الفجوة الرقمية :
نحن نعيش اليوم في عصر الثورة الرقمية، حيث أصبح التعميم الرقمي في شتى جوانب الحياة أحد أهم العوامل الرئيسية لتحديث المجتمعات وتقدم الأمم، وفي الوقت ذاته، أخذت ( الفجوة الرقمية – Digital Divide ) تزداد اتساعًا بين الدول المتقدمة التي تستخدم إنجازات الثورة الرقمية على أوسع نطاق في الحياة اليومية، وفي البحوث العلمية وميادين الأقتصاد والصحة والتعليم ومجالات عديدة أخرى، وبين الدول المتخلفة، التي أخفقت لحد الآن في توظيف هذه الإنجازات وفق خطط علمية مدروسة في تطوير مجتمعاتها.
وعلاوة على ذلك، ثمة فجوة رقمية أخرى داخل كل مجتمع. ففي الدول الصناعية المتقدمة، نجد أن الأغلبية الساحقة من السكان تمتلك مهارة إستخدام الكومبيوتر والبرامج والتطبيقات المتصلة بها، وتتوفر لها إمكانية الدخول الى الشبكة العالمية للمعلومات (الأنترنيت) بكل يسر وسهولة ودونما إنقطاع وفي شتى الظروف والأمكنة مع وجود أقلية ضئيلة لا تحبذ الدخول الي الشبكة لأسباب سنتطرق اليها في الفقرات اللاحقة.
الأمية الالكترونية :
أما في الدول النامية، فأن استخدام الكومبيوتر الشخصي والدخول إلى الأنترنيت يقتصر على فئة محدودة من الطبقة المتعلمة الميسورة، أما أغلبية السكان فأنها وان كانت تستخدم الهواتف النقالة على نطاق واسع ، الا أنها لا تزال تعاني من (الأمية الالكترونية) وقطاع لا يستهان به من هذه الأغلبية يعاني أيضًا من (الأمية الألف بائية)، وبتعبير آخر، فأن مفهوم الأمية اليوم لا يقتصر على من يجهل القراءة والكتابة، بل يشمل أيضاً من لا يعرف استخدام الكومبيوتر والأنترنيت .
الأمية المركبة :
(الأمية المركبة) بشقيها الألف بائي والالكتروني، لم تعد مقبولة في العالم الرقمي الجديد، ولدى منظمة اليونسكو والمنظمات الدولية الأخرى ذات العلاقة، برامج طموحة للقضاء على (الأمية المركبة) التي تعرقل تقدم البلدان النامية، في زمن أصبحت فيه تكنولوجيا المعلومات القاعدة الأساسية لمجتمع المعرفة. ولم يعد استخدام الكومبيوتر مع بزوغ الألفية الثالثة ترفًا، بل أصبح ضرورة ملحة وعنصرا أساسياً لا غنى عنه في الحياة. وعلى كل انسان معاصر يعيش في عصره وليس في الماضي ، أن يمتلك مهارة إستخدامه، وبعكسه يعد في عداد الأميين الذين لا يتيسر لهم الاستفادة من ثورة المعلومات، وكأنهم خارج عصرنا الرقمي الجديد .
الأمية الوظيفية :
في عالم اليوم، نرى أن الأنشطة الاقتصادية والتخصصات العلمية والمهن الهندسية والطبية وغيرها، تتطلب الى هذا الحد او ذاك امتلاك مهارة استخدام برامج الكومبيوتر واجادة التعامل مع الانترنيت. وكل خريج معهد أو جامعة أو أي شخص آخر يأمل في الحصول على عمل او وظيفة في تخصصه العلمي أو المهني، عليه معرفة المباديء الأساسية لهذا الأستخدام ,وقد ظهر في السنوات الأخيرة ، مصطلح آخر – شاع أستخدامه لدى الباحثين في الغرب – لا يختلف في مفهومه كثيرا عن (الأمية الالكترونية) وهو مصطلح ( الأمية الوظيفية – Functional illiteracy ) و يشير الى وجود فئة من الموظفين في مؤسسات الدولة – أي دولة – لا تمتلك المعارف والمهارات الضرورية ، التي لا غنى عنها للأداء الوظيفي الجيد على وفق المعايير الحديثة في هذا المجال .
وتشير البحوث الميدانية الي ان أكثر من نصف وقت العمل الوظيفي في المجتمعات المتطورة يصرف على معالجة ونقل وخزن المعلومات ، بمعنى أن الخريجين الجدد من الجامعات والمعاهد ليس في الغرب فقط ، بل حتى في بلادنا ، لن يجدوا وظيفة او عملا ذهنيا او حتى كتابيا من دون اتقان التعامل مع الكومبيوتر والإنترنيت وينتهي بهم الأمر اما الى البطالة أو القبول بأي عمل جسدي بعيد عن تخصصاتهم .
وكان رئيس الوزراء الروسي الاسبق ديميتري ميدفييف – وهو من أشد المنادين بضرورة التعميم الرقمي في جميع مفاصل الحياة – قد حث موظفي الدولة على وجوب الإلمام بأساسيات ( تكنولوجيا المعلومات ) قائلا : ” ينبغي الإستغناء عن خدمات الموظفين ، الذين لا يعرفون استخدام الكومبيوتر ؟ ان الموظف الذي لا يستطيع انجاز وثيقة بشكلها الالكتروني أو الذي يخشى إستخدام الكومبيوتر ينبغي ان يستغنى عن خدماته في دوائر الدولة .اننا لا نعين موظفين اميين في المؤسسات الحكومية واستعمال الكومبيوتر اصبح جزءاً مهما من معرفة القراءة والكتابة الحديثة.
باحثون في بركة سباحة :
ان الأسباب الكامنة وراء ( الأمية الالكترونية ) و ( الأمية الوظيفية ) عديدة ومتباينة لدى الفئات العمرية المختلفة ، وقد دلت التجارب العلمية أن قدرة وامكانيات الأنسان في التعلم تقل تدريجياً بتقدم العمر وان كبار السن يجدون صعوبة في تحصيل علوم واتقان مهارات جديدة وبضمنها اساسيات تكنولوجيا المعلومات وإستخدام الكومبيوتر.
لذا نجد في بلادنا كما في البلاد الأخرى ان عددا كبيرا من كبار السن المتعلمين ، بينهم عدد لا يستهان به من أصحاب الشهادات العليا وحتى اساتذة الجامعات ، لا يستطيعون استخدام الكومبيوتر والأنترنيت للحصول على المعلومات التي تهمهم اويحتاجون اليها سواء في حياتهم اليومية او أعمالهم او في بحوثهم ، .وان كان كل هؤلاء شأنهم في ذلك شأن الأميين ، الذين لا يعرفون القراءة والكتابة وأشباههم من أنصاف المتعلمين يستخدمون الهواتف النقالة بفعالية .
الفئة الأكبر سناً من المشتغلين بالأعمال الفكرية والذهنية تعتقد ان الكومبيوتر والانترنيت لهو ولعب لا يليق بها ، وان من مستلزمات الوقار والهيبة هو الإبتعاد عن هذه البدع ، التي يعجز معظم أفرادها عن فك رموزها .وتفضل اللجؤ الى مصادر المعلومات التقليدية ( الكتب و المطبوعات الدورية والوثائق الورقية ) للحصول على المعلومات، التي تتطلبها أعمالهم وبحوثهم.
واذا كانت المصادر التقليدية للمعلومات حوض سباحة أو حتى بحيرة صغيرة ، فأن مصادر المعلومات الجديدة ونعني بها الشبكة العالمية للمعلومات بحر لا نهاية له .
أسباب أخرى لمقاطعة الأنترنيت :
ثمة شرائح في المجتمع لا يثير الانترنيت اهتمامها ، نظراً لأسلوب حياتها ، حيث ان طريقة عيشها تستند الى التقاليد والعادات والأعراف ، وهي في العادة تتمتع بمكانة اجتماعية وظروف مستقرة ولديها علاقات اجتماعية واسعة ووثيقة ولا يلعب الانترنيت دورا ملحوظا في حياتها اليومية .
كما لا يشكل الأنترنيت ضرورة حياتية لدى سكان الأرياف في البلدان النامية ، الذين لا يتطلب نشاطهم العملي وطريقة حياتهم ونمط ثقافتهم استخدام الأنترنيت ،وهذه الظاهرة تشمل سكان الأرياف حتى في بعض البلدان المتطورة ولكن بدرجة أقل بطبيعة الحال ، بعض هؤلاء يريد العيش بالطريقة التقليدية ويرفض استخدام الأنترنيت بمحض أرادته ، والبعض الآخر لا تصل اليه خدمة الأنترنيت ، لأن شبكات الاتصالات لا تغطي مناطقهم .أي ان السبب تكنولوجي وليس شخصي .
ووفقا لدراسة حديثة شملت ( 185 ) بلداً بما فيها العراق، فأن متوسط سرعة الأنترنيت متفاوت من بلد إلى آخر وحتى داخل البلد الواحد .
وعلى اية حال لا ينبغي المبالغة في أهمية سرعة الأنترنيت ، لأنها ليست الا سببا ثانويا في عدم أنتشار الانترنيت على نطاق واسع ، سواء في العراق أو في أي بلد آخر في العالم . والأهم من ذلك هو العلاقة بين (الأمية الالف بائية ) و ( الأمية الالكترونية ) ، لأن استخدام الأنترنيت يتطلب معارف يحصل عليه الأنسان في مقتبل عمره خلال دراسته ، في حين أن استخدام الهواتف النقالة أبسط بكثير ولا يتطلب تعليما مسبقاً .
ان الافتقار لأنظمة تعليمية حديثة تواكب الاتجاهات الرئيسية للتقدم العلمي – التكنولوجي المعاصر ، هو السبب الرئيسي لـ ( الأمية الالكترونية ) وليس تردي الأوضاع الاقتصادية او العادات والتقاليد الاجتماعية فقط . ومن أجل أشاعة الوعي المجتمعي بأهمية تكنولوجيا المعلومات ، لا بد من تدريس أساسيات هذه التكنولوجيا ، منذ المراحل الدراسية الأولي ، كما هو معمول به في الدول المتقدمة . حيث يتم تدريسها كمقرر أساسي الى جانب العلوم الأخرى .
حركات وتيارات مناهضة للأنترنيت :
وصفوة القول، أن استخدام تكنولوجيا المعلومات من مقومات تحديث المجتمعات ولكن ثمة دائما أشخاص لا يستخدمون الأنترنيت . فهل يعني هذا أنهم معزولين عن العالم ؟
لا شك أن مثل هؤلاء ينتمون الى اوساط معينة –لا يشكل فيها الانترنيت قيمة عالية ، وهي أوساط ما تزال موجودة في كل انحاء العالم .
وعلاوة على ذلك ، ثمة نخب فكرية وثقافية ، في البلدان المتقدمة ، ترفض العالم الإفتراضي عن وعي وادراك وقناعة ، وقد ظهرت في تلك البلدان – التي لن تجد فيها بقعة ليس فيها خدمة الأنترنيت السريع ، الا ما ندر– حركات اجتماعية وتيارات فكرية تدعو الى مقاطعة الأنترنيت ، الذي يستحوذ على اوقات الراحة ويحرم الناس من التواصل الإجتماعي الحي مع الأقارب والمعارف وزملاء الفكر والمهنة ، و يسبب أحياناً العزلة عن المجتمع أو الكآبة . كما ان قضاء ساعات طويلة أمام الكومبيوتر يؤدي الى قلة الحركة ، التي تشكل – كما يقول الأطباء – احدى الأسباب الرئيسية للإصابة بأمراض شتى وفي مقدمتها أمراض القلب .
ورغم الإنتشار الواسع والشامل للأنترنيت ، الا أنه ليس مفتاح السعادة والنجاح دائماً، رغم ان الشركات التي توفر خدمة الأنترنيت تحاول أقناع الناس على النقيض من ذلك .