رحيل الفنان العراقي مكي حسين || نحات صاغ عذابات الوطن في منافي البرونز

متابعة | مدار 24

 

برحيل مكي حسين، يفقد الفن التشكيلي العراقي واحداً من أبرز وجوه “الجيل الثاني”، الفنان الذي طوّع المعادن الصلبة لتنطق بآلام الإنسان المحاصر، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله الألماني يواجه مصيراً مجهولاً.

في لحظة تراجيدية تعكس مأساة المثقف العراقي في الشتات، غيّب الموت النحات مكي حسين بشكل مفاجئ في غربته الطويلة. لم يكن مكي مجرد فنان عابر، بل كان شاهداً بصرياً على تحولات وجدانية وفكرية عميقة، صاغها عبر عقود من البحث المضني عن “الشكل” الذي يجسد الهوية والحرية.

▪️فلسفة الجسد المكبّل

تميزت تجربة مكي حسين، المولود في البصرة عام 1947، بقدرة استثنائية على جعل “البرونز” قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول “الرجل صاحب الجناح”، انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع “الجسد المحاصر”. منحوتاته لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي “أجساد منتزعة من عذابات الضحايا”، كما وصفها الناقد عادل كامل، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته.

استطاع مكي، الذي تتلمذ على يد الرواد المؤسسين وتخرج في معهد الفنون الجميلة عام 1967، أن يمزج بين “ديالكتيك الذاكرة” و”روح العصر”. لم يكتفِ بعرض أعماله ككتل صامتة، بل نفخ فيها طاقة تجعل المشاهد يشعر بحركتها، ووميضها، وحتى أصواتها المكتومة.

▪️الفن كفعل مقاومة

اتسم المسار السياسي لمكي حسين بالوضوح والصلابة؛ فقد كان فنه صدىً لمواقفه الوطنية. في عام 1979، غادر العراق مع اشتداد كابوس القمع، لكن الوطن ظل يسكن إزميله. ويبرز عمله الشهير “صرخة من عمق الجبال”، الذي عرضه في لاهاي، ضمن فعاليات مهرجان ميزوبوتاميا الثقافي الدولي كإدانة فنية صارخة لمجزرة “بشتاشان” ضد فصائل الأنصار في كردستان.

ولم يتوقف هذا الالتزام عند حدود الذاكرة، بل امتد ليشمل الرفض القاطع لاحتلال العراق وتدميره، وهو ما تجسد في مجموعته الأخيرة التي حملت عناوين مثل “انتفاضة مقطوعي الرؤوس” و”رعب الحرب”. لقد كان مكي يرى في النحت وسيلة لإضاءة “الجرح السري” عند الكائنات والأشياء.

▪️إرث في خطر

بينما ينعى الوسط الثقافي رحيل مكي حسين، تبرز اليوم قضية ملحة تتعلق بمصير مشغله في ألمانيا، الذي يضم مئات، وربما آلاف المنحوتات والمشاريع الفنية. إن الحفاظ على هذا الإرث ليس مجرد وفاء لصديق أو رفيق، بل هو ضرورة وطنية لحماية جزء أصيل من الذاكرة التشكيلية العراقية التي تشكلت في المنافي.

رحل مكي حسين وحيداً، لكن تماثيله ستبقى مألوفة وجسورة، تسير في طرقات الزمن، تذكرنا دائماً بأن الفن الحقيقي هو ذلك الذي يزيح الأقنعة الكاذبة ليكتشف “ما سيبقى من الإنسان”.

مقالات قد تعجبك
اترك تعليق

لن يتم نشر أو تقاسم بريدك الإلكتروني.