أربع قصائد من الشعر الإسباني الحديث || ماريا آنخلس بيريث لوبيث
ترجمة وتقديم : عبد الهادي سعدون _ كاتب وشاعر ومترجم عراقي
وُلِدت ماريا آنخلس بيريث لوبيث في مدينة بلد الوليد الإسبانية عام 1967. شاعرة، وأستاذة الأدب الإسباني والأمريكي اللاتيني في جامعة سلمانكا. نُشِرت مختارات من شعرها في كاراكاس، مكسيكو ستي، كيتو، نيويورك، مونتيري، بوغوتا وليما. كما تم نشرها أيضًا باللغتين الإسبانية والإنجليزية في إيطاليا والبرتغال. نُشِرَ كتابها ( لحم في البرد) في إصدار ثنائي اللغة في البرازيل والولايات المتحدة. وقد حصل ديوانها الشعري “الحريق المعدني” على جائزة النقد الوطني في عام 2022. كما فاز كتابها “كتاب موتى البحر الأبيضالمتوسط” على جائزة مارغريتا هيرو عام 2023. من بين إصداراتها الشعرية الأخرى: الغائبة 2004، أربعة عشر حياة 2010، تدخلات 2019.
1
كُنتُ حَجَرًا جَذاباً للهَوَاءِ.
كَثِيفًا، صَارِمًا، وَبِعَيْنٍ يَقِظَةٍ
لِتُدْرِكَ النَّسْرَ فِي الصَّدْرِ،
بِعَلَامَةِ دَمِ البَاشِقِ
ـ طَرِيقَةٌ أُخْرَى لِقَوْلِ تَارِيخِي الحَمِيمِي ـ
أَوْ أَيُّ طَائِرٍ آخَرَ فِي هَذَا الشَّأْنِ،
بِعَلَامَةِ رِيشِ البَاشِقِ
أَوِ النَّسْرِ أَيْضًا، أَوِ الأَفْعَى،
بِعَلَامَةِ حِبْرِ البَاشِقِ
الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ أَسْمَاءُ المُطَارِدِينَ،
وَقَائِمَةُ القَلْبِ الجَوْهَرِيَّةِ.
2
تِلكَ النَّبرَةُ المُستَحِيلَةُ فِي كُلِّ نَغمَةٍ،
ارتِجَافُ الهَوَاءِ حِينَ يَهتَزُّ،
لِأَنَّ المُوسِيقَى تَأتِي مِن بَعِيدٍ،
مِن دَاخِلِ الحَجَرِ النَّافِذِ،
وَمِن رَغبَتِهِ الخَفِيَّةِ للمَاءِ.
خَفَقَانُ الهَوَاءِ حِينَ تَنمُو
نَغمَةُ ضَوءٍ مِن قَلبِ الحَجَرِ،
ذَلِكَ التَّوَهُّجُ الَّذِي يَأسِرُ المَلَامِحَ
وَيَجعَلُ الصَّوتَ هَائِلًا، لَا يُطَالُ…
لَكِن لَيسَ لِهَذَا السَّبَبِ يَنقَطِعُ المُتَسَوِّلُونَ،
وَلَا ازدِهَارُ الأَنوَاعِ المَحكُومِ عَلَيهَا
بِلَا غِذَاءٍ، بِاستِقلَالٍ
يُكسِرُهُ الهَوَاءُ بِنَدرَةٍ مُنهَدِمَةٍ.
الحَجَرُ النَّاعِسُ، الحَالِمُ،
المُمتَلِئُ بِذَاتِهِ، بِالانكِسَارِ
وَبِالرَّملِ، بِالجَمَالِ، بِالمَزِيدِ مِنَ الانكِسَارِ،
يَفقِدُ أَنفَاسَهُ، يَرتَعِشُ،
إِذ لَا تُوجَدُ طَرِيقَةٌ بَشَرِيَّةٌ لِفَهمِ الفَقرِ،
ذَلِكَ النُّمُوُّ النَّبَاتِيُّ لِلأَيدِي كَالأَغصَانِ،
كَالأَذرُعِ الَّتِي تَنمُو
كَالجُذُوعِ،
مَربُوطَةٌ بِالجُذُورِ
بِالحِرمَانِ،
غَرِيبَةٌ، عَارِيَةٌ
وَمُتَأَلِّمَةٌ.
3
الذَّنْبُ عَضَّةٌ مَسْمُومَةٌ،
حجَرٌ بَلُّورِي يتنقل
وَيَجُرُّ خَلْفَهُ أَثَرًا مِنَ الأَلَمِ
كَخَيْطِ دَمٍ فِي الكُلَى،
لِيَرْبِطَ، بِيَدٍ مُرْتَعِشَةٍ،
مَا كَانَ وَمَا لَمْ يَكُنْ أَبَدًا
لَكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ،
إِنْ أَخْطَأْنَا فِي تَصْرِيفِ كُلِّ فِعْلٍ.
ثُمَّ نَبْكِي طَوِيلًا، بِحَسْرَةٍ،
عَلَى كُلِّ كَلِمَةٍ تَعَثَّرَتْ بِالحَظِّ العَاثِرِ—
تَبْدُو تِلْكَ الكَلِمَاتُ فَجْأَةً
وَكَأَنَّهَا خَفْقَةُ دَمٍ،
ضَرْبَةُ حَرٍّ فِي الرِّئَتَيْنِ،
وَمِنْ هُنَاكَ إِلَى اللِّسَانِ المُشْتَعِلِ
بِاسْمٍ اخْتِيرَ بِارْتِبَاكٍ،
إِذْ كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَقُولَ “كَرَاهِيَةً” فَقُلْتُ “الضَّجَرَ”،
بَيْنَمَا بَقِيَتِ الشِّفَاهُ مُتَفَحِّمَةً
فِي الامْتِدَادِ المَرِيضِ لِلكِبْرِيتِ.
الذَّنْبُ شَكْلٌ مِنْ أَشْكَالِ الغَضَبِ،
الابْنَةُ الأَشَدُّ عُنْفًا لِلأَلَمِ،
الَّتِي تَحْمِلُ فِي اخْتِيَارِ كُلِّ فِعْلٍ
عَالَمَ الصَفائِحِ المُعَقَّدِ.
مَسَارَهَا المُلْتَهِبَ
فَوْقَ الكَلِمَاتِ الحَمْرَاءِ، كُرَيَّاتِ الدَّمِ،
الَّتِي بِهَا أَكْتُبُ هَذَا الزَّمَنَ الَّذِي أَنَا فِيهِ،
أَوْ بِالكَادِ أَكُونُ، لَكِنَّنِي سَأَكُونُ،
إِنِ اسْتَطَعْتُ أَلَّا أَقُولَ كُلَّ شَيْءٍ.
مَعَ ذَلِكَ
لَيْسَ لِي عِقَابٌ آخَرُ سِوَى أَنْ أَرْغَبَ
فِي الحَيَاةِ بِكُلِّ مَخَالِبِهَا، مَثَالِبِهَا،
أَخْطَائِهَا، ضَحِكَتِهَا، رَعْشَتِهَا،
وَصُنْدُوقِهَا المُصَقَّولِ، حَيْثُ يَنَامُ الذَّنْبُ
وَحِيدًا… وَمُتَطَهِّرًا.
4
مثل الفِيَلة، تَضْطَرِبُ المَرْأَةُ
أمامَ عِظَامِ جِنْسِهَا،
تُحَرِّكُ رَأْسَهَا بِقَلَقٍ،
تَضِيعُ وَتَتَعَثَّرُ فِي أَلَمِهَا.
الهَيْاكِلُ العَظْمِيَّةُ الطَّوِيلَةُ، أَقْنِعَةٌ
قَذَفَهَا البَحْرُ وَعَصْرُ البْلِيسْتُوسِينِ
لِتَنَامَ، مَغْسُولَةً بِالمَاءِ،
حَتَّى تُصْبِحَ صَفَائِحَ مِنْ نُورٍ،
هِيَ جُرْحٌ مَفْتُوحٌ صَامِتٌ،
تَرْفَعُهُ الثَّدْيِيَّاتُ العَظِيمَةُ
بِكُلِّ رِقَّةٍ، بِأَنْيَابٍ
فِي انْحِنَائِهَا وَحُزْنِهَا.
لِأَنَّ الفِيلَةَ، كَالمَرْأَةِ،
تَرْفَعُ عِظَامَ ذَوِيهَا،
وَتَهُزُّهَا بِأَنْيَابِهَا الكَبِيرَةِ،
تُدَاعِبُهَا بِشَغَفٍ وَجُنُونٍ.
مثل الفِيلَة، تَتَغَطَّى المَرْأَةُ
بِالرِّمَالِ وَبِالنَّمْلِ الأَبْيَضِ،
تَرْمِي عَلَى أَضْلَاعِهَا وَظَهْرِهَا
تُرَابَ مَوْتَاهَا، تَتَلَفَّعُ
بِخُشُونَتِهِ اليَابِسَةِ، نَسِيمًا عَاصِفًا
أَوْ لَمْحَةَ زَمَنٍ مُحْتَرِقٍ،
وَتُغَنِّي بُطْءَ أُغْنِيَةٍ
فِي تَرَدُّدِهَا المُنْخَفِضِ، لَا يَسْمَعُهَا
إِلَّا أَقْرَانٌ بَعِيدُونَ، أَزلِيُّونَ.
عِندَمَا تَطْلِي أَسْنَانَهَا بِالعَاجِ،
عَاجٌ بَاهِتُ البَيَاضِ، مَعَيَّنِيُّ الشَّكْلِ،
يُزَيِنُ فَمَهَا وَفَرَحَهَا،
تَنْحَتُ المَرْأَةُ فِيهِ الحُزْنَ
الثَّمِينَ، المُتَحَجِّرَ كَصَّفِيحَةِ،
تَخْتَرِقُ النُّورَ وَتُسَخِّرُهُ لها.
