كتبه | محمد الحسين _ العراق
كان الغربيون في القرن الثامن عشر الميلادي يتلذذون بالسفر إلى الشرق، وكان مستشرقيهم يطيلون المكوث هناك محاولين الكشف عن أسرار وألغاز هذا الجزء من الكوكب، والذي يظنونه حافل بالحكمة والأفكار الغريبة.
فالرحلة من أوربا إلى الشرق رحلة مليئة بالخيالات ولا بد من أن تثمر عن نتائج خصبة، حيث لا يدخر المستشرقون جهدا في تدوين مذكراتهم ورحلاتهم إلى الشرق، ويلتقطون حتى التفاصيل الصغيرة التي يمكن أن يقدمون من ورائها قراءات ومواضيع هامة.
ومن هذه الرحلات الهامة جدا والتي تستحق الذكر دوما هي رحلة الفيلسوف التنويري الفرنسي مونتسكيو إلى إيران (بلاد فارس قديما) والتي دونها أو حاكها في كتابه ذائع الصيت (الرسائل الفارسية _ Lettres persanes).
منذ زمن غير بعيد قرأت في إحدى الصحف أن ثمة كتاب لمونتسكيو يحمل عنوان “رسائل فارسية” وأنه من أهم كتبه، وتساءلت مع نفسي ترى لماذا يكتب فيلسوف فرنسي كبير وأحد أهم مفكري التنوير عن الفرس؟
وقد كان بحثي شاقاً عن هذا الكتاب الذي نشرت ترجمته العربية في مطلع التسعينيات من القرن الماضي. ولكن لم أحض بقراءته إلا بعد وقت متأخر، ثم أعدت قرائته بعد فترة، وكذلك تساءلت مرة أخرى : ترى لماذا أعدت قراءة هذا الكتاب؟
في حقيقة الأمر أن القراءة عن الفرس وثقافتهم شئ، وأن تقرأ عنهم بلسان الآخر الحر، وصور حية، وفكر فلسفي عميق شئ آخر، لذلك قلنا أن هذا الكتاب يجب أن يقرأ مرات عديدة.
حيث أن الحكمة والفلسفة التي تغمر هذا الكتاب، شئ مثير للدهشة. وإلى جانب ذلك فالكتاب هذا مفعم بالسخرية والإسلوب المطوع لا سيما وأن السخرية هي من أهم أدوات مونتسكيو التي مكنته من الإبداع في دراسة التأريخ والدين والفلسفة في عصره.
لقد نصح بقراءة هذا الكتاب أحد ألمع فلاسفة البشرية هو الفرنسي جان جاك روسو كما تحدث عن الكتاب هذا أيضًا فلاسفة ومفكرين مشهورين مثل فولتير، وفيلمان، وجوستاف لانسون، وشينير، وسانت بيف، وغيرهم.
فعلا لأن هذا الكتاب يستحق القراءة، وأقول أنه لو عُرض علي بما أملكه لقوتي لعرضتُ عن القوت وأقتنيتُ الكتاب. لأنني لا يمكن أن أفوت فرصة قراءته، وقراءة كتب أمثاله.
يتألف الكتاب الذي يقع في (٣٨٤ صفحة) حسب الترجمةالعربية من ١٦١ رسالة، قام الأستاذ أحمد كمال يونس بترجمته، كما وفق عبد الحميد الدواخلي بمراجعته، وقد صدرت الترجمة العربية بطبعتها الأولى عام ١٩٦٣م عن مؤسسة سجل العرب، ثم صدرت طبعة ثانية عام ١٩٩٢م عن دار سعاد الصباح في الكويت، بينما أن الكتاب في اللغة الفرنسية قد نشر في حدود العام ١٧٢١م، في هولندا، وكان قد نشر تحت اسم مجهول خوفا من الرقابة في فرنسا. وقد صدرت ترجمات عديدة أخرى فيما بعد أهمها ترجمة اينانة صالح الأخيرة التي صدرت عن دار تكوين.
يعتبر كتاب “رسائل فارسية” من أهم آثار القرن الثامن عشر في فرنسا وذلك لأسباب عديدة منها أن عظماء الفلاسفة والمفكرين الغربين وقد مر ذكرهم قد نصحوا بقراءته واشادوا به كثيرا لأنها بحق آثار اعجابهم واندهاشهم.
ثم أنه لولا هذا الكتاب ما عرف العالم مونتسكيو، لأنه جلب له شهرة واسعة، وكان سببا في قبوله بأكاديمية العلوم الفرنسية. ورغم ذلك فإن الكتاب هذا قد منعته الكنيسة، وحال دون ترشيحه للانتخابات في البرلمان الفرنسي.
وثمة سبب آخر مهم، وهو أن مونتسكيو هنا قد تعرض وبجرأة شديدة لنقد المجتمع الفرنسي، وربما هذا هو ما جعله ينشر الكتاب بإسم مجهول اول مرة.
انتقد مونتسكيو الجشع والطبقة البرجوازية وثقافة العري التي انبهرت بها المجتمعات الغربية، كما تعرض لانتقاد القوانين والمحاكم الدولية وأنظمة الحكم وخاصة أنه يذم النظام الملكي ويصفه بالنظام الاستبدادي الشاذ.
وقدم مونتسكيو وهو في الثانية والثلاثين من عمره كتابه هذا على أنه رواية مكتوبة بقلم ريكا وأوزبك، وهما سائحان فارسيان في فرنسا.
وبسحر مدينة “قم” يبدأ مونتسكيو كتابه برسالته الأولى بعد رحيل بطل الرسائل (الشخصية المفترض) اوزبك من “أصفهان”، متجها إلى أوربا، وثمة رعشة تتملك القاريء عند ذكر هاتين المدينتين فهو يصف باريس بأصفهان في موطن آخر. ثم إننا نشم رائحة الكرز والزعفران، ونتنفس إذن هواءً عبقاً من الثقافة الإيرانية. منذ الصفحات الأولى، ولكن ماذا سيكون في الرسائل الأخرى.
ولكنه ما لبث إن ترك بلاد فارس حيث حط رحاله في بلاد الترك في الرسالة السادسة غير أنه شعر بألم دفين لإنه غادرها، هكذا يقول على حد تعبيره، الا انه قد ترك زوجاته الخمسة في بلاد فارس، خاصة زوجته الأقرب إلى قلبه روكسان التي خصها عدد من الرسائل.
يقول مونتسكيو على لسان شخصيته المجهولة أوزبك في إحدى رسائله إلى “روكسان” وهو يكتب لها من باريس ويقول لها : ما أسعدك يا روكسان بكونك في بلاد فارس الجميلة، ثم يضيف : ما أسعدك .. بعيدةً عن أن تمتد إليك نظرة آثمة من رجل. ولكأنك تعتقد أن مونتسكيو ممتلئاً بالشوق ليس لرؤية زوجته، ولكن لرؤية بلاد فارس، وسكانها.
فمونتسكيو ينتقد المجتمع الفرنسي (وهو تحت حكم لويس الخامس عشر) من شعب وحكومة ودين وعادات، ويحتقر كل ما هو أجنبي لينصرف عنه إلى ما هو شرقي، غني بالحكمة والروحانية، وهذا مما جعل من تقديم لهذه الرسائل على غرار السرد أو الرواية أو السيرة الذاتية نوعا ما، أو ما يندرج تحت أدب الرسائل والرحلات، للقارئ الغربي والفرنسي بالذات الذي يجهل كثير من مواطن الحقيقة حول الشرق، ثم أنه ادهش الكتاب والنقاد الفلاسفة الغربيين من أبناء جيله حتى اندهش فولتـير من كتابته وصرح قائلا في موطن ما : “هل هناك أقوى من الرسائل الفارسية؟”
ولإن النساء في بلاد فارس أجمل من نساء فرنسا كما يرى مونتسكيو. فيقول في أحدى الرسائل :
“الفارسيات أرق، وأكثر حياء، والجاذبية في فارس أتت من الحياة المنتظمة التي تحياها النساء.” وهنا كانت رسائله مليئة بمدح الدين الإسلامي والمسلمين، كما يمر بمدح المغول ويثني على عظمتهم وقوة فتوحاتهم، فيفضل جنكيزخان على المقدوني.
وكم كان مونتسكيو صريحا عندما ذكر في إحدى رسائله هذه بأن الحرية قد أختصت بها الشعوب الأوربية أما الشعوب الآسيوية فلم يكن حظها إلا من العبودية.
لقد كان مونتسكيو من الفلاسفة المؤمنين بالنسبية فهو يعتقد بنسبية المعتقدات الدينية من خلال اتصالها بالقانون والأحكام، مع أنه يؤسس من خلال فلسفته منهج التسامح الديني، ويشيد بخطاب التعددية الدينية كما أوضح ذلك من خلال أفكاره التي بثها في الرسائل الفارسية.
تميز كتاب “الرسائل الفارسية” اذن عن غيره من الآثار الغربية في انه الأول من نوعه الذي تعرض لنقد المجتمع الغربي، كما أنه جمع بأسلوبه الطري بين الحكاية (الأدب) والفلسفة والسياسة.
في الاخير أعترف أنني لا أحاول هنا أن أقدم قراءة نقدية شاملة لكتاب مونتسكيو “الرسائل الفارسية” لأنني اعتقد أن الكتاب نفسه أثقل من أن يتم نقده، ولكنني احاول أن المح للقارئ العربي أن يعيد النظر في اختياراته، على سبيل المثال أن يعيد قراءة بعض الكتب التي تلهمه، لأن قراءة واحدة غير كافية في بعض الأحيان، وخصوصا هذا الكتاب أعود للتذكير مرة أخرى انه يجب أن يقرأ مرات عديدة.