« وكم مرّة تجنّحتُ ، ورحتُ أطيرُ مثل ﺇيكاروس . فقدَ جسمي ثقله ، وارتفعَ في الفراغ . ما عاد صوت المغنّي الأعمى يصلُ إلى مسامعي . إذ تأبّط كمانه ، وغاب عن الأنظار وهو يسيرُ في الأزقة المعتمة معتمدا على يديه . وتهدﺃ ساحة الأرواح الميّتة . لقد حلّ المساء في مراكش»
نديم غورسيل ، « حبيبتي استانبول »، ص117
(1)
في مراكش ، ثمّة دائما رجلٌ غريب سوف يصلُ نهارا إلى ساحة ” جامع الفنا ” ، وسيقف في حلقة ” أولاد الغيوان “، التي يقُودها عازف ” هجهوج ” . العازف ذاته ، الذي قبل أن يستهلّ الضرب في مناكب الموسيقى ، سيسدل يده إلى الأسفل ، كإشارة صريحة وغير منتظرة إلى انتباه أعضاء الفرقة، أنّهُ سيرتجل في البداية عزفا منفرداً . وفعلا ، بمجرّد ما سيتسلّم مقاليد آلته سيعزف ببراعة استثنائيّة ،كما لم يعزف في حياته قط . سيعزفُ بجماع أعصابه وقصارى وجدانه . سيعزف مقامات لا يعرفها ، وأوزانا لم يتعلّمها . سيعزف حتّى ينشر غطاء سميكا من الرهبة والصمت والشغف في شتّى ما يحيط به . سيبذلُ ما في وسع العزف إلى درجة سيدخل فيها جميع الحضور إلى غيابات وغياهب نفق طويل ؛ طويل.. طويل من ظلماتهم الداخليّة ، وسيتمنّون في قرارة أعماقهم أن لا تتوقّف نوتاته أبدا ، لأنّ على مشارف كلّ مقطع موسيقيّ كان يلفح أرواحَهم بصيصُ نور في آخر ذلك النفق ؛ النفق.. النفق الطويل . سينقطعُ حسّ الموسيقى ، وستضجّ الحلقة بوابل من التصفيق والنشوة ، تحديدا تلك النشوة ، التي تندلع في الوجوه غبّ لقاء النفس بنفسها بعد ضياع طويل ، وعقب زمن غير محسوس لا ختامَ له .
جميعُ رواد الحلقة كانوا يعلمون ما الذي حدث ؛ وحدَهُ، فقط ، الرجل الغريب ( الذي كان يُدعى بول) لن يعرف أبدا أنّ العازف كان أعمى ، أنّ ” الهجهوج ” كان بلا أوتار ، وبأنّ الفرقة لم تكن موجودة أصلا !
(2)
في مراكش ، ثمّة دائما رجل غريب سوف يصلُ مساء إلى ساحة ” جامع الفنا ” ، وسيقف في حلقة ” أولاد سيدي ﺁحماد وموسى “. ستدهشهُ بناية بشريّة هائلة أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء شيّدها ثلاثون بهلوانيّا بأجسادهم الأكروباتيّة المثيرة شبه العارية ، وسيتّعظ بالصمت الذي يُهيمن على حواس كافّة متابعي العرض ، وهم يرمقون ، بإعجاب وترقّب، طفلا صغيرا طفق يقتبس الإيقاع، بواسطة أطرافه النحيلة والمشدودة كالأوتار ، من هدي دويّ الطبول الأمّارة بأداء واجب الرشاقة القصوى . سيبدأ الطفل الصغير ببدنه المسكوب في قلق المهارة ، جيئة وذهابا ، صعودا ونزولا ، كما لو كان يراوغ ظلّه إلى ما لانهاية داخل مضمار الأبديّة ، في توقيع دورات صغيرة متناسقة لها وقع وخز الإبر فوق الأرض ، قبل أن يوطّد عزم الخفّة ، الخفّة برمّتها على انجاز قفزته الأخيرة . الجمهور الذي بإيعاز من ضراوة الحماس سلخ ﺃكفه تصفيقا لهُ بعد القفزة ، رأى كيف بلغ ذروة الشقلبة بعد أن ﺃفرغ كيانه من العظام .. كيف صالب ساقيه ، ورفرف دائرا لائبا لتتلقّفهُ أيادي البناية العطوفة ، وترتقي به أكتافها أدراج السلم الآدميّ العموديّ.. كيف ﺃفرد الزوايا الحادّة لذراعيه المنفتحتين على شكل مروحة تسمّرت للحظة فوق قّمة البناية ، ثمّ فوق الهواء لوحده ، بعد تواري البناية عن الأنظار .
جميعُ رواد الحلقة كانوا يعلمون ما الذي حدث ؛ فقط وحدهُ الرجل الغريب ( الذي كان يُدعى جون) لن يعرف بأنّ الطفل الصغير لن ينزلَ أبدا ، لأنّه اختفى في الفراغ بلا رجعة ! .
__________________________________
السند : ” الرجل الغريب الذي سوف يصل نهارا ” ، أفترض أنّه الكاتب الأمريكيّ بول بولز (1910-1999) الذي جاب كلّ مناطق ومداشر المغرب ” بدون توقف ” بمعيّة الموسيقار الأمريكيّ آرون كوبلاند ، بغرض تأليف الموسيقى أو جمعها لمكتبة الكونغريس الأمريكيّ ، وقد وصفته الناقدة ميليسنت ديلون ب ” المشاهد اللامرئيّ ” . أمّا ” الرجل الغريب الذي سوف يصل مساء ” ، فأزعم أنّه الكاتب الفرنسيّ جون جونيه (1910-1986 )، الذي أحبّ المغرب بدوره ، وكتب فيه سنة 1957 نص ” راقص الحبل ” عن صديقه العربي لاعب السيرك المسمّى ” عبد الله “، الذي هو” المعادل المجازيّ للوحدة المميتة والمناطق المظلمة الخطيرة التي يتحرّك بداخلها الفنّان المغامر” كما يقول كاتب سيرته الألماني إدموند وايت . وهما معا ، أي بولز وجونيه ، ولدا في نفس العام ، و قد أوصى الأول بأن يدفن في المقبرة البحريّة لمدينة العرائش، في حين أوصى الثاني بأن ينثر رماده في مياه البحر الأبيض المتوسط المحاذية لمدينة طنجة . ﺃنظر ( بالعربية ) : بول بولز ، بدون توقف ( سيرة ذاتيّة ) ، تر: توفيق سخان ، منشورات ضفاف والاختلاف ، ط1، 2014/ و جان جونيه ، راقص الحبل متبوعة بالصّبيّ المجرم ، تر : شاكر العبادي ، منشورات دار كنعان ، ط1، 2011 .
