محمد علي شمس الدين… «الفتى ــ الينبوع» الذي تنبأ بالطوفان

محمد ناصر الدين

 

مرّ عامان يا «شمس» منذ طعننا الموت برحيلك طعنته المرّة، ذلك الموت الذي روّضتَه في القصائد والمراثي حتى خلناه صديقاً، يزورنا في ضباب
القرى الجنوبية مختلطاً بالدخان والدم الذي يسيل مع ميازيب الأزقة في الشتاء، ويلبس ثوب امرأة أنيقة في مجالس العزاء حيث تدور النساء العامليات بسدور الورد فوق الشَعر المسبل ومراثيهنّ الجميلة الزرقاء، وحسينهنّ يقوم كل عام من ذلك الموت المروَّض يرمي الدبابة بصاروخ الكورنيت والمسيّرة الانقضاضية عند سهل الخيام ووادي الحجير ومرج بني عامر في الجليل: بالله عليك كيف أغمضت جفنيك في تلك الليلة الحزينة من أيلول ولمّا ينضج التين في حقول «بيت ياحون»، وأحباؤك الذين طعنوا «السفينة- القرش» عام 2006 فصارت «تئن من الطعنة» يدورون حول تلك الربوع وأنهارها ووديانها وأوكار الطير والنمل وبيوت الغزلان والضباع فيها، يحملون سلاحهم بيد وبالأخرى قاموسها الذي كتبه شاعرها الفذ محمد علي شمس الدين (1942 ــ 2022) في أشعاره منذ ديوانه الأول «قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا» (1975) وحتى الديوان الأخير «خدوش على التاج» (2022). قاموس لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا وأحصاها من أمكنة وأزمنة الأرض الجنوبية الموشحة بالمواويل الكربلائية التي أول ما طربت لشجنها أذن «الفتى ميم»، أزمنة التقطها الشاعر من سيل التاريخ العرِم وثبّتها في الشعر مقاومة وحبّاً وتصوّفاً وجمالاً، فكان الشعر شبيهاً بصاحبه: مجازفة كبرى في الخيال أشبه بتلك الورود التي تنبت في أحشاء صخور جبل الريحان الذي دائماً ما تغنّى به صاحب «أميرال الطيور»، وتشقّ طريقها غير عابئة بالريح العاتية والغزاة العابثين، وتجربة وجودية بقوة تغوص في الأساطير تحمل موقفاً سياسيّاً واضحاً لكن بتفجّر ونغم ولهجة لا علاقة لها بالمناشير الفجة والمبتذلة والمسطحة، ولغة إيروسية في الحب كثيفة وحرة واقتحامية. بلى أنذرنا «شمس»، كان يحدثنا عن الموت في نصوصه الأخيرة التي صدرت بعد وفاته عن «دار الرافدين» (2022) بأشهر قليلة والتي نختار منها في الذكرى الثانية لرحيل الشاعر: «سأقيمُ عند تقاطع الأنهارِ /أبني منزلاً/ من أضلعِ الشجرِ القديمِ/ وأضلع الموتى/ وأتربةِ السيولْ». كأننا لم ننتبه للموت لكثرة ما أسكرنا صاحب «شيرازيات» بأقحوانة الحياة التي تنبت بين ضلعي هذا الموت. كأننا لم نكترث بذلك الموت الذي جاء من الجهة الآمنة حتى أفجعنا في تلك الروح الشاعرة التي أكثر ما نحتاجها اليوم في القتال الدائر في غزة والجنوب بين الأغنية والطائرة، بين الشعر ونقيضه. مضى «الفتى ــ الينبوع» قبل قليل من الطوفان الذي تنبّأ به في إحدى قصائده: «كان مبلّلاً وتناثرت خصلات ذلك الليل عند مفارق الأشجار»

1- العشّاق
كان المساءُ ملطّخاً بالريحِ
والمتسلّلون إلى العشاءِ ثلاثة
وحمامتانِ
ومقعد خالٍ
تربّع فيه قِطُّ الليل
ينظر تارةً نحو الحمامِ
وتارةً نحو المدى المَرخيِّ في شُبّاكِهِ
جلس «الفتى/ الينبوعُ» في كرسيّه تَعباً
وأطلق زفرةً حمراءَ
(ما أقسى الحياة وأتعسَ العُشّاقَ)
هل خَمْرٌ
وفي كأسيكما تَعَبٌ؟
وعلى الأريكة كانت امرأةٌ
تُسمّى «الليل»
نصفُ جمالها حُمّى
ونصفٌ أبيض القسمات ملتبسٌ
فمن رسم الخطوط على مفارق كفّها؟
لكأنّما الأيّامُ تخدشُ بالأظافر
وجهها الفضيّ فوق الماء
تجرفها مياهُ النبع عند تدفّقِ الأنهار
سُكِب النبيذ على الرصيفِ
ولم يكن خمر ليشربه الندامى
في المساءِ
ولم يكن خبز
ولا أَحَدٌ
على
كرسيّه
لبس «الفتى/ الينبوع» معطفه
وكان مبلّلاً
ومضى…
وتناثَرَتْ خُصُلاتُ ذلك الليلِ
عند مفارق الأشجار.

2- ولادات «ميم» وأحواله
سأرتّب ما بين ولاداتي
بخناجرَ أغرسُها بين الأثلامْ
كفلّاحٍ يغرز «سِكّته»
في الأرض العطشى
فالحدُّ الفاصِلُ بين «مضى» و«أتى»
كالحدّ الفاصل بين الآلامْ
أعناقُ الموتى تمتدُّ
ليشرب منها رعيانُ البرّ ورعيانُ البحرِ
أرى شَفَقاً يطفو فوق الموج
وفوق مغيبِ الشمسِ أرى شَفَقاً
ما بينهما يزرعُ «ميمُ» خناجره
ويُثبِّتُها في الأرضِ
يخطّ بيوتاً وقلاعاً وموانئَ
ما تلبث أنْ تمحوها الريحُ
فيفرك من شدّة حسرته بيديهِ
وينظر نحو سماءِ الله
وينظر نحو خرائبِهِ
ويقولُ: تأخرنا
فالقبر هنا أحجار هَرِمَتْ
هل يعطي قبرٌ ثمراً؟
ويعود ويبدأ هذا الدوران الخاسرَ
من أوّله
«المُلْكُ عقيمْ»
والحكمةُ كلُّ الحكمة أنْ تمحو…
أنبيكم شيئاً من سيرة «ميم»
وصورتِهِ في التكوينْ
كي تنسوها
فهوَ الأوّلُ
والثاني
ووريث سلالات الأوّابينَ طويلاً
من مِلّة «شمس الدين»
المنسيينَ
وما ذكرتهم كتُبُ التدوينِ
وما فتحوا بالقوّة باباً أو سرداباً
لكنْ
فتحوا بالكلماتِ سبيلاً نحو اللهِ
فأمهلهم بعد الطوفانِ
قليلاً
كي يبتدئوا هذا العالم من أوّله.
ويقول لكَ الأعمى: أسمع في الليل طبولاً
وصُراخاً
هل جُنَّ العالمُ من حولي؟
هل تسمعُ شيئاً ممّا أسمعْ؟
ويقولُ الأكمَهُ: أبصرتُ سلاسلَ
يرقص فيها العميانُ ويسألني جاري:
من أنتَ؟
وكم في الأرض لبثت؟
يقولُ رآني أرعى في أرض «سمرقندَ»
الأغنامْ
وأنّ «الخيّامَ» يشاطرني ولعي بالخمر
وبعض جنوني بالأنثى
وبأنّ امرأةً أخرى تنجبني
ويقولُ بأنّ «الملكَ الضِلّيل»
كَساني في «أرض الروم» عباءته
وَدَعاني
وهو ينامُ على حَجَرٍ
أن أكمل هذا الدرب إلى آخِرِه…
جاري عرّافٌ
لكنْ لا يعرف شيئاً عمّا يرويه
وكيفَ
ويحسب أنَّ النجمَ يكلّمُهُ
أدري أنَّ صوابكَ أمسى عَلَفاً للأغنام
وعقلك تأكل منه الخِرفانُ، ولكنْ:
لا بأسَ
سأروي لك شيئاً من سيرة أسلافي
أذكُرُ
جاؤوا من طرف «الحيرة»
وانتشروا في الأرض جنوباً
حتَّى وَصَلوا مطلع شمسٍ لا تغرب عنهم أبداً
كنتُ صبيّاً
أتبعُهُمْ في الحلّ وفي الترحالِ
وناداني صوت في الليلِ
وقال: اكتُبْ
فكتبْتُ
وكانت تعبث في رأسي
صبوات الشعر وأحلام الممسوسينْ
أسرحُ في أرض واسعةٍ
لا بيت هناكَ ولا مأوى
كفّي يسرح فيها النمل طويلاً
ويداي كنهرينِ
ولا يلتقيانْ
ما أجملَ أنْ يسرح هذا النملُ
ولا تسحقه أقدام المشّائينْ
فوق الرملِ
ولا يجرفه جيشٌ «لسليمانَ»
ومالي «وسليمان»؟
أنا أسّسْتُ فتوحي في الكلماتِ
أقمتُ صروحي وفتوحي
في الكلماتِ
وما تركته «الميمُ» على كفّي
من وشم القدرة
ما بين الخنصر والإبهامِ
أنا ملكٌ
وجنودي أكثر من أن تُحصى
فإذا «أضواني الليلُ»
بسطتُ يد الرؤيا
وأمرت جنودي فأطاعوا
جاؤوا بكِ بيضاءَ
وجالسةً فوق جمالِكِ
فوق العرْشِ
وأقرب من كفّي
للحرف الضائع بين الأيامْ

3- أغنية قاسية
أقول للرياح في نيسانَ ساعديني
لكي أجولَ في شوارع المدينة
أزورُ بعضَ من أحبّهُمْ
وبعض من نأتْ ديارهم وغادروني
كطائرٍ أضاعَ إلفَهُ
وكانَ كلّما نأى اقتربْ
وكانَ بيننا ما يشبه المراكبَ المحطّمة
كسور وقتٍ
خَزَفٌ
زجاج مقهى فارغٍ
وساهرونَ نائمون في عراء كهفهم
ثلاثة كانوا وكلبهم رابعهم
وجدتُ دارهم مشرّعة الأبواب
والنوافذ الخرساء تنحني بلا هواء
وكانت الغمامة الصفراءُ قد تراكمَتْ
وأتلفتْ مزارعُ العَفَنْ
رؤوسَها
فزغرد الذباب فوقها
ومدّت العناكبُ السوداءُ
ظلَّها على قذارة المُدُنْ
وعندما وجدتُ أنَّ ما رأيتُهُ
أو كانَ
أوسمعتُهُ… حَسَنْ
أرسلتُ طرفي شارداً
أدوار الزَمَنْ
وكان حولي جوقة
من الكلابِ
أشرعت أذنابها
وأطلقت عواءها في الريحِ
أنجدوني
نيسانْ يا نيسانُ أنتَ
خنتني
وجئتَ هذا العامَ قاحلاً
نظرتَ بين مفصل الطريقِ والمضيقِ
في يدي
لراية معلّقة
وكانت الأيام والرياح قد محت حروفها
وبعثرتْ سطورها السوداءْ
وكان حرف «الهاءِ» وحدَهُ
يرنّ في الضواحي
محلّقاً
وغامضاً
كجرسٍ في الماءْ

4- عَصَبُ الأرض
«الحربُ مزرعة الموتى والسخرية»

شَفَقٌ من الأشجارِ آخر ما يُرى
ودمٌ على الأغصانِ مُنتشِرٌ
إذنْ
ماتت عصافير الحديقة
وانتهى السُمّارُ…
فاهبط في مطار حديقة «الحوارس»
واحذرْ أن تظلّ معلّقاً
حجراً
ترنّح في سماءِ اللهِ
أسودَ كالغرابِ
معلّقاً بجناح هذي الأرضِ
وهي خفيفة
ولعلها بيضاء مثل الموت
أو كفراشة عَبَرَتْ
(جناح فراشةٍ)
كَمْ ذا عَبَدْتَ جمالَها
وإلى المغيبِ إلى المغيب
غروبها وزوالَها
لكأنّما في شرقها غرب
وأنّ النار تلعب في عروق جبالها
مُدُنٌ تَنَاطَحُ في السحاب (ولا سحابَ)
وأخوة ولدوا وماتوا
يتقاتلون على الفراغ الجوهري من التراب
ولم يكن شيءٌ
سوى حَجَرٍ
ترنّح
في
الفراغ
وأنت معلّقٌ بحبال هذي الأرضِ
كم ذا قد سجدتَ
وطُفْتَ حول جمالها الوثَنيّ
مذ سَجَدَ الرعاة الأوّلونَ
وخرّ نجمٌ للمجوسِ
معفّراً بضيائِهِ
عند الزّمانِ الأوّلِ
وتفرّقوا
والذاهبون هناكَ مصفّدين
بقبّعاتِ الحربِ
والخُوَذِ الثقيلة
هل هنا هرموا؟
وهل ندموا؟
وهل سئموا؟
وشاخَ الدهر تحت جلودهم
جلسوا إذنْ
وتبادلوا أسماءهم ونساءهم
شربوا معاً كأس النبيذ
معتّقاً
مُرّاً
وحين تعانقوا ماتوا.

5- مسالكُ العذاب
بطيئة مسالكُ العذابِ يا حبيبتي
تأتي
ولا تدقُّ البابَ
كي تنامَ في سرير لحمنا وعظمنا
وكلما أتى المساءُ
وانطوى النهار ساحباً ظلاله
واستأنست وحوش هذا العالمِ
العجيبِ في أوجارها
والطيرُ في أوكارها
وفي البحار نامت الأسماكُ
والجنديُّ نام في خندقه مهدّماً
سمعتُ رنّةَ القَدَمْ
تدقّ مثل دلفة الميزابِ في الشتاءْ
من أينَ؟
والوجود حولي مُقفَلٌ
حديقتي عالية الأسوار
لا تطالها الطيورُ
والجدارُ لم يعد ينشَقُّ
منذ ما أزلتُ عنه ريبتي
وجسر بيتي لم يعد مهدّماً وخائفاً
ـ من أينَ؟
قالتْ: لعلّه يجيءُ من ثنايا جرحك القديمْ
ـ جرحي الَّذي أقفلتُهُ؟
ـ قالت: نَعَمْ
وأطبقتْ أجفانَها
وكان وجهها كالشمس في الشتاءِ
كلما بكى… ابتسمْ
…..
ما عدتُ أخشى الموت يا حبيبتي
ولا القيامه
غداً
غداً إذا وقفتُ عارياً أمامه
وقال لي: اعترفْ
أقولُ: كلُّ ما فعلتُهُ يا سيّدي
في رحلة العذابِ والسأمْ
وقد قُتِلْتُ ألفَ مرّةٍ ومرّة
أنّي
(وأنتَ أدرى بالذي أقوله)
أروّضُ الألمْ.

6- أعيرُ جسدي للريح
إذا جاء فصل الشتاءْ
تجرّدني الريحُ من جَسَدي
وتأخذني خلفها عارياً جارياً كالمطرْ
أجوب شوارعَ لا تنتهي
وأدخل بين الثيابِ وأسمائها
إذا جاء فصل الشتاءْ
تبادلني الأرض أوراقها
والعصافير ريشاً بريشْ
أنا العابر الدائريّ الذي لا يُرى
تراقبني في الظلامِ عيونُ النوافذِ
غائرةً في الكُوى
وتجرحني نقطةُ الماءِ في بقعة الضوء
خائفةً ومرتجفة
بين حربٍ وحربٍ يمرّ الشتاءُ
على الأرصفة
تعالي أحبّكِ أعلى من الموتِ
أعلى من الكهرباء العليلة
في سقف بيتي
قليلاً
سأتبع هذا الرصيف
وأمشي.

7- الجَسَد الموقوف
رتّبتُ سريرَكِ من شَجَرٍ
لم ينبُتْ في الأرضِ
ولا عرفته الأنهارُ
ولا الغابات
سريركِ
من أغصانٍ زرقاءَ
تميل إذا نفثَتْ قَصَباتُ
الماء مراثيها
أو أورق فيها
ما يشبه مروحة
وعصافير اشتعلت
في موشور الضوء
الساقط فوق سريرِكِ
أنت إذنْ مستلقيةٌ
بيضاء وسوداء وعارية كالموتِ
وكانَ العالم ينظر من كُوّتِهِ
نحو سريرِكِ
نحو الجَسَدِ المستلقي
كما استلقت صحراء
على أضلاع الرملِ
ونامَتْ
يتنفّسُ نهداها في الليلِ
ويُسْمَعُ صوت حفيف الريحِ
على أعضاء أنوثتها
هل
يقدرُ
أيُّ إلهٍ
أن يوقظ
ما رسمته الرحمة
في ما مرّ من السنواتِ
وما حطّت ريشتُه الأولى
من نقط سوداءَ
على النهدين
وتحت السُرّةِ
فوق البساتين
وما أوغل في غاباتِ الرحمةِ
من نارٍ خضراءَ
وقاسيةٍ
يا نارُ إذنْ
كوني هادئةً
وسلاماً
كوني ما شئتِ
فها جَسَدي
أوغلَ في الصحراءِ
وألقى في التيه عصا الترحالِ
ونام على عتبات أنوثتك
الموقوفةِ
من
أوّل سطرٍ في الرؤيا
حتّى
آخر سطرٍ في التكوين

8- ليلى
سمّيتُ هذا البحرَ «ليلى»
كلَّما هَبَطَ المساءُ أزورُها
وأرتّبُ الأمواجَ فوق سريرها
الملكيّ
أصغي في الظلامِ
لعلّ حزناً ما طفا
لا
ليسَ هذا ما ترتّبه الشواطئ
من شرودِ الموج فوق الرملِ
عيناها
ولا من أحتكّ من هوج الرياحِ
بموجتين كأرغنينِ على المياهِ
بكاؤها
لكنّما
زرقاء تصعد كالنوارس في
سماءِ الأبيض المتوسّط
الرؤيا
وتجري من عيون الله نحو البحرِ
موسيقى
كما
لو كان ثمّة وجهُ ليلى.

9- أناشيد «عليّ»
«لعليٍّ» جنّةٌ أخرى
ومحرابُ المدينة
لم يزل ينتظر الآتي من الأرض إليها
و«عليٌّ» أجملُ الموتى إذا ما ذكروا
في غدٍ أسماءه واستذكروا
سيّد الناس وربّان السفينة
و«عليٌّ» ماتَ مطعوناً على محرابهِ
ومضى
لكنّهم لم يعلموا
أنّهُ يعبرُ في هذا السحابْ
وجهُهُ
يصعدُ من هذي القبابْ
صوتُهُ
حتّى إذا ما نظروا
في مراياهم غداً وانتظروا
أرجع الليل
مع الليلِ عيونه
■ ■ ■
طائر يخرج من طينةٍ كل مساءْ
ليرى وجه «عليّ»
طائر يخرجُ
والريح دويّ
كلما جلجل رعد في السماءْ
شخصت أبصارهم
نحو «عليّ»
قرويّون أسارى وَجْدِهِمْ
وتُرابيّون من شرق الفراتْ
مالت الأرض بهم أم لم تمِلْ
كلّما جلجلَ رعدٌ في الفلاةْ
مالت الحرب بهم أم لم تملْ
تركوا أسماءهم واغتربوا
في المدى الأزرقِ
إذ تبكي الخيولْ
هكذا يحلج «حلّاجُ الحقولْ»
حَجَلَ الوقت
وترتيب الردى
هذه
أغنية للغرباءْ

شربتُ الراحَ
لكنْ
دونما خمرٍ
ولا أكوابْ
أغِثْ مجنونَكَ الباقي
على هذا الهوى الغلّابْ
وأنت الخمر والساقي
وأنت الكرمُ والأعنابْ
أغِثْ
بي لوعة المتروكِ
في وادٍ بلا أَسبابْ
أَغِثْ
لا باب يوصلني
إلى المحرابِ أنت البابْ
وأنتَ البابُ
والمحرابُ
والأعتابُ
والساعي
إلى الأعتابْ.

10- عَتَباتُ الليل
I ـــ الرحيل
لعلّهم في الليلِ أحبّوا أن يروا صُوَرهم في ذواتهم ويبصروا في مراياهم جمالهم القديم. وكانوا مغتبطين بوحدتهم هناك ويمنعون الليل من أن يمضي. كانوا واقفين على العتبات ما من نهار إلَّا ويصدّونه عن الدخول، وما من خيطٍ للضوء أو طيف من أطياف الفجر يستطيع أن يتسلل إلى قلعتهم الزرقاء أو إلى حديقة الكوبالت في الداخل وتصبّ فيها أنهار تنحدر من جبال عالية وتكثر الورود والرياحين.
جَلَسَ «الملثّمُ» صاحب القلعةِ على صخرةٍ عالية، وكان لا يظهر منه إلَّا عيناهُ المشعّتانِ في الليل الدامس، ووجّه نظره إلى ولدانٍ يمرحون ونساء عاريات مستلقيات تحت الأشجار، وشبّان أشدّاء يصوّبون نصال خناجرهم اللامعة إلى صدور غارقة في الظلمة، حيث دائماً ثمة نقطة يقصدها النصل ويصيب.
نظر «الحَسَنُ» إلى الجهة الأكثر ظلمةً في الحديقة، وقال: لا بُدَّ من أن نبدأ الرحيل. «الطيورُ تغرّدُ على الأغصان وتنبّه من نعسوا. بي عَطَش إلى كأس كبيرة أفتتحُ بها هذا الليل. أسمعُ طيفاً يصيح بي في النوم تأهبْ لنملأ الأكواب ونشربها قبل أن تنضب خمرة الرّوح القديمة… ويجفّ منبعُ الغيب المجهول».
خمسون عاماً مضت وربما أكثر ربما أقلّ والليل الدامس لا يزول ولا يحول، وفي غمرة الفرح الأكبر كانت بلاد كثيرة تطوى في الظلامِ طيّ السجل للكتب.
وخيول تملأ صدر الليل بصهيلها وحمحماتها… وحوافرها تضرب في اسطبلات أعدّوها للرحلة القادمة.

II ـــــ القافلة
إذنْ
ساروا
وليس لهم جَناحُ
وسالت في السُرى بهم البطاحُ
وما لخيامهم أثر ولكنْ
أعارتهم منازلها الرياحُ
مسائيّون قلت «عموا ظلاماً»
فطابوا في السكينة واستراحوا
«وودَّ الليلُ زيدَ عليه ليلٌ
ولم يُخلَقْ له أبداً صباحُ»

11- الغابة
سأقيمُ عند تقاطع الأنهارِ
أبني منزلاً
من أضلعِ الشجرِ القديمِ
وأضلع الموتى
وأتربةِ السيولْ
ويزورني في كل يومٍ
ما تناثر من فهودِ الغابِ
ينظر تارةً نحوي
وطوراً في الدمِ القاني بأوردة العجولْ
وأنامُ أحلمُ بالفراشاتِ
الطليقة في الجبالِ
وفي السهولْ
وأنا المخيّرُ أن أقولَ
ولا أقولْ
أأنا اختبار الله في الجهة التي
لم ينتبه لها أَحَدٌ
وحيّرت العقول
أو أنني
(والخوف يلبس معطفي)
أطلقت في حَيَوان هذا الليلِ
أغربةَ الحقول؟

12- مساء الذبيحة
إلامَ سيمتدُّ جرحُكَ
يا والدي
وتفتح في كل يوم
لأوجاعنا محفلاً؟
وحتى متى نستعيد من الأرض
أكفاننا؟
لا يموت الَّذي ماتَ منّا
ونرفع في العيد هذا السوادْ
مضى ما مضى وانقضى زَمَنٌ
كلما سال دمع على الأرض قلنا جرى
دمعنا
أو تراءى دمٌ في المغيبِ على
عنقِ الشمسِ
صحنا انظروا
إنه دَمُنا
دعِ الآن أهل المقابرِ
في صمتهم ينعمونْ
وقُلْ: إنّهم حين ماتوا
استراحوا
أفاقوا على الموتِ
ثمَّ استراحوا
تعالَ معي لكي نوقد ناراً
لنوقِدَ نار القِرى
هنا حيث آباؤنا أولموا
للذئابِ
ونادوا ليقتسموا زادهم
كُلَّ من ضَلَّ أو جاعَ في البادية
رفعوا قلبهم في الخيامِ
ولم يطردوا الضبعَ
والكلبَ حين يجوعْ
هل رأيتَ الدروبَ البعيدة
نحو القفارِ
وكم ذا أبادَتْ ملوكاً
وأغرَتْ صغار الصعاليك
أنْ يصنعوا مجدهم في العراءْ؟
يُغيرونَ ليلاً على ما تهاوى
من الخزّ
والقمح
والذهب المشتهى
والحرير الدمشقي
ما بين أقصى الشمالِ
وأدنى الجنوبِ
فإن غنموا أولموا
أداروا على الجائعين
ومن جاء من جائعات القرى
زادهم
ومن صام دهراً وأطعم أبناءهُ
من حصى الرملِ
أو علقماً للغرابْ
تعالَ معي لمساءِ الذبيحة
لعرسٍ ندير به كأسنا عالياً
يصلّي المصلّون فيهِ
ويعلو صياح السكارى
ويلهو الصغار الخليّونَ
تحت الموائِدِ
أو فوقها
كثير من الخمر
أجملُ ما رتّلَ العابدونَ من الذكر
شمسٌ وعشرون ألفاً من العابدينْ
بلا حَرَجٍ يرقصونْ
سلالٌ على رأسهم تنقر الطيرُ منها
وتمضي على ساحةٍ ساحرة
تعالَ لنولم جمراً وتمرا
وبعضَ الثريد الَّذي ظلَّ من لحمنا في
الصحونْ
وما خبّأَ الأوّلونَ
وما سَتَروهُ عن الأعينِ الماكرة
لنولمَ أسماءنا وقرانا
أجمل العابداتِ الصغيراتِ
يرقصنَ في معبدٍ
قائمٍ
في المكان الحرامِ من الأرض
من أرضنا العابرة
ونرقص نبكي ندور ونبكي ونرقص نضحكُ
نبكي ونرفع لله أعراسنا
وهوانا
إلى
آخر الدهر
هذا النشيدْ

.

مقالات قد تعجبك
اترك تعليق

لن يتم نشر أو تقاسم بريدك الإلكتروني.