رابعة بلخي || أول شهيدة في الحب

محمد الحسين | مدار 24

“حين ترى القبح تخيله جميلًا، وإن تناولت سمًا، تذوقه سكرًا.”

رابعة بلخي
________________________

ذات يوم قرأ الشاعر الفارسي الكبير الرودكي قصيدة انبهر السامعون بها، ومنهم السلطان الحارث حاكم بلخ، فطلبوا منه المزيد، واستطرد الرودكي بأخرى، وثالثة وسط ترحيب حار بالشعر والشاعر، ثم قال الرودكي بعد ذلك : “أتعرفون أن هذه القصائد ليست لي. إنها لشاعرة عاشقة.” وقال ملك بخارى : “إن كان لابدّ من حبّ فليكن كهذا، وإن كان لامرأة أن تحب فلتكن مثل هذه الشاعرة”؛ وطأطأ الأمراء والفضلاء رؤوسهم.

قبل ان احدثكم عن رابعة البلخي يجب ان اذكركم بالمؤتمر العلمي الذي انعقد في طاجيكستان قبل خمسة عشر عاما، في عام 2010 في تخليد الشاعرة رابعة البلخي والذي كان عنوانه “رابعة بلخي ومكانتها في الشعر والأدب الفارسي” وذلك بحضور نخبة من الباحثين والكتاب والشعراء من 3 دول تتحدث نفس اللغة – أفغانستان وطاجيكستان وإيران- والذي أقيم في مدينة دوشانبي عاصمة طاجيكستان.

واذا صحت لاحدكم زيارة الى افغانستان فلا شك انه سيزور مقام شريف الذي ينسب لامير المؤمنين وسيجد هناك ساحة كبيرة ونصب تذكاري باسم رابعة البلخي، وربما سيصادف ايضا وجود عدد من الشوارع والمدارس باسم رابعة البلخي، وهذا لا يدل الا على عظمة هذه الشخصية واهميتها في تراث تلك الشعوب.

لا يخفى على الكثيرين ان ابو عبد الله الرودكي السمرقندي آنف الذكر هو ابو الشعر الفارسي، وهو اول الشعراء الذين كتبوا باللغة الفارسية، ورب سأل يسأل مجازا عن الام التي ولدت الشعر الفارسي، فإن كان الرودكي أبوه، فنقول بموافقة نخبة من الباحثين والمؤرخين ان رابعة البلخي هي ام الشعر الفارسي وهي اول امرأة كتبت الشعر باللغة الفارسية.

كان والدها حاكم بلخ من أصول عربية وهو من المهاجرين العرب الذين  استوطنوا في خراسان بعد الفتح الإسلامي لبلاد فارس، وكان من زعماء البلاط الساماني، حيث تولى حكم بلخ وقندهار، وفي بلخ التي كانت تعرف بأم المدن ولدت رابعة ونشأت في عصر الاوائل، في كنف عائلة الأمراء.

واسمها رابعة بنت كعب القزداري البلخي المعروفة بتخلص “رابعة بلخي” والتي تكاد تكون شخصية شبه اسطورية في الأدب الفارسي، انها تلك الفتاة التي كانت رشيقة القوام ذات العينين السوداويتين، فطنة وحادة الذكاء، فصيحة اللسان، حتى جاز لوالدها ان يطلق عليها لقب “زين العرب” بسبب حبه الشديد لها ولأدبها.

عندما نتحدث عن رابعة البلخي فاننا لا نذهب بعيدا عن المصادر الفارسية المهمة تلك التي تعرضت لتراجم وسير الشعراء والمتصوفين والعرفاء لا سيما ما ورد ذكره في اثار الرودكي، وفي تذكرة الاولياء لفريد الدين العطار، كما قد ذكرت سيرة رابعة العدوية او اعيد كتابتها ادبيا على يد ظهير الدين عوفي في لباب الالباب، وكذلك الشاعر نور الدين الجامي الذي اعاد روايتها في نفحات الانس.

وبداية قد نحتاج إلى بحث دقيق ومفصل فقط لتحديد تاريخ ولادتها ووفاتها، حيث ان المصادر التاريخية المتوفرة لا تضبط ذلك، غير ان ما نعرفه اصلا هو انها ولدت وتوفيت في بلخ، وانها عاصرت الشاعر الفارسي الكبير ابو عبد الله الرودكي، الاخير الذي عاصر الامير نصر الثاني الساماني، اي في النصف الثاني من القرن الثاني للدولة السامانية الذي يوافق القرن الرابع الهجري. كما من المؤكد ان رابعة البلخي قد توفيت قبل وفاة الرودكي، اي قبل عام 329 هجرية.

سُطر اسم رابعة البلخي الى جانب مهستي الكنجوية كأهم الاسماء البارزة في الشعر الصوفي الفارسي، ومن الشاعرات القلائل اللاتي برزت اصواتهن الى جانب الشعراء القدماء الكلاسيكيين في العصور الوسطى، في الوقت الذي كان فيه الشعر الفارسي لا يزال يشق طريقه الوعر بين الآداب العالمية سيما الادب العربي الذي كان سائدا على الامم في ذلك العصر.

إن ما نلمسه من رابعة البلخي هو ان صوتها الشعري الصوفي الفارسي في ذلك الوقت كان ينم عن عبقرية وجرأة لا نظير لها، وانها ارادت ان تساهم في ان تشق طريق الشعر الفارسي الكلاسيكي بعد أن عاشت اللغة الفارسية قبل ذلك قرنين من الصمت.

اتخذت حياة رابعة البلخي منعطفا جديدا بعد وفاة والدها كعب، وقد ورث ابنه الحارث شقيق رابعة الحكم، وانه جاء بخادم تركي الى القصر يدعى بكتاش. ونقف هنا عند محطة من اهم محطات حياة رابعة البلخي وهي التي اثرت في نبوغها وموهبتها الشعرية، واتخذت معها طريق التصوف والعرفان.

حيث تقول الرواية ان رابعة البلخي قد وقعت في غرام هذا الخادم التركي بكتاش، وبقي حبها له سرا، الا ان شقيقها الحارث بعد ان علم بهذا السر في احد الايام امر بحبس بكتاش في بئر وقام بقتل رابعة ثم حبسها في مرحاض مهجور.

وثمة ملخص أخر لهذه القصة ورد تجسيدها في تذكرة الاولياء لفريد الدين العطار :

“كان لحارث غلام اسمه “بَكْتاش”. في إحدى الحفلات الليلية رأت رابعة بكتاش، فوقعت في حبه. وبما أن حبّ الأميرة لغلام كان ذنباً لا يُغفر، فتكتمت رابعة، وصارت تكتب له القصائد وتصف حبها له بين المرض والضنى، إلى أن أصبحت طريحة الفراش.”

وتستمر القصة شبه الاسطورة على الشكل التالي :

“إن رابعة كتبت آخر قصائدها بدمائها على حائط المرحاض حتى ماتت، واما بكتاش فانه قد هرب من البئر بحيلة ما، ولما علم بنبأ رابعة، تجهز وقام باغتيال الحارث ثم انه جاء عند قبرها وقتل نفسه فوقها بعد ذلك.

كان لدى رابعة مربية لطيفة وحنونة تمكنت من انتزاع هذا الحب الخفي منها بالحيل. وأخيرًا، توسطت مربية رابعة، التي تدرك اهتمامها ببكتاش. حيث قامت رابعة بكتابة رسالة إلى بكتاش ورسمت صورة لنفسها وارفقتها بالرسالة وسلمهتا للمربية لتسليمها له.

 

عندما يقرأ بكتاش رسالة رابعة ويرى صورتها، يفقد قلبه  من شدة اشتياقه ثم يبعث إليها جوابًا، وتستمر هذه المراسلات السرية، وقد أرفقت رابعة العديد من القصائد الموجهة إلى بكتاش وأرسلتها إليه.

تعتبر قصة حب ربيعة ووفاتها من أكثر قصص الحب مأساوية التي وجدت في جميع أنحاء العالم، ورغم هذه القصة إلا أنها لا تزال مجهولة. حتى بين شعب أفغانستان. وفي المجتمع الأبوي في عصر رابعة، لم تتمكن إلا القليل من النساء من إظهار ذوقهن وفنهن وإيجاد مكان لهن بين شعراء عصرهن.

إن هذه العلاقة الغراميّة بين رابعة وبكتاش والتي كانت سببًا في نبوغ رابعة وفي ظهور شعرها الصوفي قد ألهمت الشاعر رضا قلي خان في تأليف مثنويه “بقتاشنامه” وهذا المثنوي هو من أكثر قصص الحب مأساوية وأشد حالات الفراق ألمًا، ذكره اغا بزرگ الطهراني في موسوعة الذريعة في الجزء التاسع عشر في تعديده للمثنويات الغرامية وقال أنه لرضا قلي هدايت، ويطلق عليه عنوان أخر وهو “منظومه گلستان ارم” والذي يتكون من أربعة وأربعين فصلاً بمجموع ما يتجاوز الألفين بيت، وتبدأ قصة بكتاشنامه في الفصل الرابع عشر حتى الابيات 2342

ورضا قلي خان هدايت هو شاعر وكاتب قاجاري عاش في عهد محمد شاه وناصر الدين شاه القاجاري ولد وتوفي في طهران، وأطلق عليه لقب أمير الشعراء.

ويجدر الذكر هنا أن فريد الدين العطار قد جسد أيضاً قصة بكتاشنامة قبل ذلك في مثنويه “إلهي نامه” وتتناول رواية العطار جزءًا من حياة رابعة بعد وفاة والدها وحتى وفاة رابعة المأساوية.

لقد تلقت رابعة البلخي تعليمها على يد والدها وقد اجادت اللغة الفارسية الدرية، وكانت تمتلك موهبة وذوق عالي، ويذكر أنها ألتقت الشاعر أبو عبد الله الرودكي، وتأثرت به. وإلى جانب الشعر كانت رابعة أيضا مهتمة في الفنون سيما فن الرسم.

من المؤسف جدًا أن جميع ما كتبته رابعة البلخي من الشعر قد فقد، حيث كان شقيقها الحارث كما أشرنا مسبقا قد حاول طمسها واخفائها جسدًا وشخصية، ولم يبقى من شعرها سوى بعض القصائد التي تناقلها الرواة. ولكن ما هو موجود من شعرها يدل على جدارتها وذوقها الرفيع، حسب اتفاق رأي الرواة والباحثين، ويثبت ذلك أن فريد الدين العطار وسائر الرواة الآخرين لم يبالغوا في مدح شعرها.

دفنت رابعة في حديقة صغيرة في “بلخ” ولا يزال قبرها موجودًا هناك ويقال أن بكتاش مدفون في نفس المكان، ويذكر أنه بين فترة وأخرى يأتي الكثير من الناس في افغانستان لزيارة ضريحها، والذي يعد مكانًا نبيلًا ومحترمًا.

لم يترجم شعرها إلى اللغة العربية حتى الآن، وقد صدرت في افغانستان وايران كتب ودراسات عديدة حولها منها كتاب “رابعه ى بلخى مام مهربان شعر پارسى” للمؤلفان وحيد حسيني عطار وخليل حسيني عطار، كما صدر كتاب “رابعه دختر كعب” لمؤلفه ناصر نجمي، وايضاً كتاب “رابعه” لحسينقلي مستعان، وكتاب “رابعه” لفؤاد فاروقي، وفي العام 1974م أخرج “صدق براماك” فيلم “رابعة بلخي”، وهو أول فيلم أفغاني في أستوديوهات أفغانية خاصة، كما قام محمد رضا هنرمند باخراج فيلم “السمفونية التاسعة” الذي جسد به قصة حياة رابعة بلخي.

مقالات قد تعجبك
اترك تعليق

لن يتم نشر أو تقاسم بريدك الإلكتروني.