مهرجان هولندا 2025 يختتم فعالياته بـفصل ثانٍ من الفنّ المقاوِم || نساء يتحدّين وحركة راديكالية وموسيقى عابرة للحدود
خاص | مدار 24
أمستردام، هولندا – 30 حزيران/يونيو 2025 – أسدل «مهرجان هولندا» الـ78 الستار على فعالياته يوم الأحد 29 حزيران/يونيو، مختتماً دورة استثنائية حملت بصمات المقاومة، التحدّي، والبحث عن آفاق فنية تتجاوز المألوف. ويمكن القول إنّ المهرجان لم يكن مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل محطة للتأمّل في زمن مضطرب، حيث الفنّ هو المتراس الأخير في وجه العبث.
شهدت الأيام الختامية للمهرجان زخماً غير مسبوق، مع عشرة عروض متنوعة وفعالية “فيلم وبرانش” استقطبت جمهوراً غفيراً، ما عكس الطبيعة المتنوعة للمهرجان بأكمله. فمن التجربة الأوبرالية الفردية «من الغبار» (From Dust)، إلى الماراثون المسرحي الذي استمر سبع ساعات «الفصول» (De seizoenen)، وصولاً إلى عروض فردية حميمة، وفيلم الحفل الأخير للفنان الشريك السابق ريويتشي ساكاموتو «أهلاً بكم في قاعة الأسبستوس» (Welcome to Asbestos Hall)، والعرض المتعدد الوسائط المذهل «روثكو» (ROHTKO) مع إيقاعاته الصاخبة، أثبت المهرجان أن الفنّ لا يعرف حدوداً.
إميلي أنسنك، مديرة المهرجان، لخّصت جوهر هذه الدورة بقولها: «أظهرت هذه النسخة مجدداً ما يمثّله «مهرجان هولندا»: توفير منصة للفنانين الذين يستكشفون زمنهم ويشكّلونه. قدّمنا أعمالاً تجمع غالباً بين الجمال والتجريب مع قضايا ملحّة. لقد قدّم مبدعون من جميع أنحاء العالم وجهات نظر مؤثرة حول الفنّ، الحرية، الخسارة، المقاومة والهشاشة. في عالم مضطرب، من الضروري أن تكون هناك مساحة للفن الذي يواجه، يواسي ويربط».
تراجال هاريل: الهشاشة والتقارب… «قمة مسيرتي الفنية»
لعلّ أبرز ما ميّز هذه الدورة هو التركيز على الهشاشة والتقارب، وهو ما تجلى في عمل الفنان الشريك تراجال هاريل. بطلب منه، لم يُسمح بالتصفيق إلا في زيارته الأخيرة ضمن سلسلة من خمس زيارات إلى استوديو الفنان المؤقت الخاص به. مثّل ذلك نهاية بحثه الذي دام سنوات في شكل الرقص الياباني الـ«بوتو»، واختتم بذلك مشروعه الذي استمر 18 يوماً «أهلاً بكم في قاعة الأسبستوس». هذا المشروع، الذي استلهم روح استوديو «بوتو» الأصلي لتاتسومي هيجيكاتا، كان مكرساً للتجريب الفني واللقاءات، وشمل «زيارات»، عروضاً ضيفية، احتفالات وتبادلات مفاجئة، مثل «لقاء أعمى» مع عازف البيانو الجاز كرايغ تابورن، الذي وصفه هاريل لاحقاً بـ«قمة مسيرتي الفنية».
إلى جانب «البوتو»، كانت الهشاشة (لا يجب الخلط بينها وبين الضحية) عنصراً متكرراً في أعمال هاريل. تجلى ذلك في شكل المشروع بأكمله: لقد شهد على جرأة وانفتاح السماح للجمهور بالمشاركة في عملية الإبداع وعرض أعمال لم تكن مكتملة بعد، لم تكن عرضاً بالكامل. لقد خرج المبدعون والجمهور على حد سواء من مناطق راحتهم من خلال الغوص في العمق معاً.
«ما زلت أؤمن بأنّ القوة العظمى للفنّ تكمن في قدرته على استحضار شكل من أشكال التقارب لا يمكن التعبير عنه بالأرقام. إنه غير قابل للقياس»، قال الفنان الشريك تراجال هاريل في كلمته الافتتاحية في بداية المهرجان. شكّلت هذه الفكرة توجهاً واضحاً في المهرجان هذا العام.
في «أهلاً بكم في قاعة الأسبستوس»، أتيحت للزوار فرصة فريدة للاقتراب من تراجال هاريل وراقصيه، والتعرف على مبدعين آخرين من خلال ورش عمل حميمة ومحادثات مفاجئة، مثل كارولينا بيانكي والفنانة الشريكة السابقة جيزيل فيين. كما استضافت مسارح «فراسكاتي» عروضاً حميمة، حيث قدّم مبدعون مثل أولا ماتشيجيفسكا، دي دي دورفيليه، جيوميونغ جونغ ومارك فانرنخت أعمالاً فردية رائدة على تقاطع الرقص والفنون البصرية. تحت شعار «#حركة_راديكالية»، أظهروا كيف يتحرر الرقص من التقاليد ويواجه جميع عقائد الرقص بطاقة متمرّدة.
في متحف ستيديليك، اقترب الزوار مجدداً من تراجال هاريل خلال عروضه «كاين آمور» (Caen Amour) و«الأخت أو دفن الجثة» (Sister or He Buried the Body). بطريقة أخرى، وفّرت أوركسترا «بارا» التقارب. هذه الأوركسترا، التي يتكوّن نصفها من أشخاص ذوي إعاقة جسدية، ظهرت لأول مرة في هولندا. أزيلت الكراسي في «الكونسيرتخيباو» لإقامة حفل موسيقي سمح للجمهور بالتجول، الجلوس، والاستلقاء بين الموسيقيين، ليقيموا بذلك علاقة شخصية جداً مع الموسيقى والمبدعين. كما جلبت أوبرا الواقع الافتراضي «من الغبار» لميشيل فان دير آ، حيث كانت التجسيدات تغني لك بشكل خاص، تجربة فريدة وشخصية.
إثارة بصرية ولقاءات موسيقية جديدة
إلى جانب الإنتاجات الصغيرة والحميمة، شهد المهرجان أيضاً عروضاً أثرت الحواس بشكل مكثّف. كان «روثكو» للوكاش تواركوفسكي رحلة مسرحية متعددة الوسائط جمعت الفن، الفلسفة، عروض الفيديو والإيقاعات القوية. وعلى ذات القدر من الإثارة البصرية والضخامة، ولكن بطريقة مختلفة تماماً، كان عرض «عودة النجم» (Star Returning) لـ ليمي بونيفاسيو، والذي قدّم طقوس وأغاني أقلية «يي» الصينية بطريقة تجريدية وشعرية. أما «بيرينيس» (Bérénice) لـ روميو كاستيلوتشي وبطولة إيزابيل أوبير، فقد أظهرت ألم امرأة منبوذة في ديكور أنيق وأزياء مذهلة من تصميم مصممة الأزياء إيريس فان هيربن.
لم يقتصر الأمر على لقاء الجمهور والمبدعين. هذا العام، شهد المهرجان عدداً من اللقاءات الاستثنائية لفنانين من جميع أنحاء العالم لم يشاركوا معاً في عرض من قبل. ظهرت أوركسترا «أطلس» لجول بونز لأول مرة مع 40 موسيقياً من جميع أنحاء العالم على مسرح «الكونسيرتخيباو». وجمع «دراسة للحياة» (Study for life) موسيقيين من «أسكو/شونيبرغ» وراقصين من «شركة تيرو سارينين» الفنلندية في تكريم خاص لكايا سارياهو. وجمع «محيط واحد» (One Ocean) فنانين من دول جزرية مختلفة لأول مرة ليرووا موسيقياً عن تأثير ارتفاع مستوى سطح البحر على هذه الجزر. وفي «أصداء محرمة» (Forbidden Echoes)، عزفت أوركسترا «الكونسيرتخيباو» أعمالاً لموسيقيين إيرانيين وبالتعاون معهم، وجمعت أوبرا «خاتم عصرنا» (Ring of Our Time) لـ «معمل الأوبرا العالمي» (World Opera Lab) فنانين من العراق، إندونيسيا، المكسيك، نيجيريا وشمال أوروبا.
قوة نسائية ومقاومة: حكايات من المهرجان
كما شكّل الخطّ الموضوعي «#حكايتها» (herstory) خيطاً رابطاً هذا العام، مع دور رئيسي للمرأة. كان أحد أبرز الأحداث هو أول إنتاج كبير للمسرح الرئيسي لكارولينا بيانكي. من خلال «ثلاثية كاديلا فورسا الفصل الثاني: الأخوة» (Trilogia Cadela Força Capitulo II: The Brotherhood)، تركت انطباعاً عميقاً لدى الجمهور والصحافة من خلال نظرة لا ترحم إلى ذاتها، ولكن أيضاً من خلال فضح آليات الاغتصاب وكراهية النساء. كما ركزت الفنانة الشريكة السابقة (2021) جيزيل فيين على الهياكل الأبوية، العنف الجنسي، وكيف يؤثر ذلك على الإدراك. أظهر «حياة إضافية» (Extra Life) ببراعة وتأثير كيف يحاول شقيق وشقيقة، بعد سنوات من تجربة مؤلمة، فهم وتقريب بعضهما البعض.
وقدّم مصمم الرقص علي شرور، من خلال «روتها أمي» (Told by My Mother)، تحية لصمود الأمهات في لبنان وللألم الذي لا يصدّق الذي يتحملنه عندما يفقدن أبناءهن في الحرب أو بسببها. وفي «أوتيمبا – نساء جريئات» (Otemba – Daring Women)، تحدّت النساء. فطالبت كورنيليا فان نيينروده من القرن السابع عشر، التي صورتها لوحة لجاكوب كويمان، باستعادة استقلالها المالي بعد زواج كارثي. وفي الوقت نفسه، قاومت مرممة اللوحة الخطاب الاستعماري.
تحدّيات لوجستية وفتح آفاق جديدة
لم تكن هذه الدورة خالية من التحدّيات. فقد واجه المهرجان تحدّيات لوجستية فريدة لجمهوره، تمثّلت في إضرابات السكك الحديدية، وصعوبة الوصول إلى لاهاي (التي استضافت عرضاً للمرة الأولى منذ 35 عاماً) وأمستردام بسبب قمة الناتو واحتفالات أمستردام 750 الكبرى على الطريق الدائري، بالإضافة إلى اضطرابات متعددة في السكك الحديدية. كما كان الأمر مثيراً للقلق بالنسبة لقسم الإنتاج لتوصيل الفنانين والديكورات في الوقت المحدد إلى جميع المواقع.
حرص المهرجان على تعزيز التبادل بين محترفي الفنون المسرحية. في إطار برنامجي «الانغماس» (Immerse) و«تبادل المهرجانات» (Festival Exchange)، زار حوالي 50 من المبدعين والمنسّقين الدوليين من الأردن ورواندا والمكسيك واليابان ودول أخرى المهرجان: كانت هناك محادثات مشتركة حول القضايا الراهنة ولقاءات خلف الكواليس. كما كان هناك هذا العام برنامج مكثف موجه لطلاب المدارس والجامعات من مختلف التخصصات، حيث تمكنوا من زيارة العروض، أو الأداء بأنفسهم، أو التدرب على كتابة المراجعات تحت إشراف نقاد متمرّسين.
تم تعميق البرنامج بطرق مختلفة، مع مجموعة واسعة من المقدمات، ومحادثات ما بعد العروض، ولقاءات ومحادثات مفاجئة بين الفنانين والجمهور، بالإضافة إلى مناقشات ونادي قراءة. وكانت العديد من أجزاء البرنامج مجانية: «أوبرا في الحديقة» التقليدية، ولقاءات مع المبدعين، وعدد من المحادثات والعروض المفاجئة ضمن «أهلاً بكم في قاعة الأسبستوس». ولتسهيل الوصول الرقمي، كان بثّ العرض الافتتاحي «سايبر سوبين» (Cyber Subin) متاحاً عالمياً لمدة ثلاثة أيام.
