غصنٌ مُطعَّمٌ في شجرةٍ غريبةٍ || صلاح نيازي (10)
سيرة ذاتية | الفصل العاشر (الأخير)
حينما زرتُ بغداد، بعد غياب حوالي عشرين عاماً، شعرتُ وكأنه قد قام السومريون. انحنيت، أخذت حفنة تراب في المطار، شممتها وقبلتها.
وعند عودتي إلى لندن حملت حفنات من التراب ورششتها في أرجاء حديقة البيت. ما الذي دفعني إلى ذلك؟ ملأت رئتي عن آخرهما بهواء بغداد، فثملت كل حجيرة في جسدي، ثملت حقاً. كلّ حجيرة استعادت تاريخها بحيوية. هل كنت أتنفس هواء غريباً بلندن؟ هل كنت أشرب ماء غريباً بلندن؟ ما من مرة تصورت نهر التيمز ينبع من عروقي ويصب في عروقي، كما كان الفرات ودجلة. لم أرَ يوما أمواج التيمز نهوداً وصبايا، ولا الضفاف موّالات ريفية، تعكس رؤوس النخيل المعمّمة بالدين الأخضر. الشجر بلندن لا ينمو في صدري كشجر الخابور. أتعرّف على أشجار لندن، كما أتعرف على رفاق سفر في قطار. صداقات مؤقتة مهما كانت عزيزة.
أحببت في طفولتي فحولة الفرات، وحين انتقلتُ إلى بغداد، أحببت أنوثة دجلة. تصورت الفرات أباً كَادّاً يحمل الغرين والخصب ويحث على العمل والحيوية. ويغضب كما يغضب أب مُتعب يتصبب عرقاً. الغريب كنت أسبح في ماء الفرات مرتين وثلاثاً في اليوم الواحد في أثناء الصيف. لا أذكر أني سبحتُ في دجلة مرة واحدة. ولكن حينما أكتب، أول ما يخطر على بالي دجلة، وأعني به الفرات، وإذا ذكرتُ بغداد، أعني بها الناصرية.
كان الأصيل بمدينة الناصرية أكبر مشهدٍ للحنان. تتوهج الشمس بحمرة واسعة، ومن بين سعف النخيل تمدُّ أياديها بوداع أنيس، بوداع ناعم، ساحبة ستارتها الحمراء عن سماء لاغطة بالنجوم.
رجع الزمن دهوراً، وكأن شيئاً لم يكن. ها هي سومر تستيقظ أمام عيني، بكل أناسها وبيوتها ومعابدها، وأسواقها مزدحمة. افترقنا دهوراً، وها نحن نلتقي وكأن شيئاً لم يكن. أتعرّف على وجوه المارّة كما أتعرف على مخطوطات، والشوارع متاحف بشرية حية. قررت أن أقطع شارع الرشید من باب المعظم إلى الباب الشرقي. سأجلس في مقهى الزهاوي وحسن عجمي والبيروتي.
مررت بمقهى الزهاوي، واجتزت مقهى حسن عجمي ولم أتوقف. هرِم شارع الرشيد، وما في هرمه وقار. مجرّح بلا تضميد. فقد الحكمة التي كثيراً ما ترتبط بالشوارع العريقة. رائحته داكنة وأعمدته متثلمة. يدوسه المارة بلا اكتراث، وتشققه الجرافات بلا تضميد. نسيت أن ألتفت إلى مقهى البيوتي. ما حدث؟
المدن العظيمة تولد كل يوم. تتجدد كل يوم، فننظر إليها بشغف. المدن العظيمة تثير الفضول. المدن التعيسة تولد لمرّة واحدة، ثم تكرر نفسها مئات السنين. شوارع ممددة باسترخاء. كابية. لا تبلغ الشوارع سعادتها، إلا إذا باتت كالجسور على الأنهار، حيث السماء تتغير باستمرار، وحيث الأمواج تتغير باستمرار، وحيث البشر يمرون بأمزجة ويعودن بأمزجة. التغير ولادة جديدة للحواس.
والشوارع لا تسعد إلا بواجهات المخازن على جانبيها، ولا تسعد واجهات المخازن إلا بعروض سلعها الجديدة، ولا تسعد السلع إلا بما تثيره من فضول لدى المارة. وشارع الرشید کامد. رائحته داكنة. فقد حكمته وكرامته.
الصائغ الخبير يقيس الماسة بثقلها النوعي وحجمها، والشاعر يقيسها بأشعتها أولاً وببهجة صدور النساء. كذلك شارع الرشيد لا يقاس بكيلومتراته القليلة، وحجم مخازنه. حتى المطاعم الراقية لا تقاس بمأكولاتها فقط، ولكن بما تثيره من شهية وبهجة. شارع الرشيد ماسة أضاءت التاريخ. تفرعت كشجرة وفروعها في كل كتاب تاريخي، وفي كل مدرسة على الأرض. يكبر مع مرور الأيام في الكتب والمدارس. رأيته يشيخ بآلاف التجاعيد، ويكمد ورائحته داكنة. آلاف العيون بالاستطلاع نفسه الذي تركته قبل حوالي عشرين عاماً، وما من ابتسامه على الوجوه. نحن العراقيين لا نعرف كيف نبتسم ولو كنا أسعد الناس بالمال والبنين والمستقبل. نضحك ضحكاّهستيريّاً من قعر البطون ولكننا لا نبتسم.
دخلت مطعم «تاجران». كان فمي يتحلّب كلما ذكرته بلندن. ليته بقي حلماً. لذّة اللقمة مع الفقر لا تستعاد. عرق الوجوه يتصبب على الصحون. لم يعد لضوضائه معنى الترحيب اللاغط. الزبائن يأكلون بشهية ولكن بلا بهجة. غصصت بالضوضاء والمرايا الصدئة.
فاجأني في وسط الساحة تمثال الرصافي، بلغديه المنتفخين. لا أدري لماذا حزنت من أجله. أستدرت إلى سوق السراي حيث الكتب القديمة النادرة. في منتصف الطريق شعرتُ بذنبٍ. لماذا نسيت أن أصافح الرصافي؟ يا لتعسي! التفتُ إلى الرصافي. ملأني حزناً وعتاباً.
رجعتُ إليه وتأملته بإمعانٍ. كان حائراً. يقف وقفة من ضلّ الطريق. تدور حوله السيارات كدواليب الأعياد. أتدري يا سيدي معروف أنت «يتيم في العيد» كذلك:
على كُثر قرع الطبل تلقاه واجماً كأنْ لم يكنْ للطبل ثمّة مقرعُ
كأنّ هدير الطبل يقرع سمعه فلم يلف رجعاً للجواب فيرجعُ
يرد ابتسام الواقفين بحسرةٍ تكاد له أحشاؤه تتقطعُ
ويرسل من عينيه نظرة مجهشٍ وما هو بالباكي ولا العين تدمعُ
كنتُ مثلك في طفولتي. أنا ذلك اليتيم في العيد يا سيدي معروف. وها أنا أمامك بلحمي وعظمي وأنت بملابسك البرونزية. خبّرني عنك كيف حالك؟ أعطني عنوانك سأكتب لك حين أرجع إلى لندن. أتعبك الوقوف، وأنهكني الترحال والغربة. غريب عليّ أنت الآن. كنت أقرأ شعرك أمام الطلاب بتلوّع يتيم في العيد. لكن حتى شعرك أصبح غريباً عليّ الآن. عاطفتك أصدق من فنّك، وموضوعك أجلُّمن أسلوبك. ما الذي حدث؟ هل جعلتني الغربة شبحاً أجوس في الأطلال؟
كفلّاح صيني وازنتُ العصا والسلّتين على ظهري. سومر بكفة وبغداد بكفة وعدت إلى لندن. رششت التراب الذي حملته من العراق على طول حديقتي. لماذا فعلتُ ذلك؟ لا أدري.
إذا كان ثمّة معنى لتعبير «خالي الوفاض»، فإني عدتُ من بغداد خالي الوفاض تماماً مثلما غادرتها لأوّل مرّة قبل عشرين عاماً، مخذولاً ومكسوراً. رأيت نشور سومر أمام عيني. عاد البشر إلى الحياة بكامل أجسامهم. عادت البيوت بكامل غرفها. عادت المعابد بكامل تراتيلها، وعادت الحقول بكامل أزياء الغلة. هدلت الطيور. رأيت نشور سومر أمام عينيّ. على قارعة الطرقات أطفال يتسولون، وفتيات يعرضن نهودهن بثمن صبغ حذاء. سجون بحيطان عالية، ونوافذها بحجم رقبة ذليلة.
منذ مئات السنين، لم يتغير شيء في سومر. الوجوه المتأزمة نفسها، الأحاديث الشاتمة والعنجهيةنفسها، الغرور المزهو بذاته نفسه، وفي الإحباط هم قصيرو الرقاب، يلوذون كحيوانات منهورة، ووجوههم كامدة كخيم محترقة.
لغتنا واحدة، وكم كان التفاهم بيننا عسيراً. رحت أكرر تلك الجملة الرهيبة في سيناريو فلم «هورشيما حبيبتي»: «لم تري شيئاً، لم تري شيئاً». ما من أحدٍ رأى ما رأيتُ. غصصتُ باللغة، وللكلمات ألم عظام سمكة في اللهاة. هل كان فراقي موتاً مؤقتاً، فبُعثتُ شبحاً في أطلال سومر؟
رجعت إلى لندن شبحاً، ورأسي ممتلئ بالضباب. الضباب ملأ رأسي لأشهر أو لسنين. مازال رأسي ممتلئا بالضباب. كيف حدث ما حدث؟ لا يمكن أن تصدقه حتى سحلية.
نُفِخ في الصور وقامت سومر بلا أدنى خدش. اللبلاب على أسوار بيوتها ورائحة الجوري فاغمة. كما كانتْ عادتْ، كما كانت تماماً. القمر يسكب حليبه على كل النهر، كما كان تماماً. لا تدري أماءًتشرب أم حليباً ؟ وبين الحين والحين يمرق سرب سمك سعيد. كما كان تماماً؟
تصورتُ: ستبدأ سومر حياة جديدة. ما كنت أدري أن أمواتها الذين بعثوا سيواصلون عداواتهم السابقة، على الوتيرة نفسها قبل الموت.
تصوّرت أن تراب القبور الثقيل، وتراكم النمل لأكل العيون والأفواه، تصورت أن الوحشة في باطن الأرض، ستجعل سومر حكيمة متواضعة متحابة. وسومر، ستقطع صلتها بماضيها وتحرّم العداوات السابقة. سومر لم تتعظ. عسكريها متكبر ومستعد للإطاحة بالبلد. سياسيها بمصلحته الشخصيةنفسها، متديّنها يهيئ للكهنة الزنى المقدس. ديوثها يراقب نمو الفتيات بأبواب المدارس. مرابيها يعوّض ما فاته في سنوات الموت. المدينة تتمزق من جديد.
رجعت إلى لندن مندحراً مكسوراً ومخذولاً. رأسي ممتلئ بالضباب. أجوس الشوارع ورأسي ممتلئ بالضباب، وفي قلبي وجيف مرعب.
كيف بُعثت شبحاً؟ له كل الأشكال ولا شكل له. أخذ الحزن سمة الحذر ينتشر في كل أجزاء الجسد. بكاء صامت في كل أجزاء الجسد. عدت إلى القراءة بعد انقطاع أشهر، لا لغاية ما، مثل عانس تعتني بجسدها وما من أمل في الزواج. مجرد عادة. لكن فتَرْتُ عن ملاحقة الجديد لجدّته فقط. اعتقدتأن الجدة كأحواض السباحة الحديثة مهمة، ولكن الأصالة كالأنهار تاريخ عريق يجري بين المدن والحقول والبساتين. كالأنهار صور زيتية تتجدد بمشاهدها ولا تكرر نفسها. عدت للأنهار.
عدتُ لما قرأت في السابق، ابتداء من الشعر الجاهلي وأمرئ القيس، إلى أحمد شوقي. توقفت بارتجاف أمام دستويفسكي وشكسبير وجيمس جويس. كأنها جديدة كل الجدة. اكتشفت فيها ميادين كنت غافلاً عنها.
القراءة مراحل. في كل مرحلة يعطيك الكتاب –الكتاب نفسه – أشياء مختلفة. لابدّ أن تكون القراءة بطيئة سطراً سطراً، كالأكل تماماً. لقمة بعد لقمة. وأعظم طرق القراءة، ما تكون بمثابة ترجمة. القراءة العظيمة ترجمة عظيمة.
في هذه المرحلة بالذات، لم أعد أفتش في القراءة عن علاج، ولا حتى عن جمال. انشغلت هذه المرة بالتقنية. ما الذي يجعل نصاً ما عظيماً، ونصّاً آخر مرحلياًمهما علتْ جودته؟ لماذا تختلف التقنية من كاتب إلى كاتب؟ ومن بلد إلى بلد؟ هل الاختلاف معيار للجودة والرداءة؟ هل التقنية عفوية؟ لماذا أنفعل بالدرجة نفسها تقريباً بقصيدة سومرية وأغنية شعبية ومناجاة شكسبيرية؟ براقصة ريفية، وراقصة باليه؟ هل الإنسان طبقات ومراحل مخزونة؟ هل الإنسان أمزجة كامنة؟
كنت في فترة ما بعد زيارة بغداد ونشور سومر أعيش إحباطاً خاصاً، كمن يصعد زقورة ليؤذن يومياً، إلا أن صعوده لا يمكن أن يدخل في أي حقل من حقول الرياضة. ما الذي أفعله بكل ما أقرأ؟ كالعانس ما الذي تفعله بحليب نهديها، ولكن كالعانس تحبُّ الاطفال لدرجة القرص والعض، وأنا أحب الأدب بالشاكلة نفسها، وكان أَحبَّه لي في هذه الفترة الشعر السومري.
قرأته – أولاً – باللغة الإنكليزية. فاجأني رغم لغته الغريبة بألفة رحمية. كأنني سمعته من قبل: إيقاعاته لاتخطئها الأذن. التكرار والتكرار والتكرار؛ هذا بالضبط أسلوبنا في روي القصص بالناصرية، كأنني كتبته منذ مئات السنين، ثم نسيته. وها هو يعود إلى الذاكرة. قلت هذا أنا! الشعر مكتوب بالطريقة نفسها التي يتحدث بها أهلونا وذوونا. سومر تعود إلى النشور من جديد، بأسلوب مختلف وودي! نروي قصة زائر مثلاً. لا نذكر من هو ولا اسمه. نقدم له مقدمة احتفالية، نكرر ما نقول لشد السامع، ولإطالة تلهفة وتمديد فترة الإصغاء، نغير وجهة الأحداث مؤقتاً، ونعود إلى مقاطع سابقة، نرويها ثانية بكاملها. قرأتُ الشعر السومري عدّة مرّات، أحسستُ الأنهار الجافة في صدري تعرش بالأمواج من جديد، سمعت أجراساً افتقدت رنينها منذ طفولتي. (ترجم الأستاذ علي الشوك فيما بعد من روائع الشعر السومري ومنه اقتبس الأمثلة): شجرة الخلاف:
( في الأيام الأولى، في نفس الأيام الأولى / في الليالي الأولى، في نفس الليالي الأولى / في السنوات الأولى، في نفس السنوات الأولى، / في السنوات الأولى عندما جيء إلى الوجود بكل متطلبات الحياة / في الأيام الأولى عندما أُعدتْ متطلبات الحياة على أكمل وجه / عندما خبز الخبز في معابد البلاد / وتم تناول الخبز في منازل البلاد، / عندما انفصلت السماء عن الأرض، / وابتعدت الأرض عن السماء، / وتم تحديد اسم الإنسان، / عندما حَمل إله السماء، «آن» السماوات، / وحَمل إله الهواء «إنليل» الأرض، / عندما أوكلت لأريشكيخال ملكة الأسفل العظيم / مهمة الإشراف على العالم الأسفل، / أقلع شراعه، الأب أقلع شراعه / أنكي، إله الحكمة، أقلع شراعه إلى العالم الأسفل / … إلخ).
يقدم الشاعر السومري أعلاه ظهور أنكي بموكب احتفالي من عمق التاريخ. تتضخم موسيقاه بالتكرار، وكأن الشاعر يصوّر تعاظم طوفان من نوع ما. يشدك في الأبيات الثلاثة الأولى إلى «سفر التكوين» الأول، ولكنه لا يفصح عن شيء، لتأزيم السامع أكثر فأكثر.
في المقطع الثاني يواصل الشاعر، تكوين الطبيعة والإنسان من أبعد نقطة، ومن أول تشكيل لهما. لم تكمل حياة الإنسان إلا بالزراعة والمعبد وتوزيع مهام الكون على الآلهة. وحتى حينما يتم الكون بتلك الصيغة المتكاملة، لا يدخل أنكي رأساً. أراد الشاعر أن يشد إليه الأسماع أكثر فقال: “أقلع شراعه، الأب أقلع شراعه”
من الذي أقلع شراعه؟ لابدّ أن الإصغاء قد بلغ أقصى فضوله، ولاسيما بعد أن صوّر الشاعر قبل ذلك ظواهر كونية كبرى، ولا ننسَ أن الشراع هنا يوحي بطوفان. حين قال الراوية: «الأب أقلع شراعه»، كأنما أراد بكلمة الأب إيجاد صلة قرابة بين الأب والمستمعين من ناحية، وطمأنة النفوس الهلعة. لكن إلى أين أقلع شراعه؟ ومن هو ذلك الأب؟ الهواجس مستوفزة والرؤوس مشرئبة الأعناق. بعد كل تلك الاحتفالات الكونية يدخل «أنكي» إله الحكمة إلى مسرح الأحداث. بالإضافة إلى ذلك يأخذ «أنكي» أهميته الاستثنائية، وكذلك عظمته من الظواهر الغريبة التي مهدت لظهوره.
لا ريب أن الشاعر الأصيل من يحسن توقيت الحدث وتدرج نموه بتوقيت الكلمات المنتقاة. أكثر من ذلك أثار الشاعر من جرّاء غموض الأبيات الثلاثة الأولى فضول القارئ، ومن دون هذه الحيلة الشعرية، قد لا يتحقق التجاوب ولا التفاعل المنشود بين النصّومؤلفه ومتلقيه وهو ما يرجى من وراء كل عمل فنّي.
إذا تمعنا في المقطع أعلاه نراه دائرة، بدأ بنقطة، ثم عاد إليها. إلا أن الشاعر السومري – كما يبدو – أذكى وأحذق من أين يبقى في محيط الدائرة سائحاً. ابتدأ من مركز الدائرة – وهو أبعد نقطة فيها، ليوحي ببعدٍ لا متناهٍ للتاريخ، ببعدٍ لا وجود له في التقويم الزمني رغم وجوده نظرياً وبالضرورة.
هكذا فعل المؤلف الأوبرالي الإيطالي بوتشيني بتلك التصويتة ARIA التي تغنيها مدام بَتَرْفلانيْ(الفراشة) اليابانية، وهي من أفضل التصويتات الأوبرالية وأكثرها شعبية. كان قد مضى على زواج بترفلاني ثلاث سنوات. وهي تنتظر مع خادمتها سوزوكي على التل عودة زوجها الأمريكي. بلغ اليأس بالخادمة مبلغاً جعلها تبكي، إلا أن مدام بترفلاي لم تفقد الأمل، فتصورت أن الباخرة التي تقله، ها هي قادمة من أبعد نقطة في الأفق:
“في يومٍ جميل سنرى / خيطاً من الدخان يصعد على أبعد / أفق على البحر / وبعد ذلك تظهر الباخرة / وبعد ذلك تدخل الباخرة البيضاء / البحر / صافرة تحيتها العسكرية / ألا ترين؟ لقد جاء! / لن أنزل من التل لملاقاته / لا، سأقف على حافة التلّ وأنتظرُ / وأنتظرُ مدّة طويلة ولا أسأم / من الانتظار الطويل / ومن بين المدينة المزدحمة، هناك / يأتي رجل – بقعة صغيرة – ويصعد على التل / من سيكون؟ من سيكون / وحينما يصل، / ما الذي سيقوله ما الذي سيقوله /سینادي: بَتَرْفْلاي من بعيدٍ… الخ.”
هكذا تبدأ هذه التصويتة من أبعد نقطة في الأفق على شكل خيط من الدخان، ثُمّ يكبر إلى باخرة. ولكنّ نمو ذلك الخيط إلى باخرة يستغرق وقتاً يقطّع النياط، ويزيد من اللهفة المتوقدة. كذلك تفعل صورة الزوج المنتظر. وهو يبدو أول الأمر على شكل بقعة صغيرة في زحام. وحين تقترب البقعة أكثر فأكثر، تكتمل رجلاً تدريجياً. وحتى يزيد ناظم الكلمات من تلهفات اللقاء جعله يصعد تلاً، فأبطأ اللقاء الموهوم بينهما. تبدأ تصويتة المغنية، بصوتٍ دقيقٍ بعيدٍ كأنه يخرج من أبعد نقطة في الأفق، ثم يصعد ويصعد ويقترب مع اقتراب الباخرة.
في الواقع إن شخصية بترفلاي نفسها تنمو،وتطور على المنوال نفسه، حيث تظهر في البداية فتاة شابة بريئة، وساذجة. ثم تنتقل إلى المرحلة النسوية في أثناء غناء اللحن الثنائي الطافح بالحب. أمّا في الفصل الثاني، أي بعد ثلاث سنوات تصبح أمّاً، مع شعور بالنضج والاعتداد بالنفس. ولا تبلغ كمالها الإنساني إلا بانتحارها.
على أية حال إن أهم ما يميز تلك القصيدة السومرية، التكرار اللفظي والبناء المعكوس للصورة الشعرية. ألا يذكّر التكرار اللفظي الذي لجأ إليه الشاعر السومري بـ«بوليرو» رافل RAVEL، المؤلف الموسيقي الفرنسي؟ حيث يعاد اللحن الشرقي الواحد من بداية أل «بوليرو» إلى نهايته، إلا أنه يكبر حجماً قليلاً قليلاً مع كلّ إعادة إلى أن يملأالقاعة وتمتلئ الحواس، برهبة حسيةٍ وارتجافٍ لاهثٍ.
الراقصة نفسها تؤدي حركة واحدة لا تتغير لمدة ربع ساعة. يداها ممدودتان أمامها تتحركان ذهاباً وإياباً. تبدو الراقصة التي تقف على منصة دائرية، ومن جرّاء تكرار حركة يديها وخفوت الضوء الأحمر عليها، وكأنها على صهوة حصان طائر. ساقها اليمنى ثابتة، بينما ساقها اليسرى متقدمة قليلاً. الأولى ثابتة، والثانية تؤدي حركة واحدة لا تتغير وكأنها لقطة جانبية لساق فرس مبحرة. الثوب منحسر عن فخذها الأيسر. يتوقد الضوء الأحمر على الراقصة قليلاً قليلاً، وعلى الفخذ المحسور الثوب أكثر ويبلغ أشد توهجه حين يحيط بها الراقصون وقوفاّ، فيظهرون جميعاً وكأنهم شموع ولهب أحمر. كأنهم شعلة.
يؤدى اللحن الشرقي هذا، بضربات على طبل جانبي مطوق. هي هي. إلا أنها تتضخم تدريجياًفتصلُّ، وتجزُّ، وتثير أعمق الحسيات والشبق. يتردد هذا الإيقاع الواحد مائة وتسعة وستين مرة، من دون أدنى إملال؛ لأنه نامٍ.
لكن البناء المعكوس للصورة الشعرية لا يقل أهمية عن التكرار في القصيدة السومرية. أي يبدأ الشاعر بالتصوير من النهاية إلى البداية. احتفالية تمهيدية لتخدير الحواس واستنفار أدق للإصغاء.
هذه العادة في التأليف السومري، ماتزال شائعة حتى اليوم في الأغاني الفولكلورية في جنوب العراق:
شفت الضوة من بعيد كلت احتركنا
ثاريها شهلا العين ومسيره عدنا
(أي: رأيت الضياء من بعيدٍ فقلت احترق البيت فإذا بشهلاء العين ضيفة عندنا).
رغم ما يرافق العقلية الريفية من مبالغات، إلا أنها – على سخفها – غير منفّرة، إذا لم تؤخذ جدياً. رأىالشاعر أولاً ضياء، فتصوره حريقاً. لابدّ أنه أصيب بفزع، ولاسيما وأن الحريق في بيوت البردي والحصران، أسرع إلى التلف. لكن حين تيقن أن حبيبته الشهلاء العين هي بالذات، مصدر الضوء، كانت بهجته أضعافاً مضاعفة، خاصة وأن الشاعر مهّد للضياء – الحريق. بمسافة بعيدة. بكلمات أخرى، كان عليه أن يقطع المسافة لاهثاً وقلقاً. ما أعمق رحلة الإنسان من الخوف والتطيّر إلى المسرة. لكن هذه الطريقة في النظم الشعري، لا تقتصر على الشعر السومري، أو الأغاني الشعبية العراقية، بل أصبحت أساساً شديد المفعول في بعض صور شكسبير – ولكل حادثٍ حديث .. وهي بلا ريب تختلف عن المقدمات الطللية في الشعر الجاهلي وحسن التخلص.
على أية حال، ذكرتِ المغنية الأوبرالية الإسبانية «فكتوريا دي لوس انخليس»، صعوبة ما تلاقيه المغنية البالغة، من عناء في غناء المراحل الزمنية والنفسية التي مرت بها مدام «بترفلاي»، من السذاجة إلى النضج والبلوغ والكمال فالانتحار. لابدّمن أوتار صوتية قادرة على التقمص وتصوير الأدوار من أقصى الفرح إلى أقصى الحزن، ومن أنعم حلم يافع، إلى أقسى مفاجأة قاتلة ماحقة.
لكنني لم أكن أمثّل مراحل حياتي. كنت أعيشها متداخلة. بوتقةً خليطاً، وكأنها عنصر واحد، رغم تعدد عناصرها، وزمن واحد، رغم تعدد أزمانها. ما وقع لي في طفولتي، لم ينقطع. نما وتفاعل وتداخل. بدأ ولم ينتهِ. بوتقة خليط. ربما لهذا السبب، استغنيت عن التواريخ في هذه السيرة؛ لأنها تاريخ واحد متواصل لا يمكن تجزئته إلا مجازاً۔ أسمع موسيقى لكن بكل تواريخي، وأقرأ كتاباً لكن بكل تواريخي، وأنظر إلى لوحة رسم بالمثابة نفسها. هكذا أصبحت ردود أفعالي، بعيدة عن الآنية، فلا تعنيني اللذات العابرة. أستعذبها وأندم. هل ندمت؟
ما الفائدة من كل هذا؟ الشيء اليقين في حياتي الآن هو الحيرة. الحيرة حتى من قابليتي على الكتابة. الحيرة رافقتني مع أوّل كتابٍ مدرسي. الحيرة ميراثي الأول والأخير. فتش كلكامش عن الخلود ، فأصابنا بعدواه. في الواقع لا أفتش عن الخلود، وإن كنت أعشقه.
فتشتُ في البداية عن لقمة العيش، وكأنّها الإكسير، واليوم أفتشُ عما ينسيني حيرتي التي تزداد وتستفحل بمرور السنين. سأخرجُ من حلبة الحياة بحيرةٍ أكبر. الحيرة ميراثي الأوّل والأخير، فأتخبط:
في كلِّ آلة موسيقية، آلاف الأنغام لم تكتشف بعد / في كل شجرة، أصباغٌ بقدر عيدان الأعشاش / في كل صخرة، عددٌ لا حصر له من تماثيل لم تُنحتْ بعد / يولد الإنسان وفي صدره مدنٌ مطمورة / في حنجرته لغاتٌ مدحورة. لغاتٌ منقرضة / لغات في تابوت. لغات في زفاف. / ملامحه ليست ملامحه / ويداه مجدافا نوح دائماً
هل نحن الحقيقة أم الصورة؟ أم صورة الصورة إلى ما لا نهاية؟ هل نحن أشجار مطعّمة في أشجارٍ غريبةٍ؟
***
قال لي معلّم الإنشاء بتأنيبٍ مرّة: «لماذا تستعملُ كلماتٍ لا تعني شيئاً؟”.
__________________________________
انتهت في لندن 29 / 6 / 2000
