أتذكرُ غرفتكِ
حين أسدلتِ الستارة فأتيح لي
سماع ناقوس كنيسة، وألاعيب لغوية
لباعة بالونات وأحذية
أطفال وسكاكين..
أوليتُ الأزهار الاصطناعية
التي قمت بتصفيفها على عتبة النافذة
اهتماماً زائفاً،
ألمسها برفق مخافة أن تذبل
كأزهار حية
ثم أغرقها بالماء لأتأكد من أنها ليست حية
بالكامل،
لكن لمَ تلتمع
بما أن دموعها زائفة؟
لمَ أجد لها العذر بمواساتي
بما أن فجيعتي لن تدوم طويلاً؟
أتذكرُ غرفتك
وأنت تغادرين المدينة بأكملها،
هل هي غرفة مهجورة الآن
حتى دون أن نشملها بنظرة وداع رحيمة؟
بلادنا الصبورة على كلّ ما يثير الاشمئزاز
لمَ تبدو عجولةً للغاية
حين يتعلق الأمر بأن تمنحنا
وقتاً كي نبكي؟
▪️▪️▪️
لن يبقي الحبُ للعديد من البشر
قلوباً أو شفاه أو عيوناً تنجز عملها
بسكون،
سيتيح لهم الاحتفاظ بأذرعة صالحة
للإشارة إلى غابة توشك أن تحترق،
سيبقي لهم أكتافاً نحيلة
لإسناد حقائب يد،
قصائد ينسبونها لأنفسهم
لشدة ما تبدو أنها لهم،
لن يبقي الحب لأحد نظرة هانئة
لظلال مكسوة بالعشب، وأرضاً مجهولة لقدم.
▪️▪️▪️
أرحب بأن أكون مولوداً
في بابل أوبغداد
لكن هذا ما لم تهبني إياه الصدفة
ولعل ذلك لم يحدث لأظلّ
حالماً بأن أكون ابن إحدى
المدينتين
لكني مثل حشود كثيرة من البشر
أنسب نفسي مرة ثانية مجدداً
و أنتصر على الجهل بمصير مدينتي الصغيرة.
أقول هذا الآن
بمرارة دامية، داخل المرء مدن يود أن يولد بها
مرة ثانية،
في الهندسة أو الرياضيات التطبيقية
يصعب تحقيق ذلك
أما في القصائد الأليمة
فيمكن أن يحصل الأمر مرة وحيدة
وإلى الأبد.
▪️▪️▪️
نادراً ما يزعم وطنيٌّ بأنه سيموت
من أجل بلدته
ويموت من أجلها بالفعل،
إنه يموت لكن ذلك
يحدث فجأة
كحل أخير أو محاصرة.
نادرا ما يعدُ وطني محبيه
بأنه سيوفر لهم لغة نظيفة
لإبداء آرائهم دون أن يعرضهم
ذلك لجدع أنوفهم،
الوطني الهمجي كتربة عفنة
ذلك الذي يفكر بحلول جذرية
حين يتعلق الأمر بتشذيب الأزهار.
▪️▪️▪️
آخر مرة شوهد يقرأ ممسكاً
بيده الكأس و الدفتر
و مسدس اللعب..
كان ذلك قبل السابع من أكتوبر.
آخر مرة شوهد فيها
بسروال أبيض
يدندن على الشاطئ
مبتهجاً بأجنحة النوارس ويديم
إنحناءهُ لأرض مكسورة
كان ذلك قبل السابع من أكتوبر.
آخر مرة سمع وهو يتلو
آيات من المصحف ثم يعقبها
ببيتي شعر للمتنبي
ويصحح لنفسه ما يخطئ به
كان ذلك قبل السابع من أكتوبر.
آخر مرة شوهد فيها يلعب
دور الحكيم الذي يثبت أقدام المهاجرين
بأكواخهم،
كان ذلك قبل السابع من أكتوبر أيضاً.
إثر ذلك فقد برودة دمه، لم تعد ابتسامته
تعني شيئاً ومن النادر أن يضيء غرفته..
جاء السابع من أكتوبر
كما لو أنه يترصدنا، كما لو أننا صغاره
الذين لن يغفر لهم
حتى يموتوا جميعا،
السابع من أكتوبر
نحن معه ونحن ضده في الوقت نفسه
لأننا في النهاية لا يمكن أن نبدو فلاسفة
في إعداد خطة الهرب.
▪️▪️▪️
خطر للفم أن يصير عيناً
مع ما في الدور من مشقة
كان ذلك يعني أن الصمت
سيكلفهُ جفاف دموع تهبه الدفء
و توصلهُ إلى البيت قوياً بما يكفي.
أما الثرثرة فليست
سوى إيداع خطابات في بريد مهجور.
الفم وهو يحاولُ استعارة شيء
ظل يهدر كالنبع دون ضجيج
فيما لم ينجح الأحياء الذي يسمعونه
بتجفيف الكلمات.
▪️▪️▪️
آكل في نهاري ما أتذكر
أنه موفور في الثلاجة
وما أنساه يفوتني حتى النهاية
ثم يجيء الليل فأمنح نفسي
فرصة التمرن في الجم
وصنع جسد بعضلات بطن
و أكتاف بارزة
و قوام مثل شخوص الإعلانات..
على أن ما أنساه في الثلاجة
ينقذ وزني من غرامات زائدة
وفي المحصلة فإن جسدي ليس سوى تمرين للنسيان.
▪️▪️▪️
شعراء مشهورون و شعراء مغمورون
ثم هناك نوع ثالث أنا منهم
هو من يود أن يردد باعة
الأزهار الذابلة في الإشارة
اسمه مراراً حتى يُنسى.
▪️▪️▪️
بمرور الزمن يفكر الشعراء
بشراء بنادق
و تدريب أنفسهم على إطلاق
عيارات نارية في الريح.
يظنون أنهم خلقوا من أجل ملاقاة عدو
ثم إن العدو لا يجيء
أو لعله يجيء بأقنعة عديدة
حتى تصدأ البنادق..
بمرور الزمن يميل الشعراء
إلى اعتبار أنفسهم مقابر مدن عابرة،
أكثر من أي وقت
يهبون قراءهم عظاماً تالفة
الآن أكثر من أي وقت
توقدُ القصيدة مصابيح البيت الموحش
لقراء موتى.
___________________________________
* عامر الطيب : شاعر وكاتب وصحافي عراقي، مواليد 1990، اصدر عدد من المجموعات الشعرية، منها “يقف وحيدا كشجرتين” و “البقية في حياة شخص آخر” و “أكثر من موت بإصبع واحدة” و “نبلاء وموتى وحزينون” و “الأفعال الماضية الى الأبد” ترجمت أشعاره للغة الفرنسية، الإسبانية، الكردية، والفارسية.
