الهامش النافر في الثقافة العراقية || خالد عبد الزهرة شاعرًا وسليم جواد روائيًا

كتبه | حسين علي يونس _ شاعر عراقي

1

منذ سنوات بعيدة ربطتني صداقة بشخصين الاول “سليم جواد ” صاحب رواية ” الاشباح والوهق” و الثاني ” خالد عبد الزهرة” صاحب مجموعة “سلة الرهونات” كلاهما يعيش منعزلا ونافرا لديهما عالمهما الخاص ويعيشان في ظلاله بصفته (تجليا للهامش) الذي يعطفان عليه ويتماهيان معه ويراقبانه من ثقب باب خصوصيتهما الغالية والنفيسة التي لا يريدان ان يتخليا عنها لأنها ببساطة شديدة تشكل عصب مادتهم الخام التي يصوغان من خلالها عجينة نصوصهما عبر سلال وحدتهما. ولأنها ايضا شرط (ضرورة) الحماية لكل منغلق، هما من الجيل التسعيني الذي اعرفه جيدا وانتم له واتعاطف معه ، بسبب انكساره ورفعته ، في البدء لابد من القول ان الرجلين كانا ولا زالا من معارضي النظام بصفته نظاما قمعيا وبسبب من كونهما عاشا داخله وتقلبا بين عوالمه في سياق ضاغط ،كان ينبغي محاربته ومهاجمته دون هوادة عبر طرق الكتابة واساليب العيش . فما الذي جعلني اباشر بكتابة هذه المادة بالحقيقة انها سيادة توسع الدوائر على السطح وانحسار ظاهرة استقرار الحجر الثقيل في العمق ففي ظل نظام طائفي مقسم الى عرقيات ومذاهب متنافرة ، وجدت الكثير من الشعراء والكتاب أضافة الى بعض مقدمي البرامج الذين يكتبون بشكل ضحل ويحصلون على المديح كله بينما يقبع شاعر مثل “خالد عبد الزهرة” وروائي مثل “سليم جواد” في الظل يعيشان ويكتبان بحنكة وخبرة لا تعنيهما كثيرا مكانتهما المحفوظة لاحقا.

2

اضع امامي مجوعة خالد “سلة الرهونات” ورواية سليم الاخيرة “بصاق العاصفة الحار” واحاول ان اكتب عن هذين الكتابين الممتعين ، لكنني في اللحظة الاخيرة اغير من ثيمة مقالي المتواضع واقول ماذا لو كتبت عنهما كشخصين بدل الكتابة عن كتبهم التي تدل عليهما ولأن الكتب لا يمكن ان تكون هامشية ايضا فكينونتها باردة و حيادية وتتسم بالاستقلالية التامة عن واضعيها ، فقلت لنفسي لأكتب اذن عن كائنين اعرفهما جيدا واراقبهما منذ سنوات بعيدة ، ستكون هذه التجربة اكثر جدوى من الكتابة عن كتبهم تلك التي انفصلت عنهما ومضت لتعيش حياتها فلقد جمعنا سياق واحد وشارع واحد عشنا في منعرجات طرقه عبر العيش والكتابة ، واشعر بالحزن بسبب الغبن الذي لحق بهما بصفتهما كاتبين. يؤلمني بالطبع ان تقرأ رواية ساذجة مثل “ساعة بغداد ” وان يعاد طبعها مرارا وتكرارا وأن يشيد بها بعض مروجي الاشاعات على صفحات التواصل والفضائيات بينما تعيش روايات سليم في الظل وليس بين يدي القراء وكذا “سلة الرهونات ” التي لا تنال ما تستحقه بينما تجد ديوانا ينتشر انتشار النار في الهشيم لأن كاتبه مدير محصن بالروح القدس وببخور الجوامع القديمة تحوطه رسائل الدكتوراه وأطاريح الماجستير التي وضعت بسبب عادة مسح الجوخ لأن المؤسسات عندنا لا تروج للكتب الجيدة بسبب نشازها وثوريتها ، بينما تتقدم الكتب المهادنة والسطحية التي تشيد بالسائد والمغرض وما الى ذلك لهذا تظهر كتب سليم بعناوين صادمة فيها الكثير من ردات الفعل المتشنجة التي تعكس احتجاجه على عدم نيله المكانة التي يستحقها فهو يمارس (حضور غيابه) بشكل تعسفي ردا على لا مبالاة الآخرين بكتابته و من اجل ايجاد مبرر لمواصلة عمله بصرف النظر عن فشله في التقدم خطوة لنيل الاعتراف .

3

قبل سنة التقيت برجل دمث قارئ جيد اشترى مني كتابا وطلب ان اشتري بضعة كتب قديمة كان قد قراءها ولما لم تكن قابليتي على شراء تلك الكتب في احسن مستوياتها عرضت عليه ان يضعهن مع كتبي على الرصيف ويجلس معي من اجل بيعهن . اشفقت على الرجل كثيرا واثناء حديثي معه اخبرني انه يكتب الروايات ولديه سباعية فلم آخذ كلامه على محمل الجد قلت لحالي اخيرا ظهر بروست العراقي . تطور الحديث بيننا و اخبرني بعناوين رواياته فلم تعجبني تسمياته لتلك الاعمال قلت ربما كان الرجل يكتب روايات رومانسية كتلك التي تكتبها النساء عندنا. في منتصف النهار بعت معظم كتب الرجل وبقي كتابان اشتريتهما منه وغاب كاتب الروايات الغامض لشهور وكان يمر علي بشكل متقطع يلقي علي بالسلام ويمضي لقد كنا بؤساء ثقافة وبؤساء حياة. بعد اسابيع مر علي كاتب الروايات الغامض وفجأة عرض علي روايته التي طبعتها له دار الشؤون الثقافية وكتب لي اهداء على الورقة الاولى بخطه الجميل فقلت – آه الحمد لله اخيرا فعلت دارالشؤون الثقافية شيئا جيدا . مضى كاتبنا وانشغلت بتصفح ما كتبه شدتني الجمل الاولى لروايته انا الذي كنت ولا ازال أحكم على قوة العمل من جملته الاولى وأكملت الفصل الاول ، لقد كان الرجل روائيا حقا ، بحثت عنه وأردت أن أعرب له عن اعجابي بما كتب لكنني لم اجده بعد ساعة مر على لحسن الحظ وتحدثنا هذه المرة بشكل مختلف قال انه نشر رواية “الطوفان” التي يعدها عمل حياته ووعدني انه سيحمل طوفانه، درته، الي قريبا. رجعت الى البيت وها انا اكتب هذه الكلمات القليلة عنه فهو شقيق خالد وسليم كاتب رائع هامشي ممتاز ويسعدني ان اضمه الى مجمع الهامش الذي يتكون من سليم جواد وخالد عبد الزهرة واحمد سالم احمد وانا الذي يخط هذه الكلمات القليلة بالطبع من اجل ان لا يقال انني متنطع . على طاولتي كومة كتب ممتازة لكنني منحاز لثلاثة عناوين قرأت “سلة الرهونات” وفي طريقي لقراءة “بصاق العاصفة الحار” ومنشغل بقراءة “جمهورية الذهب الاسود” . تستهويني ثيمة العيش في الهامش والكتابة عنها فهي تجرك اليها عبر تلمس ظلال النسيان فهنا يوجد الدفء الانساني والتلقائية والحنان والسخرية المشوبة بالعمق والنبرة الخافتة التي تدل على التواضع الرفيع الخالي من ارتفاع تلال الطنانة عاليا .

4

امامنا ثلاثة اسماء تكتب بشكل جيد لكنها لا تعرض نفسها بشكل جيد انهم ثلاث كتاب يكتبون وينتظرون ان يأتي العالم اليهم لكن العالم لا يعيرهم الكثير من الاهتمام و الاهمية فهو تجريد محض هم ينتظرون ان يحالفهم الحظ الذي قد لا يأتي اليهم بالمرة فالحظ مجرد لعبة ميتافيزيقية وهم لا يؤمنون بها بالطبع لكنهم يأخذون بها مضطرين فيدخلون (هذه اللعبة) بينما يتقاتل نظرائهم بتوحش وصخب وينجحون في عرض بضاعتهم التي غالبا ما تكون رديئة ، لكنهم يحصلون على كرسي الاسترخاء ويستريحون الى مكانتهم التي حصلوا عليها بسبب قتالهم وبسبب حضورهم المادي والضجيج الذي احدثوه وليس بسبب مواهبهم لان الذي يملك الموهبة لا يحتاج الى رفع صوته، الاواني الفارغة هي التي تحدث صوتا اما الاواني الممتلئة فيكون رنينها باهتا خفيفا وغير مسموع لهذا يظلون ينتظرون دورهم الى ان تنتهي الحفلة .

5

قرأت مجموعة خالد منذ سنوات وتصورت انها ستجد الاهتمام الذي تستحقه لكن هذا لم يحدث لقد جرأ الاحتفاء بنماذج كانت تكتب قصائد الادعية ولم تكن تستحق ان ينشر لها بالمرة ، احتفلوا بالشعراء المستشارين و بالكتاب المدراء بسبب مواقعهم الادارية ،احتفوا بالكراسي تلك التي يضع عليها المدراء مؤخرتهم وكان هذا نوعا غريبا من “الميتامؤخراتية” فيالها من اقدار نعيشها في زمن المؤخرات الوظيفية ذات الطابع الطبقي الاغبر . تركوا الشاعر في غياهب الجب ولم يمدوا له حبل ان يوجد وان يكون حاضرا و مؤثرا . اكتفى خالد عبد الزهرة بعلاقات قليلة كانت جلها هامشية بينما كون سليم علاقات قليلة مع كتاب يقال عنهم انهم كتاب كبار لم يوسعوا من دائرة حضوره في المشهد عاملوه معاملة الطارئ والمعجب بكتبهم التي قد لا تكون رديئة بالطبع لكنها ليست كتبا استثنائية غالبا وكان يعتقد انهم سيمنحونه المكانة التي يستحقها لكن هذا لم يحدث لم يدلقوا جملة واحدة بخصوص ما كتبه ويكتبه رغم انهم كتبوا عن كتاب اقل منه بكثير وبشروا بهم مجاملة دون وجه حق ربما يجهل الرجل انهم لا يريدون منافسا فهم بالحقيقة لا يكتبون عن كتاب جيدين بل يفضلون الكتابة عن كتاب دونهم في المكانة بكثير ليقولوا للقراء -آه انظروا نحن لا نزال الافضل لا تذهبوا بعيدا اذا رغبتم بكتاب غيرنا فخذوا هذه “التفاهة ” التي بشرنا بها فما ذا تريدون اكثر من هذا . انها سياسة الكتاب المكرسين ايدلوجيا وسياسيا و ذوقيا وتتماشى مع سياسة القطيع ، لهذا ساهموا بترسيخ عزلته داخل شرنقة حضوره ( الفراغي) ليصبح في النهاية امير عزلته وخيبته بينما مضى الرجل يجاهد من اجل الحصول على مكان تحت الشمس من اجل الحصول على المكانة التي يستحقها ، الامر الذي جعله يمعن بالكتابة الهجائية والعصابية كدافع من دوافع الحصول على الحماية (حماية الذات) التي كانت تريد ان تتوسع خارج منطقة نفوذها الضيقة بينما اكتفى احمد سالم بالانعزال وانتظار الفرصة التي قد يوفرها له الحظ الذ ي قد يأتي و لا يأتي لكن ما الذي يمكن فعله غير هذا الفعل السلبي فهذا الرجل الكاتب ليس نرجسيا، هو يكتب ولا ينتظر شيئا وشخصيته تذكرني بنقيضه بشاعر يصور كل لحظة في حياته ويريد ان يحصل على كل شيء بشكل كلبي . قرأت قبل اشهر عملا رائعا لا اعتقد ان احدا من اساطين ناثرينا الكبار قد كتب ما يضاهيه بحيوية لغته وجمال اسلوبه هذا العمل كتبه فنان ديكور اهتم بالمسرح والتمثيل يدعى “غانم بابان” وجد نفسه في خانة اليسار العراقي المنفي وعاش حياته مشردا في عدة دول بسبب نزوات جربوع اسمه صدام ووضع كتابا واحدا لم يكتب غيره هو” اسفار التيه العراقي” دون الرجل سيرة حياته فكتبها كما يكتب رواية ، حال شروعي بقراءة كتابه تذكرت رواية سيلين “رحلة في اقاصي الليل” حال انتهائي من قراءة مذكراته شعرت بندم كبير، كنت اشاهد الرجل يتجول بعد عودته من سنوات نفيه مع زيد وعبيد ولم اتعرف عليه الى ان نشر كتابه الرائع بجهود معارفه الذين شاركوا بطبعه على نفقتهم بعد رحيله بشهر او شهرين ، فقلت لحالي لقد اخطأ الرجل في تجنيس عمله فما كان عليه الا ان يكتب على غلاف كتابه (رواية) لتكون عملا خالدا على رف ذاكرة الرواية العراقية الشحيحة.

6

هكذا تولد الكتب الرائعة تتنفس بين الناس ثم تموت ويطويها النسيان بينما تواصل كتب السادة المدراء الرديئة حياتها بسبب حقن المديح والدعاية الرخيصة والاشاعة التي تنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي ومدرجات الجامعات التي تنطلق منها الرسائل والاطاريح كالغربان لتنفخ في جثث ميتة. ولأن جل النقاد في مجتمعاتنا يفضلون كيل المديح للقوي والكبير ليرتفعوا الى مستوى من يكتبون عنه اكتب انا عن الذين يشبهونني مخالفا تلك النصيحة التي سمعتها حين كنت شابا “اكتب عن الكبار لتكون كبيرا لا تكتب عن الصغار فهم لن يضيفوا اليك شيئا” هذه النصيحة التي قالها الشاعر الستيني سامي مهد ي للشاعر حكمت الحاج بحضوري حين كتب الحاج عن مجموعتي الاولى “اجراءات”. كنت اعرف رجلا كان موهوبا ويشكو من كونه ضائعا ويبحث عن مكانة له بيننا .. كان يكتب الشعر واخبرني ذات يوم ان العيش بيننا صعب يقصد انا وعبد الامير جرص وخالد مطلك فنصحته ان يكتب النقد ليختصر الزمن على نفسه فمضى الرجل ليكتب عن اصحاب الصفحات الثقافية الذين لم يكن يحبهم ولم يكتب عن الصغار من امثالنا ، هذا السلوك ليس شاذا بالطبع فقبل اشهر التقيت بصديق شاعر ثمانيني لم يكن يحب احدا اخبرني الرجل عن ضرورة تقديم بعض التنازل ليطبع كتابه كما حدثني عن ضرورة تغيير منهجي ايضا قال لي “ان الجميع يكرهك يا حسين” وطلب مني ان اذهب معه الى تلك الدائرة فاعترضت ذهب الرجل الى تلك الدائرة البعيدة بمفرده قدموا له الشاي واسمعوه بعض الجمل الحلوة ووعدوه بطبع كتيب له وها قد مرت اكثر من سنة وكتابه نائم في مجاريرهم.

الحقيقة ان من يكرس هذا السلوك هم الناس الذين يتهافتون وليس اصحاب المناصب الذين يتصاغرون لهم من اجل (المامش) كما تقول هذه الكلمة العراقية البليغة التي احب ان استخدمها دائما لبلاغتها وثوريتها وانكسارها فقلما تجد هكذا مفردة تجمع بين نقيضين وتؤدي الغرض بشكل رائع دون تنطع وادعاء .. هكذا تبدأ القصة وهكذا تنتهي بينما تستمر الحياة عبر تسويد البياض وبث الحياة على الورق والحبر وتبييض سجلات السواد بالسلوك المتهافت ومسح الجوخ.

لقد تغيرت العلاقة بين القارئ والكاتب من حال إلى حال. ففلاسفة القرن الثامن عشر الذين اطلقوا تسمية فلسفة على موقف، اكثر منه على نسق، حرروا الأدب من التفاهة كما يقول اندريه مالرو في كتابه بالغ الاهمية “الانسان العابر والادب” فما الذي حصل؟ لقد غيرنا نحن تلك العلاقة. أعدنا التفاهة إلى الأدب ورجعنا القهقرى، وها نحن ننساق صوب ثقافة ميتة همشنا ثقافة العمق وصنعنا ضدا نوعيا كنا نريده وها نحن نقاتل ضده وسيسحقنا بتفاهته لأنه بلا ضمير، سطحي، ولديه السلطة والمال. كلنا نعرف إن الاناء ينضح بما فيه. سيكتبون أدبا يمثل طبقتهم ولا تعنيه اطياف الخردة تلك التي تمثل تطلعات وحياة الهامش المغيب في الحجرات المظلمة وفي بيوتات الصفيح وعلى السطوح، فيا لها من اشكالية وحياة غريبة ننتظرها لتشرق من بين الانقاض.

مقالات قد تعجبك
اترك تعليق

لن يتم نشر أو تقاسم بريدك الإلكتروني.