محمد لفتح : أَوانِس نوميديا || فصلان من رواية

ترجمة : خالد الشبيهي

محمد لفتح، أوانس نوميديا، باريس، لاديفيرونس، 2006.
Leftah Mohamed. Demoiselles de Numidie, Paris, La différence. Coll. ” minos”, 2006.
– هنا ترجمة للفصلين الأولين. ونشير إلى أن ترقيمهما من وضع المترجم لضرورات النشر الرقمي.

المترجم.

1

نُوَّار، جمع نوارة، هو الاسم الذي يطلق على مرض الزُّهَري، في أرض نوميديا القديمة هذه، وهو مرض لطالما سكن جسد الرجال وعشَّش في مخيلتهم.
فهل يمكن تفسير هذا الاسم الغريب والشعري بكون العديد من أسماء النساء في اللغة النوميدية أيضًا أسماء أزهار؟ نساء-أزهار يُخَلِّفْنَ لعشاقهن، بعد زهرة الحب العابرة، بتلات موشومة في الجسد، شارة مجد ووصمة عار في الوقت ذاته: نوار، أزهار مرض الزهري، السِّفِيليسْ؟
لاحظوا الصفير الذي تبدأ به وتنتهي هذه الكلمة الأخيرة؛ مثل مرور خاطف لأفعى مجلجلة (تلتف فجأة حول نفسها). بينما تشير كلمة نوار إلى روضة أزهار، بستان تتعرض شجرته الأكثر إزهارا، أو العضو الجنسي للبستان للإصابة بقرحة؛ قرحة الزهري.
إذا افترضنا أن نساء-أزهارا هن المسؤولات عن الزُّهري، فبعضهن يشهدن على أجسادهن في المقابل -على الخدين غالبا، وأحيانًا على الجبين، ونادرا على الأعضاء الحيوية، النهدين أو الفرج – على تفتح زهرةٌ أخرى غريبة تصير أكثر روعة ومأساوية، ليست أقل تعظيما وإذلالا في الوقت نفسه: سِيكاترِيسْ. (نوع من الانتقام، أي نظير لمرض الزهري عند الذكور، عندما تكون السِّيكاتْريسْ وسما على فرج المرأة.)
من بين الكلمات: جرح، ندبة، فتحة، علامة، سِيكاتْريسْ، لم أتردد طويلاً، وسنرى لماذا، في اختبار الكلمة الأخيرة، لكن هذه الكلمة المثقلة بالوصوم هي التي كان علي التفكير فيها في البداية، على ما يبدو إلي. الوصوم الخارقة التي كانت تظهر على أيدي القديسين وكذلك التي توسم بها، بالحديد الحامي، أجساد المحكومين بالأشغال الشاقة؛ وصوم الهستيريا. الوصوم التي نحدد بها فتحات بعض الحشرات وتلك الموجودة كذلك في مَيْسم الأزهار.
هذه الكلمة الرنانة والمتعددة المعاني، التي تحوي بداخلها القيح، حبوب اللقاح، النسغ والدم، والذبول والإعجاز، هي التي كانت الأنسب ربما لتسمية الندبة التي تزين أجساد الفتيات-الأزهار، التي لم تتفتح بعد، واللواتي هن مُسوِّغ هذه الرواية وبطلاتها.
إذا كنت قد آثرت الاحتفاظ بكلمة سِكاتْريسْ، فذلك لأنها، مع احتفاظها بمعناها المتمثل في الأثر الذي يخلفه جرح في الجسد، قد صارت في أرض نوميديا، تصف أيضًا حالة، وضعا أو نظاما ما.
فإذا سمعتم أحدا يتلفظ بأسماء الفتيات-الأزهار، مسك الليل، ياسمين، وردة، زهرة، متبوعة، مثل صفة أو حرف بكلمة ندبة (وردة سِيكاتْريسْ على سبيل المثال)، فاعلموا أن وردة مومس. بغي. عاهرة تعمل لدى قواد.
والسِيكاتْريسْ التي تزين جسد وردة، (وكذلك اسمها)، هي علامة (إذ يقال أيضًا أنه تم وسم هؤلاء الفتيات) وضعِها المرئية والمسموعة معا.
قبل مواصلة هذا الاستطراد من خلال الكلمات، والذي بالكاد بدأ، أدركتُ أن بعضها، سواء اخترته أو فَرَضَ نفسه علي، بدءاً بالكلمة التي أدت إلى هذا الاستطراد، نوار؛ الترتيبَ التي جاءت عليه، واستدعاءَها كلمات أخرى كما تنادي أولى الطيور المهاجرة على بقية السرب؛ الخيوط السرية التي أخدت تنسجها فيما بينها؛ المشاعرَ المضطربة التي يثيرها بعضها، أو يحييها، في قلبي (وجسدي)، أدركتُ أن كل هذا يوقظ فيَّ شعورًا غامضا، ولكنه قوي ومفرح. وهو ما يعني أن القالب الذي تجسدت فيه هذه القصة التي سأرويها وبنيانَها قد تشكلا بالفعل، تقريبًا بدون علمي. ولم يبق لي سوى أن أنهي هذه الجولة مع الكلمات، كما يذهب المرء إلى نهاية نفق أو ليل.
لأنكم يجب أن تكونوا قد خمنتم أن فُتُوّات شبانا رائعين، القوادين، هم الذين وسموا الفتيات-الأزهار، الفتيات-السِّيكاتْريسْ.
فهل أستطيع من هذا العنف، من هذه الليلة، من بضع كلمات غامضة ومصفوفة: أزهار، بنات، قرحة، حبوب اللقاح، وسوم؛ من بعض الأسماء الفاتنة: ياسمين، زمردة، استلهام نشيد؟ استخلاص نظام؟ شعري.
النظام الوحيد المقبول.

2

رُوزْ، هل من حاجة لأن أشرح للقارئ ما يوحي به تلقائيا هذا الاسم، وردة، والذي يشير إلى امرأة؟
فوردة، فتاة في زهرة العمر، وردة في كامل رونقها.
لقد تغنى بها الكثير من الشعراء، ومن أوائلهم الشاعر الإغريقي الذي أنشد “الفجر ذو الأصابع الوردية” !، فهل أقول ببساطة إن وردة شَفَقِيَّة؟ هي التي تنام طوال النهار ولا تبدأ قداسها- فهي مومس في حانة -حتى ساعة منتصف الليل المصيرية؟ في ساعة تعاقب النهار و الليل هذه، منذ آلاف السنين، والفاصلة بين الواقع و الحلم، تولد وردة و تتربع على عرش ملكوتها مثل شمس منتصف الليل.
إذا كانت وردة شفقية، فإن الإشعاع المنبعث من أعلى صِدارِها الدِّكولْتِي وهي تنحني على الزبون، سيكون إشعاع شفق قطبي. سهلا فنلنديا أبيض، قطيعا من الأيائل اللامرئية الذي عليه أن يتدافع عند ظهوره، في خمارة شبه سرية حيث يُشَّغلها قوادها.
استعملت عن قصد كلمة خمارة troquet الشعبية الشائعة في فرنسا. فهي كلمة ساحرة بالنسبة لي، لأن تعرفي عليها تزامن مع لقائي بحب حياتي. فهل أقحمتها في هذه القصص الليلية القاسية والجميلة بدافع المازوشية؟ أو بالأحرى – لأعبر على عطفي على هؤلاء الفتيات- السِّكاتْريسْ اللائي رغم كونهن حقيقيات جدا، إلا أنهن على ما يبدو لي بنات أفكاري، وُلِدْنَ بالأحرى من سخطي وحبي؟
في الخمارة نفسها تشتغل أيضًا مسك الليل، صديقة وردة. تعمل هي التي تحمل اسم ليلة عطرة، مسكية الرائحة، خلال النهار. إنها مفترسة وفريسة (مفترِسة- فريسة) نهارية.
تَصْغُر صديقتَها وردة بسنة، وهي أم لطفل و تعمل أيضًا لصالح قواد. القواد السابق الذي كانت متزوجة منه مات. عندما تأتي على ذكره، وهو ما يحدث نادرا، تقول المرحوم بكل بساطة.
وردة ومسك الليل تقبلان بعضهما على الخدين، فيما يتصافح قواداهما بفحولة، في صمت. مسك الليل يقودها نَخَّاسها إلى بيتها، وفي الطريق سيجردها من القسط الأكبر من غنيمتها – غنيمة حربها، تلك التي امتصتها، كنحلة في حالة نشوة متزايدة، وجنون متصاعد، خلال النهار.
من جهته، يجلس قواد وردة على مقعد المُوليسْكين الأحمر ويتسلم عمله حارسا ليليا مهيبا. يشعل سيجارا. ولَّاعتُه الذهبية، خاتمُه الذهب، الذي نقش على فصه حرف واحد هو السِّين، يلمعان في الوقت نفسه. و كأنهن تعرضن لانْتِحاء ضوئي مفاجئ وغريب، تأتي الفتيات- السكاتريس، كسرب من الفراشات المذعورة، للجلوس-
(أ ليحترقن ؟) حول القواد.
القبلة العفيفة التي تبادلتها الصديقتان، كلمات التواطؤ اللطيفة التي همستا بها في مسامع بعضهما؛ المصافحة الفحلة الصامتة لقواديهما، في صمت، تبادل الأدوار الذي قامتا به: النوم بالنسبة لمسك الليل، مواصلةُ الطقوس التي كانت تحييها صديقتها وردة؛ أما القوادان، فأحدهما يعيد النعجة إلى الحظيرة، فيما يراقب الآخر التي توشك أن تُطلق وسط الوحوش؛ كل هذه الأحداث مرت تقريبا في لمح البصر، كما لو أنها وقعت خارج الزمن. زمن لا واقعي. حدث ذلك دون أن يثير الانتباه كما لا يلحظ أحد دوران الأرض حول الشمس.
نظام صارم غير قابل للتغيير، مثل الذي ينظم حركة الكواكب، عليه أن يستمر في تنظيم سير الخمارة، في هذه المدينة النوميدية البيضاء، في الكون الفسيح. فإذا كفت مسك الليل عن العمل في النهار، أو صارت وردة تنام ليلًا- أي أنها لم تعد شفقًا قطبيًا – سيكون ذلك بمثابة خلل في النظام الذي يفصل الطيور الجارحة عن فرائسها، والنهارية عن الليلية، اضطرابا في نظام الطيور والأزهار والكواكب.
عاهرتان مازالتا في سن المدرسة مثل قواديهما، تحملان على أكتافهما، في فرجيهما، وصدريهما، وسكاكينهما، حقيبتيهما- حقيبة مسك الليل من جلد التمساح، وعندما تتحدث عنها، تقول طبعا، بفخر: “إنها من جلد تمساح !” – تحملان ثقل نظام العالم.

ترجمة خالد الشبيهي.

* محمد لفتح MohamedLeftah،  (سطات، المغرب 1946- القاهرة- مصر 2008 )، كاتب فروكوفوني مغربي عاش حياته بين المغرب فرنسا ومصر. اشتغل بالمعلوميات و بعد ذلك بالصحافة الثقافية لاحقا. حصلت روايته “المعركة الأخيرة للكابتن نعمت”  المثيرة للجدل التي صدرت بعد وفاة الكاتب سنة 2010 على جائزة المامونية الأدبية لسنة 2011. من بين  رواياته كذلك  “طفل من رخام “، ” عنبر أو تحولات الحب”، ”  يوم فينوس” …  وجموعات قصصية من بينها “شهيد من زماننا” ،” حكايات العالم العائم”. بعد رحيله، خصصت للكاتب ابحاث، ندوات وأيام دراسية.

مقالات قد تعجبك
اترك تعليق

لن يتم نشر أو تقاسم بريدك الإلكتروني.