في تاريخ الفكر، قلة هي الأعمال التي كانت نتاجاً لظروف كتابتها المأساوية، مثل “دفاتر السجن” (Quaderni del carcere) لأنطونيو غرامشي، لكنها في الوقت نفسه تركت أثراً دائماً كهذا على مختلف مجالات العلوم الإنسانية. إن هذه المجموعة من الملاحظات، التي كتبت في صمت وعزلة سجون النظام الفاشي لموسوليني، ليست رسالة منهجية، بل هي مختبر فكري يتحدى فيه أحد أكثر المنظرين الماركسيين إبداعاً في القرن العشرين المفاهيم التقليدية للثورة والسلطة.
يُعدّ المجلدان السادس والسابع من هذه المجموعة نقطة تحول في تطور فكر غرامشي؛ حيث تتحول مفاهيمه الرئيسية من أفكار متفرقة إلى إطار نظري متماسك. هاتان الدفتران ليستا مجرد انعكاسات لتأملات سجين سياسي، بل هما لائحة اتهام عميقة ضد الماركسية الآلية ودليل استراتيجي لفهم وتغيير هياكل السلطة في المجتمعات الرأسمالية الحديثة.
يبتعد غرامشي عن الحتمية الاقتصادية ويلفت انتباهنا إلى مجالات لم تُستكشف قبله إلا قليلاً: الثقافة، والأيديولوجيا، والمجتمع المدني. يُظهر أن هيمنة الطبقات لا تستمر بالقوة والقمع فحسب، بل من خلال إنتاج الرضا واكتساب الهيمنة الثقافية عبر مؤسسات مثل الكنيسة والمدارس ووسائل الإعلام. ومن ثم، فإن النضال من أجل التحرر يجب أن يكون “حرب مواقع” في هذه الخنادق الثقافية.
لفهم عمق وضرورة “دفاتر السجن”، من الضروري معرفة حياة وعصر مؤلفها، أنطونيو غرامشي (1891-1937). غرامشي، الفيلسوف والصحفي وأحد مؤسسي الحزب الشيوعي الإيطالي، شخصية نشأ فكره من رحم العمل السياسي والخبرة المباشرة في الصراع الطبقي. وُلد في جزيرة سردينيا الفقيرة، واطلع عن كثب على الفجوة العميقة بين الشمال الصناعي والجنوب المتخلف في إيطاليا؛ وهي تجربة انعكست لاحقاً في تحليلاته لمسألة “الجنوب” ودور المثقفين.
على عكس العديد من المنظرين في عصره، لم يكن غرامشي مثقفاً محصوراً في برج العاج الأكاديمي، بل كان منظماً سياسياً واستراتيجياً ثورياً. هذا الارتباط الوثيق بين النظرية والتطبيق يمنح مفاهيمه أصالة وقوة لا مثيل لهما. تزامنت ذروة نشاطه السياسي مع وصول الفاشيين إلى السلطة في إيطاليا. في عام 1926، اعتُقل غرامشي، وأصدر المدعي العام الفاشي في المحكمة جملته الشهيرة: “يجب أن نمنع هذا الدماغ من العمل لمدة عشرين عاماً.” لكن التاريخ أظهر أن السجن، وإن أرهق جسده وأدى في النهاية إلى وفاته، لم يستطع إيقاف هذا الدماغ عن العمل.
“دفاتر السجن”، التي كُتبت في ظروف قاسية، مع وصول محدود إلى المصادر وتحت رقابة صارمة من قبل سجاني السجن، هي نتاج هذه المقاومة الفكرية. أسلوبه الغامض والمتعدد الطبقات في الكتابة، والذي يعبر عن المفاهيم السياسية تحت غطاء التحليلات التاريخية والأدبية، كان بحد ذاته استراتيجية للبقاء والمقاومة ضد القمع.
تُعدّ هذه الدفاتر أحد أغنى أجزاء المجموعة في مجال تاريخ الفكر الإيطالي. يبدأ غرامشي هنا مشروعه المهم، أي دراسة الدور الاجتماعي والتاريخي للمثقفين، بجدية. من خلال التمييز بين “المثقف التقليدي” و”المثقف العضوي”، يقدم تحليلاً طبقياً لإنتاج المعرفة. يرى المثقفون التقليديون (مثل رجال الدين والأدباء) أنفسهم مستقلين وفوق الطبقات الاجتماعية، لكنهم في الواقع حماة الوضع الراهن وأيديولوجيا الطبقة الحاكمة. في المقابل، ينشأ المثقف العضوي من صميم طبقة اجتماعية محددة (سواء كانت برجوازية أو بروليتارية) وتتمثل مهمته في تنظير النظرة العالمية وتنظيمها واكتساب الهيمنة لتلك الطبقة. كما تُناقش في هذه الدفاتر بالتفصيل موضوعات أخرى مثل التأمل في الأدب الوطني الشعبي وأسباب التخلف الثقافي في جنوب إيطاليا. يُظهر غرامشي من خلال هذه التحليلات كيف يمكن أن تكون الثقافة أداة للهيمنة أو ساحة للمقاومة.
• تأثير دفاتر السجن ونقده
لقد أثرت “دفاتر السجن”، وخاصة المجلدين السادس والسابع، تأثيراً عميقاً ودائماً على المشهد الفكري العالمي منذ نشرها الكامل بعد الحرب العالمية الثانية. وقد لاقى هذا العمل إشادة واسعة بين المنظرين الماركسيين واليسار الجديد، باعتباره مراجعة جوهرية وإبداعية للماركسية.
ومع ذلك، فإن أفكار غرامشي لم تسلم من النقد. فبعض النقاد، خاصة من وجهات النظر الليبرالية أو المحافظة، فسروا استراتيجية “حرب المواقع” لديه على أنها توجيه لإضعاف المؤسسات الديمقراطية تدريجياً من الداخل. وهاجمه آخرون، من منظور الماركسية الأرثوذكسية، بسبب “تركيزه على الثقافة” وإهماله للصراع الطبقي المباشر والدور الاقتصادي. كما أن طبيعة “الدفاتر” المتفرقة والملاحظات أدت دائماً إلى غموض وإمكانية تفسيرات متضاربة لمفاهيمه؛ فعلى سبيل المثال، لا يزال الحد الفاصل الدقيق بين المجتمع المدني والدولة في كتاباته محل نقاش.
• أهمية دفاتر السجن
على الرغم من هذه الخلافات، فإن أهمية “دفاتر السجن” لا يمكن إنكارها. هذا العمل ليس دليلاً ثورياً بأسئلة وإجابات جاهزة، بل هو صندوق أدوات مفاهيمي للتفكير والعمل. لقد خلق غرامشي، من قلب أحلك أيام الفاشية، إطاراً نظرياً للمقاومة الثقافية والسياسية يبدو اليوم، في عصر هيمنة وسائل الإعلام والأيديولوجيات الاستهلاكية، أكثر إلهاماً وضرورة من أي وقت مضى. “دفاتر السجن” ليست وثيقة تاريخية؛ إنها فكر حي وديناميكي لفهم تعقيدات السلطة في العالم المعاصر.
