ربيع المدخلي والسلفية الجديدة || حين تتحول العقيدة إلى وظيفة في خدمة المستعمر ونواطيره المحليين.

متابعة | مدار 24

رحل يوم أمس في المدينة المنورة بالسعودية الشيخ ربيع بن هادي المدخلي عن عمر ناهز 92 عامًا، الرجل الذي ترك وراءه إرثاً ثقيلاً لا يمكن للأمة الإسلامية أن تمضي في طريقها دون أن تُعرّي حقيقته وتُفكك خطابه. هو رجلٌ عاش حياته يحارب كل حركة تحرر، ويُكفّر كل مقاوم، ويُبدّع كل مفكر، ويُحرِّم الثورة على الظلم، لا يُمكن أن يُعدّ من أهل الإصلاح أو من دعاة الهداية الإسلامية الأصيلة.

لم يكن الشيخ ربيع حالة فردية، ولا مجرد فقيه متشدد. بل كان تجسيداً لمشروع كامل، رُبِّيَ بعناية داخل أروقة السلطة السعودية، وتحوّل إلى أداة دعوية وأمنية تخدم أنظمة الخليج البترودولارية، وتمتد وظيفته لتشمل ضرب مشروع الأمة، وتشتيت وعيها، وتجريم نضالها ضد الاحتلال والاستبداد.

في قلب هذا المشروع، كان الدين يُعاد تشكيله ليصبح حارساً للأنظمة، لا رافعاً لراية العدل. ويرتّب فقهياً ليصير جهازاً بيروقراطياً لضبط الغضب الشعبي، لا رسالة سماوية لتحرير الإنسان.

• من الدعوة النقية إلى خدمة الطغيان

السلفية، كما نشأت في بداياتها المبكرة في القرن الثامن عشر، كانت دعوة لتصحيح العقيدة ومحاربة الانحرافات والبدع. لكنها مع مرور الزمن، ومع احتضانها من قبل الحكام والمنظومات السياسية، خضعت لتحوّلات جذرية. فبدلاً من أن تكون أداة لإحياء الإسلام، تحوّلت إلى أداة لحراسة الأنظمة، وتثبيت حكم العائلات المالكة، وتبرير القمع، وتجريم المعارضة، وتشويه أي مشروع سياسي تحرري ضد العدو الأجنبي.

جاء ربيع المدخلي كأنقى تمثيل لهذا التحول. لم يكن فقيهاً مجدّداً، ولا عالماً مجتهداً، بل موظفاً فكرياً يؤدي وظيفة: منع الوعي، ووأد التغيير. كل خطبه، وفتاواه، وكتبه، تدور حول فكرة واحدة: الطاعة المطلقة للحاكم، وتحريم أي نقد أو مقاومة.

أفتى بحرمة المظاهرات، وحرمة الانتخابات، وحرمة الثورات، وحرمة الجماعات، وحرمة الإصلاح. ورفع شعار “لا سياسة في الدين”، بينما كان يغرق حتى أذنيه في تسييس الدين لخدمة السلطة.

• الغرب يحتضن هذا الإسلام

ليست مصادفة أن الولايات المتحدة وبريطانيا تبنّتا الخطاب السلفي المدخلي بعد الحادي عشر من سبتمبر، واعتبرتهما “الوجه الإسلامي المعتدل” الذي يمكن دعمه وتمويله لمواجهة ما أسموه بالإسلام السياسي الراديكالي، إسلام المقاومة والتحرير.

هذا “الإسلام المدخلي” لا يُهدّد مصالحهم. بل هو يُبرِّر وجودهم، ويُحرِّم قتالهم، ويُهاجم من يقاومهم. لذلك فإنهم دعموه إعلامياً، وفتحوا له المنابر، واستخدموه في المعتقلات والسجون لإعادة “تأهيل” المعتقلين السياسيين.

وهكذا، تحوّلت السلفية إلى إسلام نيوليبرالي جديد: بلا مقاومة، بلا وحدة، بلا مشروع سياسي، بلا روح. إسلام يؤمن بالأمن قبل العدل، وبالحدود القطرية قبل الأمة، وبالملك قبل الإنسان

ثم جاءت فتاويه الصهيونية بشرعية الاستعانة بجيوش أمريكا وحلف الناتو، وشرعية دخولهم لأرض الحرمين وبناء قواعد عسكرية أجنبية لهم، وشرعية القتال معهم ضد الجيش السوفييتي في الثمانينيات ثم الجيش العراقي في التسعينيات. فعل هذا دون خجل أو حياء أو عقيدة سليمة، بل خدمة لسيده الناطور الخليجي والسيد الأعلى الأمريكي.

• ليبيا: المختبر الحي للمدخلية

في ليبيا، برز هذا التيار بأوضح صوره وأكثرها فجاجة. بعد سقوط الدولة السيدة المقاومة عام 2011. تدفقت الأموال والأفكار من الخليج، وتم إنشاء تيار سلفي مدخلي مسلّح غريب عن ثقافة الشعب الليبي. قاتل المدخليون إلى جانب خليفة حفتر، واحتلوا المساجد، وأطلقوا فتاوى التكفير والتفسيق ضد كل من يشارك في مشروع استعادة ليبيا من نكبة التبعية، أو يطالب  بإقامة دولة سيدة ديمقراطية بعيداً عن مشروع البترودولار الخادم للغرب.

في بنغازي ودرنة وسرت، تحوّل الدين إلى جهاز مخابراتي. خُطَب الجمعة صارت نشرات أمنية. والدعاة صاروا ضباطاً برتب شرعية. والعقيدة صارت موجهة لخدمة غرفة عمليات أبو ظبي.

قاتل المدخليون في سرت إلى جانب الكتيبة 604، وشاركوا في الانقلابات الفكرية والعسكرية معاً. حرموا الليبي من الحلم، من الثورة، من السعي للحرية، بل من حتى الدعاء على الظالمين.

بل إنهم يتابعون صفحتي هذه، ويعتقلون من يعلّق من الأصدقاء والمتابعين ويرمونهم في السجون! وهذا إجرام لم تفعله معي حتى ميليشيات طرابلس وعصاباتها المسلحة! (إلى حد الآن على الأقل)

•إسلام يُحب الاحتلال ويكره المقاومين

هذا هو قلب العقيدة المدخلية: أن تكره المقاوم وتحب المحتل. أن ترى في المظاهرة فتنة، وفي القاعدة العسكرية الأمريكية نعمة. أن تصف الثوار بالخوارج، وتُسمي الحاكم القاتل “ولي أمر”. وأن تحوّل الدين من وقود للحرية إلى سيف في يد المستبد.

• ضد المقاومة، خدمة لأمريكا

ربيع المدخلي لم يكن يعادي حزب الله وإيران بسبب تحفّظات شرعية أصيلة، بل ببساطة لأنهم شيعة، ولأنهم يرفعون راية المقاومة ضد العدو الصهيوني، وهو يرفض أن يُرفَع السلاح إلا بإذن “ولي الأمر”، أي الناطور المحلي المتحالف مع أمريكا. لكنه لم يكتف بذلك، بل هاجم حماس أيضاً، رغم أنها حركة سنّية، لأنها تُقاوم الاحتلال بالسلاح، وتتحرك أحياناً خارج طوق الطاعة الخليجية البترودولارية.

وهكذا، تبيّن أن عداوته لا تقوم على طائفية فقط، بل على عداء عميق لأي مشروع تحرر إسلامي، مهما كان مذهبه. فالشيخ ربيع لم يكن يوماً مع المقاومة، بل مع تفتيت الأمة إلى طوائف متناحرة تُحرَّم عليها البندقية وتُفرَض عليها الطاعة. خطابه لم يكن إلا أداة “فرّق تَسُد” بلباس ديني.

إن فكر ربيع المدخلي هو عكس تماماً ما جاء به النبي الكريم، الذي بُعث ليكسر قيود الجهل والظلم، ويقيم العدل بين الناس، ويحرر الإنسان من الخضوع لغير الله.

أما ربيع، فقد جعل من الدين سلطة لقمع الناس، لا لتحريرهم. حوّل “منهج السلف” إلى سجن فكري، لا مدرسة نهضة.

• ما بعد المدخلي: تطهير الدين من التوظيف

برحيل هذا الرجل، تبدأ فرصة لتفكيك هذا الخطاب، لا لتكفيره الشخصي، بل لتعرية البنية السلطوية التي غذّت خطابه وجعلت منه أداة لخنق الأمة.

اليوم، يجب أن نستعيد الإسلام كقوة تحرر، لا كشرطة فكر. كرسالة مقاومة، لا كعُدة ترويض. كدين للعدالة والمستقبل، لا كوسيلة للحفاظ على حكومات ما قبل التاريخ.

ربيع مات. لكن خطابه باقٍ ما لم نكسر السلسلة التي صنعته: الهيمنة الأمريكية، والمال الخليجي، والفتاوى السلطوية، والسكوت الجماعي.

علينا أن نعيد العقيدة إلى موقعها الطبيعي: بوصلة تحرير لا صفارة إنذار لخدمة الطغاة. وأن نُحيي من جديد الحلم الإسلامي الذي يجعل من مقاومة المحتل فرضاً، ومن نصرة المظلوم واجباً، ومن كلمة الحق عند سلطان جائر أعظم الجهاد.

مقالات قد تعجبك
اترك تعليق

لن يتم نشر أو تقاسم بريدك الإلكتروني.