• حين كتبت الهوامش قصيدة النثر
لم تكن مجلة “شعر” مجرد تجربة أدبية متقدمة، بل كانت – على نحو غير معلن – منبرًا لهوية مهمّشة، وصوتًا لأطراف ضاقت بها اللغة المركزية. وإن كانت الحداثة الشعرية قد جاءت من باريس، من مالارميه ورامبو، فإنها في بيروت الستينيات نزلت في قلب حي المزرعة، لا كضيف، بل كلاجئ. كانت مسألة الأقليات مطروحة بوضوح داخل نصوص “شعر”، لكن حضورها كان بنيويًا، صامتًا، كثيفًا مثل هواء القصيدة. فمؤسسو المجلة، ومحرروها، وشعراؤها، كانوا – بمعنى ما – أبناء ثقافات هامشية: – أدونيس العلوي من الساحل السوري– يوسف الخال الإنجيلي اللبناني – أنسي الحاج الماروني المتأمرك – فؤاد رفقة المنفتح على التصوف والفكر الباطني- كلهم، بطريقتهم، لم يكونوا أبناء الطبقة الثقافية السنية القومية الحاكمة، بل أبناء توترها وظلالها ومقاومتها الجمالية.
وهكذا، حين كتبت “شعر” عن الحداثة، كانت تكتب عن رغبة الأقليات في تفكيك المركز، المركز اللغوي، الديني، السياسي، الطائفي، الذي صاغ الوعي العربي على صورة واحدة، وجعل من القصيدة “بيانًا” لا تجربة، ومن الشاعر “منشدًا” لا كائنًا مفردًا. القصيدة التي أرادتها “شعر” لم تكن قصيدة عربية بالمفهوم العروبي، بل قصيدة سوريّة الهوى، فينيقية الخلفية، باطنية النَفَس، غربية البناء، ميتافيزيقية النغمة. ولهذا، بدت حداثة “شعر” – بالنسبة للقوميين العرب – مشروعًا طائفيًا مقنّعًا، محاولًا لاستبدال الهوية السنية القومية بهوية لامركزية جديدة، تتوزع بين جبل عامل وجبيل والساحل السوري وضفاف الحدس العرفاني.
• لكن “شعر” لم تعلن ذلك.
لم تكتب الأقليات قصيدتها بوصفها طائفة، بل بوصفها الوعي المهزوم، الوعي المقموع، الوعي الذي لا مكان له في البلاغة القومية. وهكذا، تحوّلت المجلة إلى ما يشبه حركة داخلية للهوامش، تنتج خطابًا لا هو سياسي، ولا ديني، ولا هوياتي، لكنه ضد الكل، باسم الشعر. أرادت “شعر” أن تُسكت الجوقة، أن تُربك الصوت الواحد، أن تقول للعروبة إنها ليست قدرًا، بل خيارًا لغويًا يمكن تجاوزه، وأن الأمة ليست محورًا بل سؤالاً.