غصنٌ مُطعَّمٌ في شجرةٍ غريبةٍ || صلاح نيازي (4)

سيرة ذاتية | الفصل الرابع

درجتُ على اللغة العربية، ونهلتها قطرة قطرة. يجب أن تُحترم لكبر سنها وتجاربها. ولأن شبابها متجدد وغض؛ كانت وعاء هائلاً لمختلف الحضارات، كانت نهراً، صُبّتْ فيه روافد عقول شامخة من شتى الأقوام، وجعلها القرآن إكسيراً مقدساً.

قرأتُ الشعر العربي، واستطعمته موسيقى ومعاني. أحسّه في النبض، حتى صرت حلبة عجيبة لمختلف عصوره، ومختلف بقاعه، وتجارب شعرائه. كنت حلبة لنوقه وأطلاله، وخموره وجواريه، لحدائه وموشحاته، وعطور حدائقه، وأنفاس عاشقيه.

ذهبتُ هذا اليوم وحيدا إلى حدائق «كيو» الشهيرة. تُربّى هنا النباتات من شتى أنحاء العالم. الحدائق متعة للناظرين حقاً، هندسة دقيقة، وأحراش مؤطرة بسواق صغيرة صافية. الأوراد طوائف، طوائف بحسب اللون. عالم النبات مسحور، وهو أقدس معبد، يتصفى فيه الإنسان، من هلع الشوارع والمخازن والمواصلات، ويتحلل من السرعة والزمن. توقفت طويلاً، أمام بحيرة صغيرة. أجنحة الزنبق مفروشة على الماء بسلام، وهذا أقصى طموحها. بتواضعٍ. مكان واحد. قوت واحد، مع ذلك فهي سعيدة في حياتها بدلیل نموها الداكن اليافع. 

رأيتُ مبني زجاجياً كبيراً. حين دخلتُهُ تصببتُ عرقاً. درجات الحرارة استوائية. كل النباتات هنا استوائية. في الوسط فوجئت بنخلة عالية. حزنت من أعماقي. جذعها ملتوٍ (لم أرَ نخلةً عراقيةً إلا وجذعها منتصب). كانت تعيش بالرغم عنها بحرارة اصطناعية. تنمو بالرغم عنها، وهي الآن يكاد يصل رأسها إلى سقف المبنى الزجاجي؟ هل أنا كذلك؟ أنمو مشوهاً.

بارَ ما كنتُ أحفظُ من شعرٍ، وهو أغلى ما أملك من ثروة. أين أعثر على سوق عكاظ، وقد اكتظتْ منطقة بيكاديللي بالغرباء والمطاعم والملاهي والحانات والسينمات والمسارح واللواط والزنى؟ هذه كعبة الحائرين. ندور فيها، وندور محبطين هامشيين، لا على التعيين. من مطعم إلى مطعم تتغير الرائحة، ومن حانة إلى حانة تتغير الرائحة، ولكل امرأة تمر رائحة وزينة وأصباغ. لم أقرأ شعراً عربياً منذ أشهر. قلّبتُ البارحة ديوان حماسة أبي تمام. شعرت بمرارةٍ شعرتُ بغربةٍ، لا السيف ينجي، ولا الدرع يحمي ولا حتى يدفّئ.

ما أصعب أن يعيش الإنسان بين بين. الأصعب من ذلك أن يعيش في فراغ. العودة من باب المستحيل نفسياً، ولا سيما والأوضاع بالعراق تزداد شراسة وتوحشاً. البناء عسير بلا جذور، هل أعيش فضلة؟ وزوجتي وطفلتي؟

 ذكرتُ حماسة أبي تمام عن قصدٍ. أنقذني هذا الكتاب الأصفر مرة. كان الليل يطبق على محطة القطار ببغداد، وكأنْ لا فجر لها بعد ذلك. العسس، الحراس، المخبرون يختلطون مع المسافرين والمودعين. يتصنتون إلى الكلمات النازفة، ويحصون قطرات الدموع، وأعينهم على الحقائب.

كانت حقيبتي الجلدية المهرأة، مشحونة ومكتظة. هي كل ما أملك إذن. صعد عريف عسكري، مع اثنين من الحرس القومي. أصرّ العريف على تفتيش حقيبتي من بين مئات الحقائب. رجوته. لم ينفع. ليس في الحقيبة شيء ممنوع، مجرد ملابس، أدوات حلاقة، برتقال، نومي بصرة، زوج أحذية، منشفة، وكتاب حماسة أبي تمام. لم أستطع شدها إلا بعد أن صعدتُ وضغطتُ عليها بكلتا قدمي. ترددت في فتحها لهذا السبب، مما زاد في أصرار العريف. عليه توكلت. وقعت عينه على حماسة أبي تمام. ورقها أصفر حائل. قلّب بعض أوراقها. رجع إلى عناوين الصفحة الأولى. قرأ لثوانٍ، ثم قبّل الكتاب وقال «تری أنا نجس». تسمّرتُ، خفت أن يكون ما قاله مصيدة لي، خفت أن يقول له الحارسان القوميان الشابان: إن هذا الكتاب ليس قرآناً، نزلوا بزهو العارفين ولكن كيف أغلق الحقيبة الآن؟ 

كان البرد جارحاً هذا المساء، لا أدري من أين يتسلل إلى الغرفة. الشبابيك موصدة بإحكام. أنا وغرفتي فقط، ما من حركة في الشارع. الثلج يسقط بجنون. اشتهيتُ دفئاً وشاياً. تعبتُ من تكوير نفسي، ووضع ركبتي على بطني في أثناء النوم، تمنيت أن أنام بكامل طولي. وحدتي لا تحتمل هذه الليلة. لم آكل طيلة هذا اليوم. وما من أمل للأكل غداً. تمنيتُ أن أنام بأية صورة وأنسى كل شيء. ولكن النوم، لا يأتي متى شئت. النوم والموت سيدان يقرران ساعتهما ولا سلطان عليهما.

لم أفتح حماسة أبي تمام إلا هذه الليلة، حوافي الأوراق تتساقط كالنخالة حتى مع أرقّ تقليب. قرأتُ لا علي التعيين: “قال ودّاك بن ثميل المازني” :

رويداً بني شيبان بعض وعيدكم     تُلاقوا غداً خيلي على سفوانِ 

تلاقوا جياداً لا تحيد عن الوغى     إذا ماغدت في المأزق المتداني 

عليها الكماة الغرّ من آل مازنٍ       أُلاة طعانٍ عندكل طعانِ 

مقاديم وصّالون في الروع خطوهم     بكل رقيق الشفرتين يمانِ 

إذا استنجدوا لم يسألوا مَنْ دعاهم      لأية حرب أم بأيِّ مكانِ

 

قرأتُ الأبيات عدّة مرات وبصوتٍ إيقاعي. حاولتُ في البداية أن أجد أية علاقة لي مهما كانت ببني شيبان وآل مازنٍ. هل أنا حقاً من أولئك الذين يهبون لأيّة حربٍ، وبأيّ مكان؟ قلت بنفسي لماذا لم يفتحوا الترع على نهر سفوان، فيزيدوا الأرض خصباً وغناء وجمالاً، والأطفال عافية؟ لماذا لم يصور الشاعر «ودّاك»، شروقاً نقياً رحيماً أو غروباً أحمر ناعماً، فيجعل الحياة كبيرة كالجبل وملمومة كالرحم. لقد خذلتني يا ودّاك بن ثميل المازني وحق الكعبة، ما الذي أفعله بشعرك في هذا البلد الغريب؟ قلت لا قرأ طالعي في الحماسة إذن؟ عادتي أن أفتح أية صفحة من أي كتاب وأقرأ السطر السادس، ليكون لي دليلاً على ما سيقع لي في المستقبل. فتحت إحدى الصفحات لا على التعيين، وهذا هو السطر السادس: “بين قروری ومرورياتها”.

والقروری: اسم موضع، والمروريات صحارى على طريق مكة من ناحية الكوفة.كيف أقرأ بختي بين القروری والمروريات؟ رمال على مد البصر بين الكوفة ومكة، ما من ماء جارٍ سوی سرابٍ خادعٍ متشفٍ. ما من شجر وطير. ما من منازل وأطفال وصبايا، وشبابيك فضولية، وغزل يتساقط نظرات ناضجة.الرمال أقوى من الزمن، يمسح كل أثر، وكأن شيئاً لم يكن. ترحال بترحالٍ بترحالّ، وفرسان يطلعون من بعيد، يمارسون القتل والسبي والنهب والسلب، ويكتبون شعر الفخر والحماسة، لا يحسّون بيتم طفلٍ، أو ترمل أرملةٍ أو إجهاض شابة من الخوف. الرمال أقسى حتى من الحيوانات المتوحشة والزواحف السامة؛ لأنها بلا ضميرٍ؛ ولأنها تبطشُ فلا ترتوي ولا تشبع. كنت أحفظ هذه القصيدة عن ظهر قلب في يوم ما، كانت كلماتها الصعبة كأماكن جغرافية أزورها لأوّل مرة :

حبسنَ في قرحٍ وفي داراتها    سبعَ ليالٍ غير معلوفاتها

أعجبتُ أولاً بهذه القوافي المؤنثة، والجموع الأكثر أنوثة. حزنتُ من تعبير «حُبسنَ»، تصورتهن فتيات يمنع عليهن الشارع، وجاءت سبع ليال لتزيد من قهر الحبس، وما أن وصلت إلى «معلوفاتها»، حتى انقلبت تلك الفتيات إلى بهائم أو هكذا يعاملن. ولكن الشاعر كان يصف بدقة، الإبل الصابرات على السير، والنوق السريعات، والنوق التي ترفع رأسهافي أثناء السير. يشبه الشاعر أعناق النوق مثل «قسي نبع ردّ من سياتها»، والنبع شجر يتخذ منه القسي و«سيّة الفرس: انعكافها». على أية حال كانت نوق هذا الشاعر تسير «بين قروری ومرورياتها»، ولابدّ أنه طريقٌ خطرٌ، حيث لا تجد النوق ما تأكل منه سوی شجر الطلح المرّ، ولا ترعى سوى نبات الحمض :

كيف ترى مرّ طلاحياتها    والحمضيّات على علاتها

لكن ما علاقة كل هذا ببختي هذه الليلة؟ ما زالت في أوّلها، كيف أقضي الساعات الباقية؟ المدينة هامدة مستسلمة للثلج، لا صوت إلا أرجل قطار بعيدٍ بين الحين والآخر. قلت نهايتي قريبة ولم أحزن. كنت منذ أن خرجت من العراق، أرفض أية نهاية مرسومة لي،. أريد أن أقرر نهايتي بنفسي، وهذه هي الإرادة الوحيدة، التي لا أريد لأحد أن يسلبني إياها. لماذا إذن أنتظر النهاية في هذه الغرفة الخالية من الدفء؟

شددت جسمي بطبقات من الملابس كالمومياء وخرجت. شعرت بسعادة غامضة، كأني فلتُّ من إطباق مرعب. أحمل الثلج على قبعتي وكتفي. واجهات المخازن أصبحت حدائق أفزع إليها، كلما أصابني ملل. ألعاب الأطفال، وخاصة الدببة، والقطارات الكهربائية أتحدث إلى الدببة وأسافر مع القطارات بلا وداعٍ، وأعود بلا استقبال. مشيتُوحيداً، لا يعرفني أحد، ولا أعرف أحداً. عبرتُ الجسر كالمعتاد، لم أرَ أحداً غيري. كنتُ مكللاً بالثلج، وللريح صفير، عشقتُ تشلسي في الجانب الآخر من النهر من حيث أسكن. منطقة شابة كلوحات حية مجسمة، وهي مثل بعض الأزهار لا تتفتح إلا في الليل. المقاهي مكتظة بالشباب الموسر الضائع يتحدثون عن المسرح والموسيقى، بلغة مشبعة بالترف. البنات طيور بريش مختلف الشيات والألوان. يتحدثن باستبشار وإقبال ويثرثرن بوجوه ناعمة مبتسمة. خليط مزيج تتقارب فيه الذكورة من الأنوثة وبالعكس. كنت أدخل في المقهى متظاهراً بالتفتيش عن صديق. أنظرُ إلى الساعة عدّة مرات، وكأن الوقت قد حان. في هذه الأثناء، كنت بهذه الحجة أتطلع إلى الوجوه، وأتمعنُ في تعابيرها، أذهبُ إلى الباب وأعودُثانية، متمتعاً بالدفء الذي يسري في جسدي فأعود إلى الحياة. ثم أذهبُ إلى مقهى أخرى، وأمارس اللعبة نفسها. أتقنتُ دور المنتظر القلق، لدرجة كدتُ أصدق معها، أنني فعلاً أنتظر صديقاً، ولم يأتِ. تمنيتُ لو كنت أمتلك ثمن شاي واحد، لدفأت بطني الخاوية، ولجلستُ مع شلة ما. لقد وقعتُ بحبِّ اللغة الإنكليزية، أو في الأصح في الطريقة المهذبة التي تُلقى بها. اللغة في تشلسي تعزف. الحناجرُ آلاتٌموسيقية تختلط، وتتفرد بانسجام.

استوقفتني واجهة مخزن. ثياب نسائية تكاد تحلّق من الانتشاء. تطير بالمرأة بشتى الأحلام. قستها على زوجتي، وحين ألبستها إياها ثملنا معاً. لم انتبه إليه للوهلة الأولى، قالها مرّة ثانية: من فضلك. كان الشرطي قريباً ويتحدثُ بهمس. ما اسمك؟ ما عملك؟ أين تسكن؟ أريد أن أفتش حقيبتك. قلت: ليس في حقيبتي شيء سوى بعض الكتب والأوراق، والكلمات الإنكليزية الصعبة التي حاولتُ أن أتعلمها هذا اليوم. أين تدرس؟ كم سنة مضت عليك في هذا البلد؟ قلتُ: لم يفتش أحد من قبل حقيبتي، لماذا تصرّ على تفتيشها؟ قال: لأن الوقت الآن هو منتصف الليل، وفي هذه الحالة يجيز لنا القانون تفتيش الحقائب. 

نظرتُ إلى ساعتي بهدوء أعصابٍ، وقلتُ: لم يحنْ الوقت، إنها الثانية عشرة إلا خمس دقائق. قال: متأسف واختفى. 

رجعت إلى الثياب النسائية التي تكاد تحلق من الانتشاء. لم أسترجع صورة زوجتي هذه المرة، الأحلام لا تسترجع إذا ما أُوقظ النائم. تسكعتُ مرة أخرى. دخلت حانة عتيقة، كأنها مصنوعة من جذوع أشجار. نحاسيات تضيء في زوايا مختارة. قنانٍ فارغة معلقة على الرفوف. رؤوس وعول. ربّما أُريد لهذه الحانة أن تكون مجموعة كهوف. تفرستُبالوجوه، نظرت إلى ساعتي عدّة مرات، وتظاهرتُ بالتفتيش عن صديق. 

خرجتُ إلى الثلج مستاء، وقبل أن أدخل إلى ديسكو صاخب سمعتُ صوتاً قريباً الآن، من فضلك. الشرطي نفسه، قال: الساعة الآن الثانية عشرة والنصف ولي الحق باسم القانون أن أفتش حقيبتك. أمرنا إلى الله إذن، نظر بمحتوياتها وقال شكراً. وقبل أن يهم بالذهاب قال انقطعت المواصلات العمومية الآن، ويمكننا أن نوصلك باحدى سياراتنا مجاناً. شكرته طبعاً. إذن لستُ مهملاً مائة بالمائة. بعد أيام تحدثتُ إلى سيدة البيت وزوجها عن حادثة الشرطي والحقيبة، فأجابا على الفور: بعد الساعة الثانية عشرة ليلاً. غريب أمر هؤلاء الناس، اعتبرتهما أميْين بمعاييري الساذجة؛ لأنهما لا يعرفان إلا أقل القليل من الثقافة بوصفها أسماء كتاب وشعراء وموسيقيين ورسامين وعناوين کتب، إلا أنهما شديدا الدقة حينما يتعلق الأمر بالنظام والقانون. البيت كله قائم على النظام والقانون والاحترام، يتخاطبان بـ «من فضلك» و«شكراً»، وفي الخارج يطيعان القانون وإن تأففا منه. تصرفهما بأجمعه خاضع إلى النظام والقانون، ويتحاججان به. لم أسمع منهما مرة ما نردده دائماً: حلال أو حرام، حقّ أو باطل، أصبح القانون في هذا البلد ضميراًيحتكمون إليه. 

ذكرت أن اللغة – أية لغة – علاقات اجتماعية خاضعة للعرف والقانون، فلابدّ أنها معكوسة في التراكيب والتعابير اللغوية. أقنعتُ نفسي بهذا الافتراض،ورحتُ أتصيد القانون في أفواه الناس. صدق حدسي قليلاً، صدق حدسي كثيراً، ثم آمنتُ بما افترضت إيماناً كاملاً.

رحت هذه المرة أفتش في اللغة عن سياقها القانوني، سواء أكنت أقرأ كتاباً للأطفال أم نبأً، أم جزءاً من افتتاحية؟ كتبتُ في بداية حياتي الشعرية قصيدة على بحر الهزج. لم يبقَ في ذاكرتي منها سوى هذا البيت، وليته لم يبقَ: “تعالي ننهب اللذات من غفْلات دنيانا” الصبيان أنصع انعكاس للبيئة وللتراث. هل صنعا من عجينتي البريئة مخلوقاً كاذباً ولصاً أيضاً؛ لم أكن في تلك السن قد عرفت الحبّ بعد، ولا أعرف ما هي اللذات التي ذكرتها، ومن أين جاءتني «ننهب»؟ من التراث أم من البيئة؟ ولاسيما إذا اقترنت بـ«غفلات»؟ أهذه صورة حبّ طبيعي، أم أنّها عملية سطو؟ ولكن سطو على مَنْ؟ على دنيانا؟ لماذا عاملتها معاملة عدو لا يرحم؟ ثم لماذا قلت «تعالي» باستعلاء؟ لماذا لم أقل دعينا، أو هيّا؟ في البيت أعلاه الذي يتكون من ثلاثة أفعال وثلاثة أسماء. خمس مخالفات قانونية مرّة واحدة، والإثم الأكبر أنها كلها كذب بكذب.

قادني تصيد العبارات القانونية إلى شيء لم أكن أحلم به. لقد تعودتُ منذ أسابيع على الذهاب إلى المكتبة، لتقليب الصحف والتمتع بالدفء. لا أدري من أين نزل علي وحي غريب. قلتُ اعتباراً من اليوم، أنقل افتتاحية ما، وأذهب إلى البيت وأترجمها إلى اللغة العربية، بعد أن أحفظ الكلمات الصعبة والمصطلحات الجديدة. كان يوماً عسيراً يقطع النفس. لم أترجم في ذلك اليوم إلا أقل من عشرة أسطر. كان قراري في الأصل ذا حدّين: أولاً ترجمة الافتتاحية إلى العربية، وثانية إعادة ما ترجمته إلى اللغة الانكليزية ثانية. قلت بهذه الطريقة سأتعرف على عيوبي بصورة أوضح. داومتُ على هذه التمارين الشاقة لمدة حوالي ستة أشهر، أيقنتُ تماماًأننا أمّتان مختلفتان، نحن شرق وهم غرب ولا يمكن لهما أن يلتقيا. 

رحتُ اكتشف عيوبي أكثر فأكثر، كل يوم، وخاصة حينما أعيد صياغة ما ترجمته من اللغة العربية، إلى اللغة الإنكليزية. الكلمات بين يدي، المصطلحات بين يدي تقريباً، مع ذلك لا أتمكن من صياغة الجملة كما في الأصل. قلتُ: لابدّ أن طريقة عرض الفكرة هو الفارق الوحيد.

لا يدخل كاتب الافتتاحية إلى الموضوع بأي يقين من أي نوع. يتدرج بالأفكار من دون حماسة، وحين يصل إلى الاستنتاج، يكون القارئ قد وصل إلى ذلك الاستنتاج قبله. مع ذلك لا يكون حاسماً أو قاطعاً؛ لأنه مغلف بخطوط الرجعة والحياد البارد. قد يكون أحد أسباب هذه الطريقة، أن كاتب الافتتاحية يعتقد بيقينٍ أن قارئه ذكي وفطن ومطلع وقد يكون خبيراً. لذا فهو حينما يخاطبه، إنما يطارحه الرأي، كندٍّ، وهنا تبرز عقلانية الجملة وقانونيتها، وهي أشبه ما تكون بواجهات المخازن، تعرض فيها السلع بدقة، وتوزع هنا وهناك، كما تتوزع الظلال والألوان في لوحة. يجب أن تكون منسجمة فيما بينها. حتى فوضى السلع متعمد لإيهام الحواس. لذا يلجأ أصحاب المخازن إلى خبراء في ترتيب المعروضات، ويدفعون لهم مبالغ مجزية. كاتب الافتتاحية، واجهة مخزن، خبير بالعرض والإقناع.

الافتتاحية في جريدة الغارديان مثلاً «كورس» معلومات، كاتبها خبير بموضوعه أولاً، ولابدّ أنه خبير بالاقتصاد والسياسة وشتى الفنون والتاريخ، وهي تظهر بكلمة هنا، ومصطلح هناك. قد تكون خافية ولكنها تقرأ فيما بين السطور. الأهم من ذلك أن معالجة ظاهرة سلبية في المجتمع، لا تفقد كاتب الافتتاحية صوابه فيتشنج، أو يعتقد أن تلك الظاهرة علامة من علامات قيام الساعة. اكتسب كاتب الافتتاحية الصبر والجَلد من مجتمعه: من المختبر والمصنع والزراعة المصنعة. فعرف أن لكل مشكلة حلولاً، وكل حلٍّ يحتاج إلى معالجة دائمة وطويلة. 

ها قد مرت عليّ ستة أسابيع، لم أدفع فيها إيجار الغرفة. أُغلقتِ الأبواب بوجهي. منذ السبت الماضي وأنا أتهربُ من سید البيت. استيقظ صباحاً، قبل أن يتمغط سيد البيت وسيدته وقبل أن يتثاءبا، أخرج باقدام قطة. أفتح الباب قليلاً قليلاً، وأغلقه قليلاًقليلاً، وانسلُّ، ولا أرجع إلا بعد أن أتأكد من نوم سيديْ البيت وانطفاء كل الأضوية. أفتح الباب قليلاًقليلاً، وأغلقه قليلاً قليلاً، ثم أطمر نفسي في الفراش المتثلج. ماذا لو طالباني بدفع الإيجار، أو ترك الغرفة؟ لقد تراكم عليّ الإيجار الآن لمدة ستة أسابيع، وترْك الغرفة، آ، يجب ألا أفكر بذلك. أين أذهب بشنطتي المقطوعة المقبض؟ يجب أن أحملها على ظهري كحمّال شرقي في هذه الحالة. سأكون أضحوكة. إيجار غرفة جديدة يعني أيضاً دفع إيجار أسبوعين مقدماً. هل أترك كل شيء وأهيم على وجهي، أتسكع طيلة الليل في «سوهو»، وأنام على المصاطب نهاراًمتظاهراً بالتعب؟ ليت المسألة بهذه البساطة.

كان عليّ أن أخرج صباحاً تحت كل الظروف، ولو نقعت بالمطر الشديد البرودة. قدماي قطعتا ثلج وأذناي يابستان ببرودة معدنٍ. ما الذي جنيته يا ربّ،ولكنْ لِمَ كلّ هذا التشبث بالحياة؟ هل كنتُ أخدع نفسي، حينما تمنيتُ أن أموت بعيداً، في خارج بلدي؟ ما الذي حبب لي الحياة العقيمة؟ نقمتُ على ضعفي، ولكن من أين المهرب، والمأزق هذه المرة حقيقي والمصيدة على وشك الإطباق؟ حين رجعتُ البارحة في الثانية صباحاً، فتحتُ الباب كالمعتاد قليلاً قليلاً، واغلقته قليلاً قليلاً. دخلتْ في البيت كمية من الهواء الرطب البارد توقظ حتى الموتى، ولكن أحداً لم يستيقظ. لم أفتح ضياء غرفتي، ونمتُ بكامل ملابسي بإجهادٍ شدیدٍ. استيقظتُ، قبل أن يتمغط سيد البيت وسيدته وقبل أن يتثاءبا، قلتُ ولكن إلى متى؟ وقعت عينيّ على ظرف أبيض بلا طابعٍ كتب في وسطه «مستر صلاح نيازي»، تهالكتُ على الفراش، قلتُ ما من مفرّ. قرأتُ الأسطر الثلاثة المرتعشة بوجلٍ. يريد سيد البيت وسيدته أن يزوراني عصر هذا اليوم في الساعة الرابعة، إذا كان لديّ الوقت لرؤيتهما.

شعرتُ براحةٍ عجيبةٍ، المسألة ستحسم إذن وليكن ما يكون. لا حاجة لي للخروج هذا اليوم. كفى تشرداً. عدتُ للنوم ثانية بكامل ملابسي، لم آكل شيئاً طيلة البارحة. الجوع ينفخ عظام الرأس. يصبح معه النوم صحواً متورماً. اختلطت مشاهد حياتي مرة واحدة، ولم يعد لأيّ شيءٍ جدوى، تذكرتُ قصيدتي «کابوس»:

الأرضُ لا تدور أو تدورْ / الشرق غرب والشمال في الجنوب… 

ورددت عدّة مرّات: 

يا بؤس إنسان يموت لا يقدر أن يموتْ / أو أن يحسّ اللذة السوداء في الوفاة”

عظم في عيني السهروردي الذي اختار موته جوعاً. ما أصلب إرادته؟ مات بكامل وعيه، أحس اللذة السوداء في الوفاة، فليكن ما يكون، قلت، وأنا ارتعش من البرد في الفراش بكامل ملابسي. منذ الساعة الثالثة عصراً، وأنا أذرعُ الغرفة جيئةً وذهاباً، انشلّ دماغي من التفكير، وقبل الرابعة بدقائق أصيبت أحشائي بالمغص والهلع. 

فتحتُ الباب، دخلت أولاً سيدة البيت يتبعها سيد البيت، هل تسمح لنا بالجلوس؟ نسيتُ حتى أصول الضيافة. قلتُ عفواً. كانت حواسي مستوفزة وكلماتي مبعثرة. توقعتُ في كل لحظة أن يطالباني بالإيجار لمدة أسابيع، أو الأسوأ من ذلك أن يطلبا مني إخلاء الغرفة. لم يذكرا شيئاً أوّل الأمر، قلتُإنهما يتحيّنان الفرصة. تبادلا النظرات بينهما، فشعرتُ بأنني أصغر وانكمش. قالت سيدة البيت غرفتك باردة. هل جهاز التدفئة على ما يرام؟ لم أجب، قالت هل تركت التدخين؟ لم أجب. قالت لم تقدم لنا شاياً – كما هي عادتك -؟  لم أجب، أردتُأن يدخلا في صلب الموضوع فَلِمَ اللّف والدوران؟ تبادلا نظرة طويلة ذات مغزى أوضح، ونهضا معاً، وودعاني باقتضاب.

دخلتُ في الفراش ثانية، ووجدت نفسي ريشة في مهب الريح، حقيقة لا مجازاً. أدخلتني زيارتهما القصيرة في حيرة مستغلقة، وقلق غامض. بقيت المسألة معلقة وأصبحت أكثر تعقيداً. ما الذي ينويان عمله؟ شعرتُ بحاجةٍ إلى من يفكر بالنيابة عني، إلى من يقودني إلى ملجأ أو مستشفى. كنت بحاجة إلى حنان، كنت طيلة حياتي بحاجة إلى حنان. وفي هذه اللحظات أصبحتُ بأشدّ الحاجة إليه. دخل الليل، ولم أفتح الضياء، دُقّ الباب دقاً خفيفاً. اضطربتُ تماماً. لماذا عادا إليّ؟ هل قررا حسم الموضوع بالنيابة عني؟ 

فتحتُ الباب، وإذا بسيد البيت، يقدم لي صينية، قال أرجوك أن تتقبلها هدية. تناولتها ونسيتُ أن أشكره. فتحت الضياء، كانت فيها أربعة ساندويتشات: بيض، ولحم، وطماطم، وخيار مع ورق خس، وعلى يمين الصينية صُفّتْ کارتونة سكائر «روثمانز» وإلى اليسار عشرون جنيهاً، بينها جنيه بالشلنات لإلقام جهاز التدفئة. نظرتُ إلى الصينية عدّة مرّات، وفي كلّ مرّة أشعر باشمئزازٍ أكثر، كنت بحاجة إلى حنانٍ فهل أصبحتُمخلوقاً أثير الشفقة؟ الشفقة قاسية. هل كانا يعرفان أن كل ما ادعيتُ به باطل؟ وأن طموحي فارغ، وأن ما سأجترحه من معجزاتٍ ضراط معزی؟ ما الذي جنيته يا عراق لتجعلني هنا أثير الشفقة؟ هل كان سيد البيت وسيدته يراقبانني، رغم ما يتظاهران به من عدم التدخل في شؤون الآخرين؟ الإنكليز عموماً فضوليون تماماً، ولكنهم مهرة في إخفاء فضولهم. ربما ما أثار شفقتهم هو مثابرتي على التعلم. إنهم لا يحبون الإنسان الفاشل لكنهم يتعاطفون مع الإنسان الخائب المجد.

مع ذلك كانت تلك الصينية نقطة تحول جديدة، ظهر لي من خلالها أن برود سيد البيت وسيدة البيت، لم يكن بروداً قط. الأدهى، ما الذي اكتشفاه من عيوبي الأخرى؟ قمتُ على الفور بتنظيف المغسلة لدرجة اللمعان، رتبتُ الفراش على أفضل ما يكون. مسحتُالأخشاب، والتقطتُ حتى أصغر قشة من الأرض. صففتُ الكتب بانتظام ووضعت قصاصات الجرائد في دفتر. رتبتُ ملابسي في المشاجب بعناية، وجعلت الأحذية مصفوفة بنظام داخل الدولاب. جمعت الملابس الوسخة في كيس وركنته إلى جانب. أصبحت الغرفة أكثر انسجاماً ووداً. نظرت إلى الصينية مرّة أخرى، عدت إلى قدح فرشاة الأسنان ونظفته بعناية. تركت الغرفة، وما تزال الصينية على حالها ولم أمسسها. تركت الغرفة والصينية وهمت على وجهي جائعاً. 

كنتُ أسير في الشوارع مخذولاً، وصداعي لا يحتمل. خدعتني سذاجتي. شخصيتي مزدوجة. بيني وبين نفسي، أنا إنسان هشٌّ، وبيني وبين الناس، أنا الفارس المغوار هل من مبارز؟ كان على أمهاتنا – وهن أصل الداء – أن يزققنا التواضع مع الحليب. كان على حكوماتنا أن تفتح عيادات للمغرورين، وأن تفرض ضريبة على كل كلمة مغرورة يكتبها أديب. لماذا لا نجعل الغرور جنايةً فعلاً؟ لماذا لا نجعل التواضع ركناً من أركان الدين؟ لو سردت لي مائة سبب لتخلف الشخصية العراقية، أو لتدهور الأوضاع السياسية في العراق، لقلت الغرور على رأسها وأخطرها جميعاً.

هذه الليلة مختلفة. الصينية في الغرفة، ومعدتي خاوية ليومين. أسير مخذولاً في «بيكاديلي سيرکس»، مع ذلك كنتُ منتشياً، أفكر بسيد البيت وزوجته، وبكل الذين التقيتُ بهم في المكتبة أو في المقهى، وما من أحد يتحدثُ عن نفسه، أو عما سيقوم به في المستقبل، إلا أنا أنفخ أوداجي، وأفرغ الحلبة من أيّ منافسٍ. 

مرّة – وكان سيد البيت وزوجته في زيارة لأقاربهما باسكتلندا – رأيتُ رجلاً مسناً يخرج من البيت الذي أسكن فيه، لا ينمّ زيه ولا مشيته على أية لصوصية. مع ذلك شككتُ به. اندفعت وراءه، وبصوت يابسٍمتجهم سألته ما الذي كان يفعله في البيت رقم (26). قال وما الذي يهمك من الأمر؟ قلت بصوت يابس متجهم: إنني أسكن هناك، وأن سيد البيت وزوجته غائبان. قال: تشرفنا، اسمي مستر جون، لقد ذكر لي قبل أشهر سيد البيت أن الغرفة مؤجرة. ما اسمك قلت: مستر نیازي، قال تشرفنا ومضى.

حين عاد سيد البيت زوجته من اسكتلندا، بادرتهما فوراً بخبر الرجل الغريب الذي ذكر أن اسمه مستر جون. قال سيد البيت إن مستر جون يسكن منذ سنتين في الطابق التحتاني، وهو متقاعد لأسباب صحية. إنه رجل منقطع إلى نفسه، وله اختراعات مهمة في الكهرباء. ولاعتزاز الشركة به، فإنها تدفع له راتباً شهرياً، وتشتري منه اختراعاته الجديدة. يا لله، رجل بهذا المقام، لا يسوّق نفسه للناس ولا يبشّر بها. رجل منقطع كلية إلى الاختراع بصمت وبلا منّة. لماذا لا أنزع عن صدري نياشيني الكاذبة؟ لماذا لا أكون مثله، جذراً صامتاً وعميقاً؟

المسألة ليست بهذه البساطة. الأوروبيون منذ عصر النهضة اكتشفوا أهمية تفاصيل الأشياء، كيف أفسر ذلك؟ نحن نتحدث عن الغابة والبستان، وهم يفحصون كل نبتة على حدة، طولها، عرضها، خلاياها، أنساغها، لحاءها، استنباتها، تطويرها، أفضل بيئة لها. نحن نتحدث عن الصحراء، وهم يضعون قبصة من رملها تحت المجهر. يفحصون عناصرها وصفاتها. نحن نتحدث عن البحار، ونتلذذ بأشرعتنا الضائعة استدراراً للعطف، وهم يصنعون البوصلة، ويرسمون جغرافية البحر. يدرسون الرياح ويتنبأون بهبوبها. كان بعض العلماء في العصر العباسي أوّل من دشّن في تاريخ العرب التدقيق في التفاصيل. في تحليل الشعر والنثر، في ضبط معاني الكلمات، في تمحيص التراث، في دراسة الأمراض، الحيوانية والنباتية، وكانوا السباقين في دراسة الإنسان تشریحاً، وفي كتابة النوتة الموسيقية. لكنهم واجهوا عنتاً وصلفاً من قبل العلماء من ذوي العقليات الشفاهية، مع ذلك تطور النثر في العصر العباسي تطوراً عجيباً وفي شتى الفنون، إلا أن الاضطرابات بين المتنافسين على السلطة مهد لدخول المغول فقضوا في الواقع على الأخضر واليابس. وما الأخضر هذا إلا العقلية التدوينية، فرجعنا إلى الوراء قروناً. أنا ضحية العقلية الشفاهية السائدة بالعراق. 

كانت إشارات المرور تشتغل حتى عند عدم وجود السيارات. كبستُ على الزر وانتظرت إلى أن أصبحت إشارة المرور حمراء فعبرت الشارع بكرامة. بين غرفتي وبيني الآن حوالي ساعة مشياً على الأقدام. في الإشارة الثانية للمرور، رأيت سيارة تبطئ؛ لأن الإشارة صفراء وتوقفتُ عندما أصبحت حمراء. ما من سيارة أخرى في الجهة المتقاطعة مع الشارع. مع ذلك ظل السائق منتظراً إلى أن أصبحت الإشارة خضراء. هؤلاء قوم يطيعون القانون يذعنون له؛ لأنه يحميهم بالتساوي. لكن ألا تدلّ إشارات المرور، وأسماء الشوارع وأرقام البيوت وإشارات السيارات في الانتقال من ممر إلى ممر، أو الانعطاف إلى اليمين أو إلى اليسار، على العقلية التدوينية؟ تشتري قميصاً مهما كان رخيصاً، فتجد في ظهر رقبته رقعة نايلون وفيها تفاصيل كيفية غسله وكيفية تجفيفه. أهو من القطن الخالص أم هو مخلوط بالنايلون، ما نسبة الخلط. وفي أي بلد صُنع.

خطرت ببالي وأنا أغذ السير إلى غرفتي، فكرة كدت أضحك من غرابتها. خُيل لي أن المشرّع الإنكليزي يكره الإنسان. ليست له ثقة بإنسانيته أو نزاهته،ويرتعب من عدوانيته ووحشيته، فراح يقيده بقوانين ظاهرها عادل وباطنها صارم. عادل لأنها مطبقة على الجميع، وصارم لأنه لا يجوز فيها التسامح. ثمة براهين كثيرة في الأدب الإنكليزي – وخاصة في الرواية – توحي أن الإنسان شرير بطبعه. لذا لا يتركون الأطفال على سجاياهم ولا الكبار إلى نواياهم مهما بدت حسنة.

يبدو أن عقليتنا العربية على العكس من ذلك. نحن نؤمن أن الإنسان خیّر بطبعه. ترى شخصاً يعتدي على شخص آخر بالضرب والسباب، وتسمع من يقول: كان عصبياً، آ، لو تعرف قلبه؟ إن قلبه قلب طفل ممتلئ بالطيبة. متى كان الطفل بريئاً، ومتى كان طيباً؟ إنه أناني يستغل صلة الرحم ومحبة الوالدين إلى أبعد حدود الاستغلال. يقول تعبير إنكليزي متداول: «حتى تكون عادلاً فكن قاسياً».

 لم أكن جاداً في هذه الأفكار، ربما كنتُ أبعد بها عن ذهني قصة الصينية، ولكن لماذا لا اعترف أني مخلوق أثير الشفقة فعلاً. ها أنني بلا تاريخٍ وبلا غدٍ، معدتي خاوية، أسير في الشوارع مخذولاً، وعظامي تصطك من البرد. ملابسي منقوعة بالمطر، وقد وصلت الرطوبة إلى جسدي. لماذا أكابر الآن؟ اعترفتُ مع نفسي أنني مخلوق أثير الشفقة حقاً، وتحلُّ عليّ الصدقة والصينية. فتحتُ الباب قليلاً قليلاً، وأغلقته قليلاً قليلاً. تلمستُطريقي إلى باب غرفتي بهدوء تام.

يا لله لم أجد الصينية. ماذا حدث؟ رأيتُ مظروفاًأبيض على الطاولة باسمي. فتحته بيأس قاطع: «لم نكن نعني شيئاً سوى التعبير عن ودنا الأكيد لك». هل أحسا أنني أُهنت فأخذا الصينية وما فيها؟ كيف أقاوم الجوع والبرد هذه الليلة؟ عونك يا ربّ. في اليوم التالي استيقظتُ مبكراً. حين سمعتُ سيدة البيت تفتح الباب الخارجي كالمعتاد لجلب قنينتي الحليب، فتحتُ الباب. أُخذتْ على حين غرة، وراحتْ تعتذر بلا انقطاع عن فعلتهما البارحة. قلتُ، ولم أكن صادقاً، لقد غادرتُ الغرفة لموعدٍ مهم. نظرت إليّبعمقٍ وصدّقتْ ما قلتُ. ثُمّ خرجتْ من فمي جملة لم تكن بالحسبان. قلتُ لها، حتى نصلح الأمر وأثبتُحسن نيتي، فإنني أدعو نفسي للفطور معكما هذا الصباح. وبما يشبه الضحك قلتُ: لا أُحبّ لحم الخنزير، وأفضل لحم الضأن مع البيض والبطاطس. قالت بابتهاجٍ: إذن في الساعة الثامنة، بعد ساعة. أهلاً بك.

مضغتُ اللقمة الأولى كأني أجترها، ومصصتُ جرعة من الشاي. كادت معدتي تشهق إلى الأعلى لتناول الطعام. وددتُ لو أنهما تركاني لوحدي لأتمتع برحمة الطعام وكأني أتعبده. كانت أحاديثهما كالمعتاد، مجرد تعليقات سريعة ضاحكة على ما قرآه في الجريدة وعلى ما شاهداه في التلفزيون. لا يذهبان في أحاديثهما إلى ماضٍ سحيقٍ لاستنباط عظة منه، ولا يبعدان في مستقبل بعيدٍ لاستكناه أسراره. كانا يسميان السياسيين: «محتالين»، ومع ذلك يفوّضان أمورهما لهم. شعرتُ بسعادتهما، وقد سوي الأمر على هذه الصورة. كنت أطيل المضغ والإصغاء، ولكن من أين يأتيان بكل هذا الرضا وتلك الطمأنينة؟

كانت الحضارات منذ البداية معنية بالهيمنة على الغد. الغد مجهول فلا يصح ائتمانه. محاولة كلكامش في الخلود، التناسخ، المحنطات الفرعونية كلّها جهود تدل على قلق الإنسان من مصيره أولاً، وعلى الخلود بعد الموت، في الغد المجهول. سید البيت وسيدته، واقعيان عمليان قانعان. يؤمنان أشدّ الإيمان بالحظ ولكنهما لا يتكلان عليه. وهما في هذه الحالة يعكسان فلسفة الحضارة الإنكليزية، ولاسيما في الهيمنة على الغد.

كنتُ قد نشأت في العراق على معنى واحد للغد، هو إرضاء الله، ومعنى واحد للخلود هو الجنة، فأصبحت سعادتي مرهونة بغيب مجهول، لا يتحقق – إن تحقق، فبعد موتي. القوم هنا وإن آمنوا بالجنة والنار بصورة غامضة إلا أنهم واقعيون وعمليون. الغد الذي يعنيهم هو الغد القريب، الغد المعاش. ومن محاولاتهم للهيمنة على هذا الغد، نظام التقاعد مثلاً، حيث يزداد مرتب المتقاعد سنوياً بمقدار مستوى المعيشة، ونظام التأمين على الحياة، وعلى الصحة، وضد الحوادث التي تقعد الإنسان عن العمل، التأمين على السيارة والبيت وأثاثه. بالإضافة إلى النقابات التي تحمي منتسبيها من استغلال أصحاب العمل، وإلى ما تعطيه الحكومة من إعانات مالية للعاطلين عن العمل.

لماذا لا يكون إذن سيد البيت مطمئناً يتحدث بلا تشنج، ما دام مرتبه الشهري يزداد سنوياً، وما دامت سيدة البيت تحصل على مرتب تقاعدي بحكم سنها. وفوق هذا وذاك تذاكر سفرهما في القطار أو الباص مجاناً، والتطبيب والأدوية مجاناً، ولهما تخفيض في أسعار تذاكر السينما والمسرح.

كان فطوراً شهياً، ثملت من لذاذته، ومن حرارة المدفئة. تمددت عضلات جسمي وشربت كوبيْ شاي كبيرين وكأني أرضعهما. رأيت الصينية إياها مركونة قرب المغسلة. تناولت علبة السجائر، وشربت سجارتين مرة واحدة. قالت سيدة البيت خذ السجائر كلها. اقبلها هديةً رجاءً. قال سيد البيت: خذ العشرين جنيهاً رجاءً، وإذا شئت اعتبرها دیناً. قلتُ: وهو كذلك. إنني سأتسلم صكاً غداًصباحاً، وسأدفع الإيجار وأردّ العشرين جنيها، أنا متأكد من ذلك (مرة أخرى ألجأ إلى الكذب. لماذا قلتُ ذلك؟ لماذا قلت غداً؟ ولماذا قلتُ أنا متأكد؟)

قال سيد البيت لدينا ثلاثة راديوات. لماذا لا تستعير واحداً. سيساعدك في تعلم اللغة الإنكليزية. ثم علّمني عدد المحطات الإذاعية وأطوال موجاتها ونوعية برامج كل محطة. أصبح الراديو كتابي الجديد. كنت اشتري مجلة برامج الإذاعة والتلفزيون وأتابع البرامج الثقافية، وعلى الأخص القصص القصيرة. باتت عادتي أن أعلّم على البرامج الثقافية وأذهب إلى المكتبة، مستفسراً إن كانت لديهم هذه القصة أو تلك. حالفني الحظ في معظم الأحيان. أستعير الكتاب وأقرأ القصة بمساعدة القاموس عدّة مرّات، ثُمّ حين أسمعها في الراديو التحم بها بانتشاء، وكأني اكتشفت أشياء جديدة. الإلقاء الجيد نوع من النقد التطبيقي.

مقالات قد تعجبك
اترك تعليق

لن يتم نشر أو تقاسم بريدك الإلكتروني.