. أريد أن أعزل حليب الأم الأول عن تلك الأمراض الخطرة المعدية. بات تعلم اللغة أمراً مستحيلاً. اللغة – أية لغة – رضاعة ولثغة من البداية وإلّا فلا. كيف أستطيع أن أتخلص من بيئة جبلتني ستة وعشرين عاماً. حقاً، لقد افترضت أنني ولدتُ من جديدٍ، حين نجوتُ، وكنتُسعيداً أن أموت بعيداً، ولكنه افتراض خاطئ، لم أحسن التعبير عن الحالة الشاذة التي كنتُ أمر بها. الحالات الشاذة توّلد استنتاجاً لا منطقياً. لم أكن منطقياً، وكان افتراضي خاطئاً.

مقالات قد تعجبك
اترك تعليق

لن يتم نشر أو تقاسم بريدك الإلكتروني.