كان الفجر ما يزال معلقًا فوق ضفاف الفرات، حين ظهرت إنانا. ظلها انعكس في الماء أولًا، طويلًا ومرتجفًا، ثم خرجت هي من بين الضباب، تحمل قيثارة من قصب. لم يكن في وجهها ملامح الملوك القدامى، بل غبار طويل وهدوء امرأة عادت تبحث عن شيء ضاع منذ زمن.
سارت بخطوات خفيفة حتى بلغت التلال. التربة هنا بدت ساكنة، لكن الهواء كان يختزن أنينًا لا يسمعه إلا قلبها. جثت على ركبتيها، غرست كفها في التراب. لحظة صمت… ثم ارتجّت الأرض.
انشقّ التراب كاشفًا عن يدٍ نحيلة تمسّكت بالفراغ. ارتفع أنين متقطع، وخرجت امرأة بوجه نصفه مطموس. بصوت مبحوح تمتمت:
ـ “أحببت… فخنقتني أمي بيدها.”
لم تنتظر إنانا. مدّت يدها وأمسكتها، فتناثر التراب عن جسدها مثل غبار قديم.
من شقّ آخر خرجت امرأة بطنها منتفخ، لكن جنينها لم يتحرك قط. همست وهي ترتجف:
“هربتُ من الضرب… ثم دُفنتُ في الليل هنا .”
ثم أخرى، كتفاها مثقلتان بحجرين كأنهما حكم، قالت:
“لم أنجب… فسمّوني عارًا.”
أجساد كثيرة خرجت، كل واحدة تحمل جرحها كختم. لم يكن صراخًا جماعيًا، بل همسات متفرقة، تتناثر في هواء الفرات مثل شظايا حكايات.
إنانا لم ترفع صوتها. كانت تمرّ بينهن، تمسح الغبار عن وجهٍ، تفكّ قيدًا من معصمٍ، ترفع رأسًا محنيًا. لم تقل: “أنا العدالة”، بل اكتفت بأن تنظر في العيون المطموسة وتقول كلمة واحدة:
“قومي.”
شيئًا فشيئًا، لم تعد التلال صامتة. صارت وجوهًا شاخصة، ضفائر سوداء تتدلّى كأنهار، وأجساد تنفض التراب عن نفسها وتنهض. ومن بعيد، بدت الناصرية كمدينة نائمة يقترب منها موكب غامض.
عند أول شارع، ارتجفت النوافذ. انكسرت مرآة في بيتٍ قديم. كلب أخذ يعوي. رجل أسقط قدحه حين لمح ظلّ النساء يمر. لم يكن غناءً بل خفق أقدام، كأن الأرض نفسها تستعيد أنفاسها.
امرأة رفعت يدها الملطخة بالتراب نحو السماء. تناثر الغبار من كفها، وتحول إلى حبوب قمح مضيئة. أخرى دفنت وجهها في كف إنانا، فاندلعت من عينيها نجمتان صغيرتان.
ابتسمت إنانا، ثم خطت ببطء نحو ضفة النهر. لم تصرخ، لم تخطب. وقفت لحظة، والشعاع الأبيض التفّ حول جسدها ورفعها بخفة. ذابت في ضوء الفجر، وبقي أثرها يطفو على الماء كوشم لا يمحى.
ومنذ تلك الليلة، إذا مرّ أحد قرب التلال عند الغروب، يسمع همسًا نسائيًا يتردّد:
“لن نُدفن بعد اليوم… لن نصمت بعد اليوم.”
