يانيس ريتسوس شاعر وكاتب يوناني، يعتبر واحد من أعظم الشعراء اليونانيين ومن أهم الشعراء في العالم في القرن العشرين، رشح عدة مرات لجائزة نوبل للآداب لكنه لم ينالها بسبب توجهه اليساري، ولد عام 1909م في مونوفاسيا، وتوفي بأثينا عام 1990م بدأ بنشر أولى قصائده عام 1924م وترجمت أعماله إلى معظم لغات العالم، كما تناول نقلها للعربية مترجمون وشعراء عديدون، وترك نحو أكثر من مئة عمل شعري وأدبي، وقد كتب الشاعر سعدي يوسف الذي قام بترجمة عدد من قصائد ريتسوس : “لقد أحسست دائماً وأنا أقرأ ريتسوس أن وراء قصيدته جهداً عظيماً وروحاً مصفاة، أوصلت قصيدة الحياة لديه، إلى هذه القطعة الغريبة من البلور”.
________________________________
1- نحن والتماثيل
لا تكترثُ التماثيل الهادئة لآفات الدهر ؛
تُقطِع أذرعها، أرجلها أو رؤوسها
وتظل دائمًا منتصبة، بالثبات نفسه،
أو مستلقية على ظهورها وتبتسم،
أو بأنوف ممرغة في التراب، وهي تدير لنا ظهورها،
وتديرها للزمن
كأنها في جِماع، كأنها منغمسة
في حب لا نهاية له، بينما ننظر إليها
في تعب وحزن لا يوصفان. بعدئد
نعود إلى الفندق الحقير، ونسدل الستائر
لنحجب نور الظهيرة الساطع و وننشغل،
عراة بالكامل نحن أيضا، مستلقين على السرير المُتهالك
بتقليد السكون الهادئ للتماثيل.
.
2- سُلَّم
هذا السُّلم الذي كان يؤدي إلى الشرفات الكبيرة
وقمم الأشجار العالية
الذي كانت تصعده العجائز السبع
حتى صارت لهن أجنحة تحت قمصانهن.
في زمن أعمى، عار و موحش
ها هو الآن ملقى على الأرض
يغطيه القُرَّاص شيئا فشيئا
يتحول إلى تراب، يتحول إلى عشب
تنخره النمال والديدان.
.
3- عمله الأخير
هذا عملي الأخير – قال، وشاح فلاح، كبير
جدا بمربعات زرقاء وبيضاء.
أطويه، أبسطه، وأمسح عرقي
وأحيانا عيني. أجمع فيه كل أمتعتي،
بضعة كتب، أريكة، سجائري، ولَّاعتي،
مرآة الحلاقة المكبرة، و المرآة الأخرى،
المُصَغِّرة التي أستخدمها لرؤية الأشياء غير السارة
أو تلك التي يقال إنها خيالية.
في هذا الوشاح،
ثمة ثقب في الوسط يدخل منه
طائري في أحلك الليالي ،
طائري السري التي يقفز على كتفي أو ركبتي
ليطعمني حبة، نجمة أو دودة .
.
4- الأشياء الأولية
بصعوبة، بإبرة كبيرة، خيط سميك،
يخيط أزرار المعطف. يتحدث إلى نفسه :
هل أكلتَ خبزك؟ هل نمت بسلام؟
هل استطعت الكلام؟ مدَّ يد العون؟
هل تذكرتَ أن تنظر من النافذة؟
هل ابتسمت عندما طُرِق الباب؟
إذا كان هناك موت دائما، فهو الثاني.
الحرية دائما هي الأولى.
.
5- بلدتنا
ذهبنا إلى التل لنرى بلدتنا-
بضع أراض فقيرة وحجارة وأشجار زيتون.
دوالي تمتد على طول البحر.
بالقرب من المحراث،
دخان حريق صغير. ملابس الجد
جعلناها فزاعة للغربان
أيامنا تمضي من أجل القليل من الخبز والكثير من النور.
تحت أشجار الحور تلمع قبعة من القش.
الطائر على السياج. البقرة تحت أشعة الشمس.
كيف تمكنا بيد من حجر من تجهيز
بيوتنا، حياتَنا؟ على إطارات أبوابنا،
ما يزال هناك دخان شموع عيد الفصح-
صلبان سوداء صغيرة يرسمها من سنة لأخرى ،
الموتى الذين يأتون للإحتفال بعيد القيامة. نحن نحب كثيرا هذه البلدة.
بصبر، بفخر. كل ليلة تخرج الثماثيل
من البئر الجافة
بحذر وتتسلق الأشجار.
.
6- قاب قوسين أو أدنى
امرأتان (ربما الأم وابنتها) بوشاح أسود
تظهران في البيت عبر الباب المفتوح على مصراعيه
تجلسان على الأريكة القديمة. لا تتحركان.لا تتكلمان.
أمامهما على المائدة، خبز وعلى الكرسي القط.
في الخارج يتلألأ البحر، صوت الزيز يعلو. سرب سنونو
يسجل على الهواء شيئا مضى و لن يعود
ولكن في الوقت الذي كنت على وشك اكتشاف مغزى حياتي
قامت العجوز وأغلقت الباب.
.
7- إعتراف صعب
أنا من أخد المسامير والألواح. فلا تشي بي.
كان بإمكاني أن لا أخبرك بأي شيء .لم أستطع. في الوقت الذي يدق فيه الآخرون عراة بمطارقهم، صعد،
أنيقا جدا بربطة عنق. و أفرد ورقة خطة البناء
وأشار بأصبعه. أرعبني. كانت المطارق قد توقفت.
الآن أعرف الفرق بين الورق والحديد. العالم
موزع إلى قسمين. سواء أقررتَ بذلك أم لا – و هذا لن يوحد بينهما .
.
8- مشهد عام
قال، كما ترى الآن، هذا هو المكان الذي ستعيش فيه.
هنا. هل يهم ،
هنا أو هناك؟ – بعضهم ينزل والبعض الآخر يصعد
الدرج نفسه ولا يحيون بعضهم . نافذة تُغلق
و نافذة أخرى تفتح. المنظر نفسه : الوادي، تلة،
رجل عجوز يسير تحت الشفق وحده
بعكازه
وأشجار الزيتون والكروم والمشنوق والسرو والحور،
الجرس، النهر، الكلب، الحافلة، إبريق،
تماثيل، تماثيل، أجنحة رخامية كبيرة
حتى وإن كانت على كتفيك، هل تعتقد
أنه بإمكانك الطيران؟
.
9- المجد
لم يعد بإمكانك أن تتعرى
ولا أن تطبق عينيك.
السبيل الأكثر مرارة
لتعويض الحياة،
هو المجد.
.
10- تخليد ذكرى
في ركن من القاعة يجلس الجد
وفي الركن الآخر عشرة أحفاد
على المائدة تسع شمعات مثبتة في
الخبز
الأمهات ينتفن شعورهن فيما الأطفال صامتون
وعبر الكوة الحرية، الحرية تنظر وتتنهد.
.
11- التعميد الثاني
كلمات تعيسة
مبللة بالدموع، مبللة بالمرارة
هو ذا تعميدها الثاني
الطيور التي تبتكر أجنحتها
شرعت في الطيران، وبدأت في التغريد
وهذه الكلمات التي نحجبها
هي كلمات الحرية
أجنحتها سيوف
تمزق الريح.
.
12- أقبل الليل
تم تأجيل احتفال الليلة .
ولم نكن نعرف حتى ما اذا كان الحفل جنازة أم فرحا
أُشعلت الأضواء وسرعان ما أطفئت
من النافذة رأينا الموسيقيين.
يصعدون الشارع في صمت
يحملون على أكتافهم
آلاتهم النحاسية الضخمة.
أمكثْ هنا إذن ،
دَخِّنْ سيجارتك
وسط هذا الهدوء الهائل ،
وسط هذا العدم- المعجزة ،
صمٌّ بكمٌ هي الثماثيل
صم بكم هي القصائد أيضا.
لقد أقبل الليل.
.
13- شيخوخة
أي نعم، إن التماثيل والقصائد أيضا تشيخ.
لقد ساهم الكثيرون في هذه القصة
الناس، الحيوانات، الأطفال، الأنهار، الأشجار،
الأولاد والبنات على دراجات نارية، و بطتين بيضاوين.
الأحمق قليل الكلام بعقب سيجارته وقطعة خبز جاف ؛
كان الوقت حينئد ظهيرة صيفية، ظهيرة ذهبية؛ رأينا
ريش دجاجة مذبوحة يرفرف، وهو يلمع في الهواء.
كانت العمة إيفانجيليا تنظف البامية في المطبخ،
فحطت فراشة كبيرة على المَمْلَحة.
في تلك اللحظة
لا أحد، لا أحد كان يظن
أن الاشياء المنذورة للزوال تصير أسطورة. في المحطة،
جلست امرأة عجوز ترتدي ملابس سوداء على مقعد
تشد سلة من البيض بوزرتها كما لو كانت
الشيء الوحيد
الذي بقي في العالم. نامت . وأقبل الليل.
أي نعم، إن القصائد وذاكرة الأبطال أيضا تشيخ.
.
14- ضيق
غيرتْ ماء المزهرية. الأقحوانات الذابلة،
ألقت بها في سلة المهملات. ووضعت مكانها أخرى جديدة.
بقي على أصابعها قليل من الندم الذي نشعر به دائما إزاء
ما ننساه أو نؤجله إلى وقت لاحق. في الجهة المقابلة،
من النافذة
كان الرجل العجوز يرفع سلة شُدَّتْ بطرف خيط.
في السلة دمية قديمة بلا ذراعين.
.
15- عودة
غادرت التماثيل أولاً. بعدها
جاء دور الأشجار والبشر والحيوانات. فأضحى المكان مهجورا بالكامل . لم يبق إلا الريح.
تطايرت الصحف والشجيرات في الشوارع.
وفي المساء أضاءت الأنوار لوحدها.
عاد رجل ونظر حوله،
أخرج مفتاحه ودفنه في التراب
وكأنه يسلمه إلى يد تحت الأرض،
أو كأنه يغرس شجرة. ثم قام وصعد
الدرج الرخامي ونظر إلى المدينة طويلا.
واحدا تلو الآخر، كانت التماثيل تعود وهي تتوخى الحذر
.
16- صانع الفخار
في أحد الأيام أنهى الأباريق، أواني
الزهور والقُدور. بقي له
القليل من الطين. فقام بتجسيد امرأة.
نهداها
مكتنزان و نافران. عاد إلى البيت في وقت متأخر.
عبرت زوجته عن استيائها. لم يرد.
في اليوم التالي
احتفظ بالمزيد من الطين
والمزيد في اليوم التالي.
ولم يعد إلى البيت. هجرته
زوجته .
التهبت عيناه. نصف عار.
بحزام أحمر حول الخصر.
ينام الليل كله مع نساء من خزف. عند طلوع الفجر
نسمع غناء خلف جدران ورشة
الفخار .
خلع حتى حزامه الأحمر. عار، عار بالكامل.
ومن حوله،
الأباريق الفارغة، القدور الفارغة، أواني
الزهور الفارغة
والنساء الجميلات العمياوايات- الصمَّاوات- البكماوات
بنهود عليها آثار عض.
.
17- حكاية دون أهمية
في صغرها صنعوا لها خرمين في أذنيها ، لوضع الأقراط، حسب ما قيل لها.
كبرت وتزوجت وصار لها أولاد. لم ترتد أقراطا قط. ذات مساء، قال لها ابنها الأكبر: ” أمَّاه ، يجب أن أذهب الآن ، لكن يومًا ما سأجلب لك – ثقي بي – أقراطًا من الفضة الخالصة، تكون طويلة حتى تلمس كتفيك. ” ابتسمت ابتسامة غامضة. قالت له: “يكفيني أن تعود إلي ، يا بني”.
مرت سنوات. تزوج الابن. وصار له أولاد ولم يأتها بأي أقراط ؛ تقدمت الأم في السن، وانحنى ظهرها. وصارت أذناها تلمس أكتافها . كانت تقول لنفسها دائمًا إن عليها أن ترسل له مقاساتها، وإن على الأقراط ألا تكون طويلة.
ثم ذات يوم ، انشطر الخرمان في أذنيها فجأة وتدليا . فأدركت أن ابنها قد مات.
.
18- البيت الغريب
بوابة الحديقة – صدئة. نباتات تتسلق
البيت الغريب
تغطيه إلى حدود السقف. أهل البيت غائبون
منذ سنوات، ربما ماتوا. منذ أيام
وهو يطوف حول هذا البيت كما لو كان يحاول
أن يكشف النقاب عن سر فجأة
وكأنه يحاول استكشافه من الداخل. ذات مساء،
طرق الباب بالمطرقة البرونزية بإصرار.
فتح له تمثال البهو. دخل.
صعد الدرج. لا شيء. الستائر
تتدلى، أغلقتها الظلال. المرايا
تعكس ارتباك صمت الأثاث و آلة
البيانو.
رائحة غبار حزينة و خشب نخرته الديدان
وشبهات سرية. على الطاولة المغطاة بالدانتيلا،
قفص بداخله طائرا كناري ميتان. لا أحد.
تمكن بصعوبة من فتح نافذة لإلقاء نظرة على
البحر.
بحر الشفق الأرجواني والذهبي. قارب شراعي
يختفي
غارقا في رحابة المشهد. و فجأة،
شعر بتمثال القاعة واقفا خلفه
وهو يدخن سيجارًا كبيرا لرب البيت الفقيد.
.
19- خسارة
صحف قديمة ملقاة في الفناء. الشيء
نفسه دائما :
اختلاسات، جرائم وحروب. فماذا عسانا نقرأ؟
يحل مساء صدئ. أضواء صفراء.
الذي كانوا يؤمنون أمسٍ بالخلود قد هرموا.
من الغرفة المجاورة يتصاعد بخار الصمت.
الحلزونات
تتسلق الحائط. و الصراصير تتمايل
في علب بسكويت حديدية.
نسمع طنين الفراغ. ويد ضخمة
مشوهة
تزم الفم النبيل والحزين
لمن سعى مرة أخرى أن يتلفظ
بكلمة ز ه ر ة.
.
20- مشهد ليلي
في الليل، وحيدا، ينضو ثيابه، يشعل
الأضواء كلها في الصالة الكبرى
ينتعل حذاء زوجته المتوفاة ذا الكعب العالي،
يتعثر في خطوته.
يرتدي فستانها. إنه شفاف. نرى غابة
صدره،
نرى أيضًا ندبة استئصال الزائدة الدودية. في المرآة
يمر القطار محملا بالثلاجات و الصناديق
البلاستيكية .
يمتلئ المنزل بالدخان. يخرج إلى الشرفة. في
النافذة المقابلة
لاعبا كرة القدم اللذان يشعلان الأضواء ،
و اللذان يخلعان ملابسهما أيضا ، اللذان يلوحان له.
عبر الباب الداخلي للغرفة الكبيرة المضيئة،
نرى البهلواني الصغير وهو يدخل بقميصه المتعدد الألوان ،
في توازن على كرة جلدية.
يدخل ويتناول الزهور الجافة في المزهرية، ويرميها واحدة تلو الأخرى على وجهيهما.
في الشارع ، نسمع موكب الدراجات النارية.
بالكاد نجح في إخفاء الحذاء الأبيض في الدرج وضم. يديه.
______________________
* خالد الشبيهي : شاعر ومترجم مغربي
