مهدي أخوان ثالث عبقري القصيدة الفارسية الحديثة

ترجمة وتقديم: محمد الأمين الكرخي

• رحلة “م. أُمید” : من مدينة مشهد إلى سماء الشعر

وُلِد الشاعر مهدي أخـوان ثالث في 29 فبراير 1929م بمدينة مشهد المقدسة. كانت والدته “مريم” ووالده “علي” قد نزحا إلى مشهد قبل سنوات من قرية “فهرج” بمدينة يزد، حيث عمل والده عطارًا في مجال الأعشاب الطبية. عانى أخـوان ثالث عند ولادته من فقدان البصر في إحدى عينيه، لكنه استعاد بصره بفضل العلاج الذي قدمه والده والدعوات التي رفعتها والدته إلى الإمام الرضا (ع).

أنهى أخـوان ثالث دراسته الابتدائية والمتوسطة في مشهد، وتخرج من المعهد الصناعي. في عام 1948م، غادر مشهد متوجهًا إلى العاصمة طهران، حيث بدأ مسيرته المهنية معلمًا في إحدى مدارس ضواحي طهران.

• حياة مضطربة : بين المعلمة والصحافة والسجن

لم تقتصر حياة أخـوان ثالث على التدريس، بل امتدت لتشمل العمل الصحفي والمشاركة في الأعمال السينمائية والبرامج الإذاعية. تولى لفترة منصب مشرف على البرامج الأدبية، وبدأ دبلجة الأفلام الوثائقية في استوديو “كلستان”. وفي عام 1953م، عقب انقلاب 28 مرداد، اعتُقل وسُجن مع العديد من المثقفين، لكنه سرعان ما أُطلق سراحه.

في عام 1950م، تزوج ابنة عمه “إيران أخـوان ثالث”، وأثمر هذا الزواج عن ثلاث بنات هن: لاله، لولي، وتنجسل، وثلاثة أبناء: طوس، زرادشت، ومزدك علي. من أقسى الأحداث التي طاردت الشاعر في تلك السنوات، وفاة اثنين من أبنائه؛ حيث توفيت ابنته “تنجسل” عام 1963م بعد أربعة أيام من ولادتها، وغرقت ابنته الكبرى “لاله” عام 1974م عن عمر يناهز العشرين عامًا في نهر كرج.

• عزلة ما بعد الثورة والرحلة الأخيرة

بعد هذه الفجائع، وخلال السنوات التي تلت الثورة، اعتزل أخـوان ثالث الحياة العامة وانغمس في خلوته. كان النشاط الأبرز له في تلك الفترة رحلته إلى ألمانيا في آخر عام من حياته. بدعوة من دار الثقافة الألمانية، سافر برفقة زوجته والشاعر “محمد رضا شفيعي كدكني” إلى فرنسا، الدنمارك، السويد، النرويج، وإنجلترا، حيث ألقى قصائده في المحافل الأدبية التي نظمها محبو الثقافة الإيرانية.

أخيرًا، أسدل الستار على حياة مهدي أخـوان ثالث في 26 أغسطس 1990م في مستشفى “مهر” بطهران، ودُفن جثمانه في مدينة طوس، بجوار ضريح الفردوسي، وكأنما عاد إلى جذوره الفارسية العريقة.

• شاعرية “م. أُمید” : من القصيدة الفارسية إلى الشعر “النيمايي” الحديث

نشأ مهدي أخـوان ثالث منذ طفولته على حب الشعر والأدب، ويبدو أن ذوقه الشعري ورثه عن والدته. بدأ تعلم العزف على آلة التار في طفولته، وكان دائمًا مولعًا بالموسيقى الإيرانية الأصيلة، ويظهر هذا الولع جليًا في أشعاره. كان أخـوان ثالث يتخذ من “م. أُمید” تخلصًا شعريًا له. وعن هذا اللقب يقول: “في مشهد، وخلال سنوات شبابي، حين بدأت للتو في نظم الشعر، دُعيت إلى جمعية أدبية كان يرأسها أستاذ يدعى ‘نصرت منشي باشي’. كلما قرأت قصيدتي، كان يسألني: ما هو تخلصك؟ كان يرى أنه من الواجب على كل شاعر أن يكون له تخلص خاص به. ولأني لم يكن لدي تخلص، اختار لي الأستاذ منشي باشي اسم ‘أُمید’ لأتخذه تخلصًا لي.”

في البداية، اشتهر أخـوان ثالث ببراعته في نظم القصائد على الطريقة الخراسانية، والمثنوي، والغزل. ومع نشر مجموعته الشعرية الأولى “أرغنون” عام 1951م، كشف عن قوته وتمكنه في نظم الأشعار الفارسية الكلاسيكية. لكن لقاءه مع نيما يوشيج كان نقطة تحول مفصلية في حياته، حيث تغير مساره الشعري واتجه إلى نظم الأشعار “النيمايية” الحديثة، ونجح في إيجاد أسلوب جديد ومستقل في هذا القالب.

كتب أخـوان قصائده بلغة بسيطة للغاية ضمن قالب الشعر الحر، وعبر فيها عن مفاهيم إنسانية عميقة. وفي عام 1955م، أصدر أخـوان مجموعته الشعرية الثانية “زمستان” (الشتاء)، والتي تعد تحفته الشعرية الخالدة. في هذه المجموعة، تتجلى بوضوح ميوله إلى أسلوب “نيمايي” وابتكاراته.

• عبقرية أخـوان : مزج الأصالة بالمعاصرة

في “زمستان”، يظهر أخـوان، بالرغم من إلمامه بالأسلوب الكلاسيكي للشعر الفارسي، خاصة الأشعار الخراسانية، ذكاءً في إظهار ميله إلى طريقة نيما يوشيج، مع الحفاظ على ارتباطه الوثيق بالأشعار الكلاسيكية. تتسم أشعار أخـوان بخلفية اجتماعية، فهي انعكاس لحياة الناس في عصره. كما تحمل أشعاره نبرة ملحمية ممزوجة بصلابة وثقل الشعر الخراساني، وفي الوقت ذاته تتضمن تركيبات “نيمايية” مبتكرة.

إن فن أخـوان الرئيسي يكمن في هذا المزيج الفريد بين الشعر القديم والأسلوب “النيمايي” الحديث، مما جعله صاحب أسلوب خاص مؤثر للغاية في هذا المجال. كانت أشعار أخـوان في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي بمثابة نافذة على التحولات الفكرية والاجتماعية في عصره، لدرجة أن العديد من المثقفين والفنانين في ذلك الوقت اكتسبوا رؤى جديدة من خلال أشعار أخـوان.

يتذكر معظم عشاق الشعر مهدي أخـوان ثالث (م. أُمید) ببراعته وتميزه في الشعر الحر، الذي كان نوعًا من الاستكمال لمسار نيما يوشيج، وربما الشاعر الوحيد الذي كان في مستواه. لكن من الجيد أن نعرف أن أخـوان، قبل ميله إلى الشعر “النيمايي”، كان يعمل في مجال الشعر الكلاسيكي لفترة طويلة، وترك أعمالًا جيدة في جميع القوالب الكلاسيكية تقريبًا.

في هذا المقال، نتناول غزلًا كلاسيكيًا لأخـوان، وهو مثال جيد على أن الغزل في العصر الحديث لا يزال قادرًا على أن يكون حيًا ويتنفس، حتى في شكله القديم!

وبينما اشتهر أخـوان في أشعاره باهتمامه بمواضيع ومفاهيم أسطورية ودمج الفضاء الملحمي بالنقد الاجتماعي، يُظهر في هذا الغزل القصير المكون من ستة أبيات نجاحه أيضًا في الفضاء الغزلي العاطفي البحت.

يستخدم أخـوان لغة كلاسيكية في قالب كلاسيكي، ولكن على الرغم من أن معظم الرموز والإشارات في عمله كلاسيكية أيضًا، فإنه يوظف نوعًا جديدًا وفريدًا من طبقات الحب الحديثة (في وقته، أي في ثلاثينيات القرن الماضي).

وإذا أمكننا مقارنة أشعار أخـوان الملحمية والاجتماعية بأشعار الفردوسي وشعراء الدستور على التوالي، فإن فضاءه الغزلي يضاهي شعرية سعدي الخاصة، التي تجمع بين الرقة اللغوية والحزن الممزوج بالانفعال والعجز.

• نص القصيدة :

تعال لزيارتي كل ليلة، في هذا العزل المتوحد، المعتم، الشبيه بالإله

قلبي يضيق.

تعال أيها النور، يا أشد نورًا من الابتسامة

اجعل ليلي نهارًا تحت غطاء الظلام

قلبي يضيق.

تعال وانظر، كم أنا حزين وغريب

في هذا الإيوان المسقوف، وهذا البحيرة الممتلئة

لقد وجدت سعادة بسيطة مع هذه السنونوات والأسماك

وهذا اللوتس الأزرق وهذا البحيرة المضيئة بضوء القمر

تعال يا شريكي في الذنب في هذا البرزخ

يا جنتي وناري أيضًا

تعال لزيارتي، يا شريكي في الذنب، يا من هو لطيف معي

فإن هؤلاء سرعان ما يغرقون في نومهم البريء

وأبقى أنا وحدي مع ظلم الأرق

في هذا الإيوان المسقوف المهجور

حلّ الليل، ومنذ زمن طويل في بحيرتي

نامت تلك الزهرة الزرقاء والأسماك والسنونو

تعال الليلة، فكم أنا مظلم ووحيد.

مقالات قد تعجبك
اترك تعليق

لن يتم نشر أو تقاسم بريدك الإلكتروني.