انتصارُ الترجمة || مزوار الإدريسي

مقالات | مدار 24

اشتُهر الفيلسوف تْيُودُور أَدُورْنو بذهابه سنة 1949م إلى القول أن “كتابة الشِعر بعد أَوْشْفِيتْز عمَلٌ بربريّ”؛ ولا يَخفى أنها مقولة أثارتْ اهتمامًا نقديًا عميقًا، ونقاشًا فلسفيًا وأخلاقيًا واسعًا، لا تزال أصداؤه تتردَّد بين الحين والحين، وشاركتْ فيه أقلام مرموقة، على رأسها الشاعران والمترجِمان پُولْ سِيلَان، وإيفْ بُونْفْوَا وآخَرون.

ولا غرو أنّ ذِكر أَوْشْفِيتْز يستتبِعه استحضار الاستيطان الصهيوني الاجتثاثيّ الفظيع، والظروف اللاإنسانية والقاسية التي يعيشها شعبُنا الفلسطيني يوميّاً منذ سبعين سنة، وملحمة صمود الشعب الفلسطيني. تُذكِّر أَوْشْفِيتْز الأذهانَ عربيّاً ودوليًا بواقع المِحرقة المهولة التي قد كابدَها يهود أوربا، وَفق السردية الصهيونية والأمريكية أيضا؛ لذلك لم تفتأ الصهيونية مدعومة بأنظمة الغرب تلاحق كل منْ يُشكِّك في الهولوكوست، ولم تدَّخر جهدًا ومالاً في الترويج لها سينمائيًا وفنِّيًا وإعلاميًا، واصمَةً بمعاداة السامية كلَّ من يتساءل في شأن صحة وقائعها، بله التشكيك فيها.

والواقعُ أن الصهيونية قد أفلحت في إنتاجِ صورة لليهوديّ بوصفه ضحيَّةً، ونجحت في جعلها تنطلي على كثيرين، ومع ذلك فإن هذه المناورات لم تحُل دون انتباه مُثقَّفين غربيِّين متميّزين، يتقدَّمهم المفكِّر روجي غارودي، إلى ما يشوبها من مغالطات ومبالغات، في مُقابل فظاعات الاستيطان الصهيوني في فلسطين المدعوم من أنظمة الغرب، والذي تَشهد على معاداته للسامية العربية فظاعاتُه المروِّعة، والموثَّقة بالصورة والصوت في ما تُنتجه مؤسسات إعلامية رسمية ووسائل تواصل موضوعية، وشهاداتُ عِيان لبِعثات حقوقية ومنظَّمات دولية وغيرها.

ولا غرو أنّ من بين ما سعى أدورنو إلى التنبيه إليه، بقولته الشهيرة، هو تبيان عجز الشعر عن المواكَبة الإبداعية لفاجعة المِحرقة، بل عن حدس حلولها الوشيك باعتباره نُبوءةً، وأنه رام ضِمنيًا التساؤلَ عن جدوى الكتابة في صِيغها الفنية المتنوعة وأشكالها الفكرية المختلفة، كي لا يُقتَصر على إدانة الشعر وحدَه، حتى لكأن أدورنو يُلمِّح بقوة إلى أن الهولوكوستْ المَهول قد أَخْرس الكتابةَ الفنية بأجناسها، عن توقُّع الفاجعة وقولِها قبل وقوعها.

ويبدو لي أن أدورنو لم يتوقَّع إمكان تفنيد الترجمة، بوصفها جنسًا أدبيًا على حدة، وَفق الفيلسوف إِي غَاسِيتْ، لقولتِه بأنْ أسقطتْ عنها إطلاقيتها وشموليتها خلال الهولوكوست الفلسطيني، الذي بلغ ذروته في الأحداث الأخيرة، فقد نشطتْ عقودًا قبل العدوان على غزة، في ترجمات متواصلة للشعر والسرد الفلسطينيَيْن إلى لغات العالَم خاصة الغربيَّ، كما أنها وُظَِّفتْ بوصفها سلاحًا فعّالاً في السينما والوثائقيات والشابكة، ففضحت بلسان غربيّ وغيْرِه ما تَحياه الجغرافية الفلسطينية من جرائم يقترفها الاستيطان الصهيوني، الذي يستبيح شعبًا على أرضه ويستأصل ثقافته، ففازَ صنيعُها بالتآزُر الشعبي العربي والدولي خصوصًا في العالَم الناطق بالإسبانية، وحتى في الولايات المتحدة عُقر الصهيونية.

تتعدَّد الدروس التي يستخلصها العالَم من فاجعة غزة، التي أكَّدت أن الإيمان بعدالة القضية تمنح الكائن طاقةَ البحث عن النجاة وسط الدمار، وتُزوِّده بإرادة العثور على معنى للاستمرار في الحياة حتى في الظروف الأقسى والأفظع، تلك التي يُراد لها من قِبل الغاصب أن تُجرِّد الفلسطينيَّ من إنسانيته، كما أنها أبرزتْ قدرته على ابتكار اللامتوقَّع.

وإذا كان عالَمُنا المعاصر يوصف بكونه عالم التواصل والاتصال، فإن أبطال غزة وأنصارَهم أثبتوا إمكان توظيف يُتيحانه، مِثل الشابكة (التي اكتُشِفَ تآمُرها على فلسطين بحجب كتابات وفيديوهات، وإيقاف حسابات، إلخ)، لكي تُضفي الشرعية على السياسات المُجحفة، قد انقلبتْ على الغرب المتآمر، وأصبحتْ متوسِّلةً بالترجمة أدواتٍ للتحرر، تَنشر الوعي وتُدافع عن العدل والحرية، ويتمدَّد خِطابها ويتكاثر يوميّاً.

واضح أنّ الحكم الذي أصدره أدورنو على استحالة الشِّعر بعد أوشفيتز، والذي يَشمل الكتابة والفنون جميعَها، لم يصمد أمام مُفاجآتِ فاجعة غزّة، التي كشفت للعالَم صلابة الحق وثباتَه، وانتصار إرادةِ الحياة على الدمار، وعلى أنّ التساند بين الفنون والترجمة، شأنه شأن التضامن بين الشعوب، قد فتح عيون المجتمعات الغربية بالخصوص وحتى اليهودية على فظاعة الصهيونية في مواقعها المختلفة في العالم، وأنها أحدثت انعطافا في الوعي، كل ذلك يعود فضْل كبير منه إلى الترجمة.

__________________________________
* إن الآراء الواردة في المقال تعبر عن رأي الكاتب، ولا تعبر بالضرورة عن رأي منصة مدار 24.

مقالات قد تعجبك
اترك تعليق

لن يتم نشر أو تقاسم بريدك الإلكتروني.