(1)
يبدو أن لعنة أبدية تلاحق المعتمد بن عباد عميد ملوك الطوائف بالأندلس؛ وسجين أغمات في الحياة والممات، وما زالت إلى زمن العولمة وما بعدها من ثورة تكنولوجية بلغت مداها إلى الذكاء الاصطناعي، إذ طالت يد السلطة المؤسساتية والثقافية بكل أشكال القمع والتنكيل في حقه من أن يتنفس شعرا وجمالا وجلالا وحياة، بفعل غياب العناية به ماديا ومعنويا، وهو الشاعر الأسير الغريب بأرض المغربين، الباني في بلاد الأندلس دولة يهابها الأعداء وتهز العروش الحاكمة، وتدك الحصون المنيعة، وتأتي على الجيوش الجرارة، لكن الغريب ستزداد غربته حدة في مغرب الألفية الثالثة، بعد أن أضاء سماء شفشاون المدينة الزرقاء المعمار، ذات القلب الطاهر، النقي المليء بالمحبة وامتداد الحلم في أرضها الفيحاء، وجبالها الشامخة رغم كيد الجغرافيا، ومكر السلطة التي تفننت في إقبار أنوارها وخضرتها الصامدة أمام عتو الخريف الإداري والمقاولاتي والسياسي والثقافي، ليبقى المعتمد بن عباد ومهرجانه الشعري الذي عمره 35 سنة منارة الشعر المغربي المعاصر، شفشاون المدينة التي تعرف بأعلامها ومنتجي الرأسمال الرمزي ومعمارها الحضاري سليل الحضارة الأندلسية. المدينة التي يحرسها المعتمد في رمزيته التاريخية والوجدانية والحضارية، والشاعر النبيل سادنها عبد الكريم الطبال، أطال الله في عمره، شاعر الماء والخضرة والوجد والحب الإلهي والعزلة التي اختارها منذ عقود. وهي مدينة تستحق أكثر من حياة ودوام لانهائي لا لشيء إلا لأنها حيزٌ جغرافي تسوره جبال الريف الشامخة والحافلة بالأحداث والوقائع التاريخية والثقافية الشاهدة على عراقتها وأصالتها.
(2)
إن الاغتيال الرمزي للشاعر المعتمد بن عباد جريرة لن تغتفر لمسيري الشأن المحلي والثقافي والجهوي، بتشديد الحصار والسعي إلى إقبار مهرجانه الشعري ديوان الشعر المغربي بجميع حساسياته المتضاربة والمفارقة، المغامرة والمغايرة، وهو في الحقيقة اغتيال لإرث المثقفين المغاربة خاصة، وإرث المجتمع المغربي من طنجة إلى الكويرة، ما يطرح السؤال الجارح والمؤلم: هل للدولة مشروع ثقافي واضح الملاحم والمعالم؟ ولماذا تتعامل المؤسسات الحكومية (وزارة الثقافة/ الولاية/ العمالة/ البلدية/ الجماعة القروية/ رجال الأعمال والمقاولون… بنوع من اللامبالاة؟
سؤالان يطويان جوابين مقلقين ومثيرين باللاجدوى من الفعل الثقافي بالنسبة لهؤلاء، وأنه مضيعة للوقت والمال، بل إن الثقافة آخر ما تفكر فيه الدولة، فهي تعتبرها قطاعا غير ربحي، مما يعكس حقيقة غياب مشروع ثقافي لديها، ما دامت تفتقد لمشروع مجتمعي متكامل، والأمرّ والأنكى من كل هذا الكرم الزائد عن اللزوم على مهرجانات لا تغني ولا تسمن من جوع. وبالتالي فما لحق مهرجان شفشاون الشعري الذي تسهر عليه جمعية أصدقاء المعتمد تسييرا وتنظيما، من حيف وظلم يثير العديد من علامات الاستفهام حول مفهوم الثقافة عند الدولة، وتصورها للممارسة الثقافية. وانطلاقا من هذه المعطيات يظهر سعي الدولة إلى انتهاج منهج الإقصاء والتغييب القسري والمتعمد للفعل الثقافي الذي يبني الإنسان ويرسخ القيم ويشيع الأخلاق التي تسمو بالفرد وتجعل المجتمع أكثر بذلا وعطاء.
(3)
فطيلة ستة عقود عملت جمعية المعتمد على تحويل مدينة شفشاون إلى مدينة شعرية بامتياز، من خلال مشاركة خيرة الشعراء والشواعر والنقاد، وكان أيضا محجا لمثقفي المغرب. بيد أن عين السلطة وتفكيرها ومنهجيتها في التدبير والتسيير يشكل المهرجان، بالنسبة لها، إحراجا واستفزازا لذائقتها المخزنية، التي ترتاب من المجاز والاستعارات والكنايات خصوصا في سياق سياسي مغربي محتدم ومشتعل بأسئلة التداول الديمقراطي والتحديث المجتمعي ورهانات الثقافة في بناء مجتمع متنور ومحافظ على القيم والمواضعات المشتركة. وبصيغة أخرى عندما كان المد الحداثي والسياسي جسرا لتحقيق التغيير ومناشدة المستقبل دون التفريط في الهوية المغربية العربية والإسلامية.
ولا شك أن مهرجان شفشاون الشعري يمثل ذاكرة جمعية للشعر المغربي؛ وتاريخ المدينة الهادئة والوديعة في صمتها البهائي وحفيف أشجارها السابحة في الأعالي والمنشدة لخرير «راس الما»، هذه الإقامة الروحية والوجودية بمجرد الدخول إلى حضرتها، يشدك البهر ودوخة المجال الفاتن، حيث التراتيل المنسابة من الجبال والتهاليل الصادحة بجلال الليل وفتنته، ومسالكها المبثوثة زقاقا مضمخة بحناء زرقاء اللون بيضاء القلوب والعيون والأيادي، أناسها الطيبون حديثا وسلوكا، شهامة ونخوة، هذه مواصفات شعرية تنز من كل الأمكنة والزوايا، من مقاهيها المفتوحة على الدهشة والبراءة التي تحضن المرء ظلالها وهسيس الأنفاس وإيقاع الماء المتدفق شعرا وحياة، ما يفرض على الجميع استمراره وديمومته، لأنه استمرارٌ للجمال والحب ولمدينة تصنعها زرقة البحور الشعرية وتنضد معالمها أحلام الشعراء، وتزينها نفحات الروح التي يزرعها شعراؤها الطيبون في أشعار المحبة والعشق.
(4)
وإذا كان مهرجان الشعر المغربي من أقدم وأعرق المهرجانات الشعرية المعاصرة في العالم العربي في العصر الحديث، فإنه يشكل جزء مهما لا ينفصل عن الصورة الكلية للمشهد الثقافي المغربي، فبه استطاع الشعر المغربي إعلان استقلاليته الشعرية عن المشرق العربي، وبداية لقصيدة مغربية بمواصفات مغربية، وكان المهرجان أيضا جسرا لربط الصلة بين التجارب الشعرية المغربية أولا. وثانيا لما يشهده من نقاشات وجدالات شعرية ونقدية كان لها الأثر البارز في سيرورة الشعر المغربي المعاصر وصيرورته. والأكثر من هذا كان نافذة أخرى للتحديث والتجديد، إذ لم تبق القصيدة رهينة شكلها، بل انفتحت على أفق شعري تتجاذب وتتقاطع فيه الرؤى والتصورات؛ وتبتكر دوما أشكالها المتحولة، وما يميز القصيدة المغربية عن القصيدة المشرقية من سمات جمالية وطرائق في الكتابة وأفق لشعرية مشرعة على الإضافة والمغايرة برهانٌ ساطع في سماء الشعرية العربية.
لكن ما قامت به الجهات الوصية بحجب الدعم على المهرجان في دورته 36، وهي محطة تؤكد قيمته ودوره في إنتاج الخيال والآمال في سياق دولي مشحون بحرب الإبادة على الشعب الفلسطيني الأعزل ومقاومته، وما يحاك من مخططات جهنمية للعالم العربي من لدن الصهيونية العالمية، كل هذا يكشف عن حقيقة الدولة في السعي إلى دعم مهرجانات الانهيار القيمي والإنساني والفني، بكل ما تملك من مال وعتاد لوجستيكي وإعلامي هائل للتمكن من بناء مجتمع القطيع. وما دام الشعر هويته التمرد على القطيع والخروج عن المواضعات البالية؛ وعدم الاستسلام للماديات وعولمة الأفول بتجلياتها المختلفة، بجعل الإنسان عبدا للرأسمالية المتعولمة المتغولة، وما دام الشعراء أسياد الكلام السامي بالخيال والجمال يقاومون سلطة الواقع التي تكرس ثقافة الابتذال والانحطاط الحضاري. وفي اعتقادي الخاص فإن محاولة إقبار المهرجان، عبر وقف الدعم ليه، يعتبر نكثا بكل الوعود وخيانة للأمانة وتصفية حسابات لا أقل وأكثر. فجمعية أصدقاء المعتمد لم تأل جهدا في طرق الأبواب وتقديم التزاماتها مع الشركاء والفاعلين في المدينة، ليخيب أملها في تنظيم الدورة الحالية، ومن تم تخييب أفق الشعراء المشاركين وجمهور المهرجان وعموم المهتمين بالتظاهرة الاستثنائية في ظل مناخ ثقافي مغربي متصحر وملوث.
(5)
ومع ذلك لا بد من قول كلمة حق دون موالاة لأحد، إن مهرجان الشعر المغربي بشفشاون لم يعد له ذلك الإشعاع والصيت الذي كان في الماضي، نظرا لحيثيات وعوامل ذاتية وموضوعية، تتمثل في تكرار بعض الأسماء الثابتة والمكرسة، والانفتاح الحذر والمحتشم لجمعية المعتمد على تجارب شعرية مغربية تغرد خارج منطق القبيلة الثقافية أو الحزبية. وأشير إلى أني حضرت هذا المهرجان مرتين، الأولى كانت سنة 1998 بصفة مواكب للتظاهرة، وكان التنظيم واللقاءات متميزة وذات فاعلية من حيث التجارب الشعرية والموائد النقدية ونوعية الجمهور الثقافي النوعي، والثانية عام 2023 مشاركا، وما لاحظته أن وهج المهرجان خبا أثره رغم الأسماء الشعرية والنقدية الوازنة المشاركة، بينما الجمهور قليل مقارنة بالعقود السالفة نتيجة تحولات وإبدالات كثيرة، لا مجال لذكرها، لكونها معروفة ومألوفة للرأي الثقافي. لكن هذا لا يحجب الجهود المبذولة من جمعية أصدقاء المعتمد من أجل استمرارية المهرجان والحفاظ على هذا الإرث الذي لا يضاهى. فالأمم التي تولي العناية بالرأسمال الرمزي تبقى حية ومعطاءة وتكون لها القدرة على حماية أمنها الروحي والخيالي. لهذا فالحفاظ على المهرجان ضرورة وجودية على الجميع تحمل المسؤولية من أجل بقاء المهرجان واستمراريته، لأنه لساننا الناطق بحال قصيدتنا المغربية الحديثة الممتدة في الإبداع والحياة.
(6)
وعليه أعلن تضامني اللامشروط مع جمعية أصدقاء المعتمد ضد حجب الدعم عن المهرجان، وأوجه الدعوة إلى المثقفين المغاربة إلى إعادة النظر في علاقاتنا والانكباب على وضع مشروع ثقافي بديل عن مشروع التفاهة والابتذال بعيدا عن القبيلة الثقافية التي قتلت روح المبادرة وساهمت في تلويث المناخ الثقافي، بعيدا عن النرجسيات القاتلة وأوهام المثقفين التي تحدث عنها محمد الدغمومي في كتابه بالعنوان ذاته، وكذلك عن الحزبوية الضيقة والمصالح الشخصية، قريبا من نبض وتحولات المجتمع المغربي وإبدالاته الرهيبة قيميا وأخلاقيا، معرفيا وفكريا.
إن أعطاب الثقافة المغربية وجروحها النازفة والغائرة تدعو المثقف المغربي إلى ضرورة التأمل لإيجاد الحلول الناجعة والكفيلة لإنقاذ الرأسمال الرمزي من هذا الوضع المأزوم.
(7)
ويبقى الشعر العود الأبدي للبدايات الأولى لوجود الإنسان، والوسيلة المثلى للبحث عن الكينونة المفقودة في متاهات العولمة والتقنية جد المتطورة، والمذهلة والمحيرة للعقول والأفئدة، لهذا ما نأمله من هذه الشهادة البيان هو إعادة الأمور بخصوص مهرجان شفشاون الشعري إلى نصابها وأصلها، ما دام هناك شعراء يحلقون في سماء شفشاون، وما دامت شفشاون سادنة الشعر والشعراء.
على هامش النص:
« هكذا/ أصغي لحفيف راس الما/ يستيقظ الشجر في رأسي/ ترى مسامعي حصى يرقص / على ناصية العين/ يمشي على الماء/ لا أحد يراه سواي/ أنا الآتي من عزلة الجنوب/ يرافقني العطش ويرديني غريب الصحراء/ مراكبي يقظة في سبات اليقين/ وهذا المدى الأزرق يطوق دهشة القروي ويسبيني هواه…».
_____________________________________
* صالح لبريني : شاعر من المغرب
