حين يتحول الباحث الرصين أو الإعلامي الشهير إلى محرض سياسي بائس! المتوقع منطقيا من الأكاديمي المتخصص في علم من العلوم التجريبية أو الإنسانية حين يتدخل في الأحداث السياسية الساخنة في بلده ويكتب فيها اضطرارا أو رغبة، أن يحافظ على سويته البحثية العلمية الدقيقة الصارمة المترددة المتسائلة الاحتمالية المطالبة بالتوثيقات والأدلة أو العارضة لما يتوفر منها بإنصاف وينأى بنفسه عن لإطلاق الأحكام الهستيرية جزافا رغبة في إدانة طرف مهزوم ما وتبرئة نفسه من تأييده أو تبرير تلميع طرف جديد حل محله لسبب من الأسباب. هذا هو المتوقع في الغالب الأعم ولكن وخلال الحدث السوري وسقوط نظام آل الأسد وهروب رئيسه لاحظت وبأسف بعضا من هؤلاء الأكاديميين الذين كنت أحترم كتاباتهم وقد انحدروا في مقالاتهم ومنشوراتهم السياسية ولقاءاتهم الفيديوية “البودكاستات” حول الشأن السوري إلى مستوى متدنٍ من التحريض والجعير الفارغ، أو تبريرات والتلميعات المثيرة للقرف، وأصبح من الصعب التفريق بينهم وبين المحازبين الموالين للنظام القديم أو للنظام الجديد.
لا أقصد هنا شخصا مهذارا فقير البضاعة الثقافية كالمذيع “الممثل” في قناة الجزيرة أحمد منصور الذي حوَّل الجولاني إلى بطل خارق للأزمنة والتواريخ، بطل فاجأ الجميع؛ الأتراك والروس والإيرانيين ونظام الأسد وحتى المعارضين السوريين حين قام بهذه المسيرة الإعجازية من أدلب إلى دمشق في جغرافيا مفتوحة ودون عوائق عسكرية حتى من شرطة المرور، في حين تقول الأرقام أن عديد جيش النظام كان يفوق قوات الجولاني المجموعات الأخرى بضعفين أو أكثر مع أسلحة لا يستهان بها كما قال خبراء روس، متناسيا – منصور – كل الاحتمالات التي سهلت هذه المسيرة ودخول دمشق دون قتال ومنها احتمال قوي يتحدث عنه الكثيرون وهو قيام المخابرات التركية والقطرية بشراء ولاء قيادات الجيش العليا بالمال القطري ووفق خطة بطيئة ودقيقة نخرت تلك القيادات وحولتها الى هباء وأعطي للجولاني مجموعاته القيام بمهمة التشطيب النهائي بهدوء وسلاسة وهذا ما حدث فعلا، لا اقصد هذا النوع من المحرضين السياسيين بل أقصد الباحثين والأكاديميين الذين عرفناهم بكتاباتهم العلمية الدقيقة.
لنتصور فقط أحد هؤلاء ينفي عن الجولاني أنه كان عضوا فاعلا في تنظيم القاعدة بحجة إنه عمل لفترة في تنظيم جهادي تكفيري اسمه “سرايا المجاهدين”، في حين يعترف الجولاني نفسه وبعظمة لسانه في لقاء بي بي سي معه بأنه كان فعلا في “تنظيم القاعدة للدفاع عن أرض العراق ضد الغزو الأميركي”! ويؤكد متحدث آخر “من باحثي وعلماء والبودكاستات” أن الجولاني اعتقل سنة 2007 من قبل قوات الاحتلال الأميركية وأطلق سراحه قبل الانتفاضة السورية سنة 2011، أما السلطات العراقية الرسمية فقد أعلنت كثر من مرة أنه المذكور اعتقل بين سنتي 2007 و2008 أي أنه كان ناشطا في حملة الإبادة والتفجيرات بالمفخخات والأحزمة الناسفة ولقتل على الهوية طوال السنوات الخمس السابقة لسنة اعتقاله بغض النظر عما فعله بعد أطلق سراحه. وإن السلطات العراقية أصبحت طرفا في ملف الجولاني بعد ورود اعتراف عليه من قبل معتقلين بتهم إرهابية مختلفة وجرائم قتل واختطاف على الجولاني، وتم إصدار مذكرة قبض لاحقة بحقه قبل سنوات وماتزال المذكرة سارية حتى الآن. وقال خبراء عراقيون أن أية محاولة لشمول الجولاني بالعفو العام المرتقب الصدور عن البرلمان لن يشمل الجولاني لأنه خاص بالعراقيين فقط كما قال الخبير القانوني العراقي محمد جمعة، الذي وضح أن وصول الجولاني/ الشرع إلى منصب كبير في سوريا سيشكل إحراجا للحكومة العراقية في بناء علاقات ثنائية مع سوريا الجديدة في وقت هناك مسؤول فيها مطلوب للقضاء العراقي، وكذلك في حال أراد مستقبلاً زيارة العراق مع وجود هذه المذكرة بحقه / تقرير لوكالة شفق نيوز اليوم الأربعاء.
كان من الأفضل لهذا الباحث السوري والذي نفى علاقة الجولاني بالقاعدة أو بما حدث في العراق في سنوات القتل على الهوية الطائفية بين سنتي 2003 و2008 أن يقول مثلا وعلى سبيل الاستدراك أو الاحتمالية إن الجولاني ربما يكون بدأ تجربته الجهادية في العراق مع تنظيم صغير هو كذا ولكنه انخرط لاحقا بالقاعدة.
*باحث آخر كتب إن إسرائيل لم تحتل جبل الشيخ بل كان نظام الأسد هو من تنازل عنه لها دون إعلان من قبل الطرفين! وحين يرد عليه عسكريون -فلسطينيون خدموا في مواقع في قمة جبل الشيخ ضمن قوات جيش التحرير الفلسطيني – وشهود عيان ويؤكدون له إن لجبل الشيخ ثلاث قمم وليس واحدة؛ القمة الجنوبية وهي الاقل ارتفاعاً بيد اسرائيل منذ 67 وعليها المرصد المشهور وهي التي تمت استعادتها لأيام فقط في حرب 73. والقمة الوسطى وتتمركز فيها قوات فض الاشتباك منذ 74 وعادة ما تكون نمساوية. والقمة الشمالية وهي الأعلى ارتفاعاً كانت لا تزال بيد سوريا حتى سقط النظام فاحتلتها القوات الصهيونية، لا يرد على المعترضين بتوضيح أو اعتذار أو تخطئة موثقة بل يسكت وينتقل تلفيقة جديدة!
بالمناسبة؛ الحدث السوري لم يقل بعد كل أسراره وسيأتي اليوم الذي يستسخف الناس فيه هذه الهمروجات والتلميعات ولكن الطرف الوحيد المحق في أن يبدي فرحه بزوال كابوس النظام السابق هو الشعب السوري الذي ضحى من أجل هذه الخاتمة للنظام بالكثير من أرواح شبابه طوال عقود. نعم الحدث السوري لم يكشف بعد كل أسراره لأنها محفوظة جيدا في خزائن راسمي الخطط في إسطنبول والدوحة وواشنطن وتل أبيب وحتى موسكو وطهران… لا أقصد إدانة جميع هذه الأطراف بالتآمر ضد نظام الأسد فالأسد كان أكبر متآمر ضد نظامه بل أقصد المعرفة المسبقة والتسهيل والسكوت وشراء ذمم وولاء قيادات جيش الأسد. وقد يكون في الطريقة غير الدموية التي حدثت بها الأمور هي الإيجابية الوحيدة التي حقنت دماء الأبرياء من السوريين في الوضع العام ولكنه ما يزال وضعا هشا ومثيرا للقلق وهذا ما يتطلب من القوى الوطنية والديموقراطية الاستقلالية السورية الرافضة للعدوان الصهيوني والهيمنة التركية المزيد من الجهود واليقظة والعمل.
مقالات قد تعجبك