نال الشاعر والمتصوف الفارسي سعدي الشيرازي مكانة كبيرة لا في بلاد فارس فحسب بل وفي الثقافة العربية والعالمية، ما جعل شعره محل دراسات متعددة، إذ يحضر الشاعر مؤكدا على دور الشاعر لا الجمالي فحسب في القصيدة بل وحتى الأخلاقي والسياسي، إذ كان صوت الناس في الثورة والأخلاق.
إن واحدة من الشخصيات التي ما تزال مثيرة للجدل في الوسط الأدبي الكلاسيكي في إيران هي شخصية الشاعر سعدي الشيرازي الملقب بشاعر الإنسانية، إذ تحيط بهذه الشخصية الحاضرة على الدوام في الذاكرة الإيرانية هالة من القداسة والتعظيم، ربما لم ينلها شاعر قبله ولا بعده، مما جعل الباحث الإيراني علي الدشتي يضعه في وصف “إله الأدب الفارسي”، وهي منزلة لم ينلها أي شاعر من شعراء الأمم، معتبرا أن شعره عند الفرس بمنزلة النص المقدس، وربما هذا هو ما يستوقفنا دوما للتعرف على هذه الشخصية والبحث في آثارها، وأهميتها في أدب وثقافة إيران ماضيا وحاضرا.
لقد اكتسب سعدي الشيرازي منزلة رفيعة بين أدباء الفرس وشعرائهم، وتبوأ مكانة سامية على مر العصور ليس في إيران فحسب، بل في جميع الأمصار، كان اسمه أشهر من نار على علم سواء في الماضي البعيد أو في الحاضر، حتى صار مشهورا بلقب شاعر الإنسانية، وقد وصلت أشعاره إلى معظم لغات العالم، ولم يحرم منها القاصي والداني، تلك الأشعار المتخمة بالحكمة والموعظة والمثل الإنسانية والتي ظلت خالدة عبر الأجيال، وطافت العالم بمعظم لغاته.
لكن ثمة اعتراف مختلف يكتنفه الكثير من الغموض الذي يلف شخصية سعدي الشيرازي، والكثير من الصعاب التي يتعرض لها الباحثون ويحاولون جاهدين الوصول إلى حلها وقطع الشك عنها، سواء في ما يخص حياته وتفاصيلها وأحوال عصره، أو في ما يخص آثاره وموضوعاته. فالخلاف يقع في مواطن عديدة حول الشاعر عند الباحثين الإيرانيين أو العرب أو المستشرقين الأجانب، حتى على سبيل المثال في اسمه وتاريخ ولادته ووفاته وسبب كنيته.
• شاعر الإنسانية
سعدي الشيرازي ترك شعرا مكتوبا بأسلوب جزل وواضح متخم بالقيم الأخلاقية والأدب الرفيع ونظم موسيقية فريدة
ابتداء من عبدالعظيم الكركاني، الذي يعد أحد أهم من تعرض لدراسة سعدي الشيرازي وآثاره قديما، فقد ذهب إلى القول في مقدمته لكتاب سعدي “الكلستان” إن حياته مشكوك فيها وأنه لا يمكن أن نعلم صحة ما وصلنا عن حياة سعدي ونشأته وأسفاره ومعاصريه. ويؤيد ذلك المستشرق آربري الذي يقول إن الأخبار التي وصلتنا عن سعدي الشيرازي وللأسف الشديد ضعيفة الثقة، ولا نمتلك ما يسند ويثبت صحيح تلك عن غيرها.
لقد عاش سعدي الشيرازي، واسمه مصلح الدين، في القرن السابع الهجري وقد مضى على وفاته أكثر من ألف سنة، وقد عمر سعدي حتى الأربعة والخمسين عاما، فالعصر الذي شهده كان مضطربا وتتخلله حالة من الانحطاط والهمجية، لاسيما ما يتعلق بكوارث المغول وحروبهم التي أكلت الأخضر واليابس بدءا من خوارزم حتى العراق.
ولأنه ولد في شيراز وقضى فيها بعض طفولته، لم يكن حبيسا فيها، فقد هام في أسفاره إلى الأناضول والشام ومصر والعراق، وقد أكمل دراسته في بغداد، وتعلم عند مشايخها، وشد رحاله إلى مكة كما زار البيت المقدس، ووصل إلى شمال أفريقيا، ثم عاد إلى مسقط رأسه في شيراز حتى وفاته عام ستمئة وتسعين أو أربع وتسعين هجرية.
ولتوضيح حالة العصر الذي عاش فيه الشاعر، نذكر أنه قبل سبعة عقود من الآن ألف الدكتور محمد موسى هنداوي كتابه الضخم باللغة العربية “سعدي الشيرازي شاعر الإنسانية” وكتب فيه يقول “مجتمع مريض تناوبته أمراض مختلفة، فكان الشاعر أمام هذا المجتمع بمثابة الطبيب، أو بمثابة المصلح الاجتماعي، يرشد هذا المجتمع الذي أخذ يهيم في الحياة الجديدة (…) بل كان الشاعر بمثابة رسول أرسلته البيئة الإسلامية لإنقاذها مما أصابها وأصاب المجتمع عامة”.
في التعليق على كلام الدكتور هنداوي يتضح دون أدنى شك أن سعدي الشيرازي كان وبجدارة “نبيا مرسلا”، ولا أعتقد أن ذلك كان بالمعنى المجازي فحسب، فقد كانت لديه رسالة، وهدف، وكان لديه كتاب، ووحي ومعجزة (أدبية)، وليس بينه وبين الأنبياء والمرسلين سوى خيط رفيع يتمثل عندهم بالوحي الإلهي، وعنده بالوحي الشعري.
براعة سعدي وعبقريته تجلت في وضع كتابيه الشهيرين “البوستان” و”الكلستان”، وظهرت فيهما معجزته في نظم ما يسمى بالمثنويات التعليمية
كان هناك انقلاب مأساوي قد شهده العصر الذي عاش فيه سعدي، انقلاب شل حركة الحياة بجميع مفاصلها وغير ما لا يلزم تغيره من حسن إلى سيء، وانقلبت الحياة وجها على عقب، فالحياة لم تكن من الرقة والدعة ما يجعل المرء ساكنا حيالها، بل العكس كانت تستوجب الصراخ والثورة، وهذا ما نجده في شعر الشيرازي ونلمسه في العديد من المواضع وفي الأطاريح التي طرحها وناقشها في شعره الثري.
فقد ترك الشيرازي شعرا مكتوبا بأسلوب جزل وواضح متخم بالقيم الأخلاقية، والأدب الرفيع، ونظم موسيقية فريدة، وعروض شعرية أبهرت شعراء زمانه، حتى أثرت في القصيدة العربية. وهو يقول بلسانه في إحدى المواطن “تسيدت الدنيا بسيف البلاغة يا سعدي”.
لقد تربى الشيرازي تربية دينية بحتة، وعاش في جو من التصوف والروحانية الخالصة، لا شك وأنه قد فاضت روحه بتأثير أحد أكبر فلاسفة بلاد فارس وكبير متصوفتها هو الشيخ شهاب الدين السهروردي، وبالمحصلة كان في خزين هذا الشاعر قدر لا يستهان به من الحكمة والفلسفة والمعرفة، وهو ما عبر عنه بلسانه في كتابه الشهير “البوستان” يقول “حصلت من كل بيدر على سنبلة”.
لقد تجلت براعة سعدي وعبقريته في وضع كتابيه الشهيرين “البوستان” و”الكلستان”، وظهرت فيهما معجزته في نظم ما يسمى بالمثنويات التعليمية، والتي كانت مشابهة إلى حد ما مع ما نظمه من قبله الشاعر الفارسي الكبير سنائي الغزنوي، فسنائي قد اشتهر بمؤلفه “حديقة الحقائق” الذي تضمن مواضيع اجتماعية تعليمية، وقد ذهب سعدي مذهبه غير أنه غير في الاسم والأسلوب وتناول تلك المواضيع بطريقته الخاصة.
• نبي الشعر
قراءة الشاعر هي نفسها في أي عصر لا تختلف ولا تنسخ ولا يساء فهمها ودراسة شعره تنتج في كل مرة ما هو جديد وطازج
أفرد الشيرازي في كتابه “البوستان” أبوابا لكل جانب من المواضيع الآتية: العدل، الإحسان، العشق، التواضع، الرضا، القناعة، التربية، الشكر، التوبة، المناجاة. وهو ما يحتاجه الفرد لرسم طريق صالح للحياة بعيد كل البعد عن الشرور والجهل والظلم والكره والحسد والتكبر والموبقات. وهو أيضا بمثابة هداية للنفس البشرية.
والظاهر أن الشاعر كان ينوي أن يضع رسالته لصالح خدمة الإنسان في كل زمان ومكان، وهو بعينه ما يجعل سعدي خالدا وصالحا لكل وقت، فقراءته نفسها في أي عصر لا تختلف، ولا تنسخ، ولا يساء فهمها، ودراسة شعره تنتج في كل مرة ما هو جديد وطازج.
أسس سعدي الشيرازي في هذين الكتابين مدينة فاضلة وأحسن في بنائها، مما جعل الفرس حتى يومنا هذا يدرجون منهما قطعا مشروحة في الكتب المدرسية كمقدمة لتعليم الطلبة على الخلق القويم والآداب السمحة. وفي هذا الصدد يقول كارل بروكلمان في كتابه “تاريخ الشعوب الإسلامية”: “إن كل فارسي حتى يومنا هذا ينظر إلى الكتاب (الكلستان) كأفضل تعبير عن مظاهر الخلق القومي، ومن هنا فهو أقرب الكتب إلى قلبه”. كما يقول أيضا ديفيد روزينبوم عن الكلستان “إن القارئ قد ينسى أنه يتعلم شيئا، وكأن دواء شعر سعدي مغموس في العسل”.
خاطب الشيرازي في قصائده البشرية كلها بخطاب الإنسانية ليطوف حول العالم شرقا وغربا، حيث حطت نسخ عديدة من آثاره في مكتبات مختلفة في الهند، باكستان، افغانستان، تركيا، العراق، أوربا، بريطانيا، وفرنسا وألمانيا وغيرها، وترجمت إلى معظم لغات العالم مرات عديدة، واحتفظت المكتبات العالمية بنسخ ومخطوطات نادرة من شعره، وتعرضت للبحث والدراسة والتمحيص في كبرى جامعات أوروبا، وما تزال مواضيعه مدار البحث في معظم جامعات العالم، حيث يقول الشاعر الأميركي الكبير رالف إيمرسون “إن سعدي (باعث البهجة في نفوس الرجال) يتحدث بلسان جميع الأمم، وكشأن، هومر وشكسبير وثيربانتس وميشيل دي مونتين، ومونتينيو، فإن كتاباته تصلح لجميع العصور”.
لا يمكن أن ننسى أن سعدي الشيرازي قد تأثر كثيرا باللغة العربية وآدابها وخاصة بالشعر العباسي، كما تأثر بالقرآن الكريم، والحديث النبوي واقتبس عنهما عددا كبيرا من التعابير والمفاهيم الإسلامية، ورغم كونه فارسيا كان يتقن اللغة العربية، ويحسن النظم فيها فقد بث في مجاميعه قصائد ومقطوعات عربية جمعها الباحثون في ديوان خاص.
لا يمكن أن ننسى أن سعدي الشيرازي قد تأثر كثيرا باللغة العربية وآدابها وخاصة بالشعر العباسي
قبل ما يقارب السبعة قرون أقيم فوق قبر سعدي في شيراز بناء ضخم أصبح في ما بعد مزارا يقصده العديد من الناس، ويزوره العوام باعتباره ضريحا لشيخ صالح، كما يزوره الأدباء في إيران باعتباره نبيا للشعر والأدب الفارسي.
ونجد الكثير من أشعار سعدي الشيرازي في شكل مواعظ تدعو إلى الرفعة، مثلا يدعو إلى وحدانية الله بقول صريح “وحذار أن تتابع هوى نفسك/ فليس في طريق الله أشد للإنسان إهلاكا من هذه الغول الصحراوية”. ويحث المؤمنين على الأعمال الصالحة التي ستفيدهم في الآخرة يقول “دارك ملأتها بالقمح/ ولم ترسل حبة شعير إلى قبرك”.
ويفضل الشاعر البذخ بالإحسان على فريضة الصيام يقول “والذي يفطر في الصيام ويعم الناس فضله/ خير من صائم الدهر والدنيا معبوده”. كما يفضل الإيثار على الصلاة وقيام الليل “والسابقون من الناس سبقوا بالإيثار/ وليس في إحياء الليل وقلوبهم كالأحجار”، ويدعو إلى الإحسان للغرباء وكذلك لمن أساء إليك يقول “وأحسن أيها الكريم إلى من أساءك/ فالكلب يرعاك حين تناوله من خبزك”.
وفي وجوب الثورة على الظالم يقول “تخلص من الظالمين واجتز منهم الرؤوس/ فإن الظلم على الظالم عدل وقسطاس”، بينما يبين أن عاشق الجمال عاشق أحمق، لأنه إنما يهوى نفسه يقول “وإذا كانت عينك تنظر حسن الحبيب/ فأنت في هوى نفسك لا في هوى الحبيب”.
ويدعونا الشاعر إلى الوحدة والتلاحم فيقول “آدميون نحن ولنفس الأصل ننتمي/ فكيف نهنأ بالعيش والغير يألمُ/ ما استحق الحياة من يرى أخاه يشقى/ وهو بالملذات والخيرات ينعمُ”. وفي إشكالية من يكتنز المال وتحصيل العلم دون فائدة كتب “إثنان جهدا بلا جدوى وسعيا بلا فائدة؛/ الأول من جمع مالاً وما أكل، والثاني من تعلّم العلم وما عمل”.
ويقول الشيرازي في إحدى المواطن من كلياته وهو أشبه بالختام لمواعظه “فيا سعدي مع أنك بليغ الكلام وتقول المصلحة/ إلا أن الأمور تتم بالعمل وليس بالكلام”.
______________________
* نشير إلى أن الاقتباسات الشعرية هي من ترجمة محمد موسى هنداوي في كتابه المذكور. ما عدى أول بيتين والبيت الأخير من ترجمة الدكتور علاء الدين منصور “مواعظ سعدي” جمعها محمد علي فروغي.