أعلنت الحكومة المحلية في بغداد قبل أيام عن بدأ انطلاق مشروع غابات بغداد المستدامة، المشروع الذي سينطلق لزراعة نحو ٢٨ غابة على مساحات واسعة من العاصمة تتخللها أماكن ترفيهية وبحيرات اصطناعية، والذي أعلن عنه امين بغداد وذلك من خلال قيامة بزراعة أول شجرة كالبتوز بيده، ومع انه نسي رفع السندانة، فغمرها في الحفرة وتجاهل العناية بجذورها فإن نسبة نجاحها ستكون أقل بكثير من ٣٠ بالمئة، رغم وجود خبراء ومهندسين زراعيين إلى جانبه.
كثير من الأسألة التي تطرح في هذا الشأن، فيما اذا كانت للحكومات المحلية دور في تلكأ مشاريع التشجير أم أن المستثميرين أفسدوا المساحات الخضراء، وغلبت المجمعات السكنية العملاقة والمنشآت والمباني الضخمة على الأراضي الزراعية المحدودة، فبدلا من زيادة المساحات الخضراء عملت عديد من الجهات على تقليصها، أو القضاء عليها بالكامل.
رغم ان أزمة الجفاف عمت كثير من الدول، وهي أزمة عالمية، ألا أن الحكومات المحلية في العراق حاربت الفلاحين المزارعين وتقاعست عن تقديم الدعم لهم مما زاد في الطين بلة، فحتى لو كانت الدولة تقوم بتطبيق نظام المراشنة للمزارعين للحد من تفاقم أزمة الجفاف، كان ينبغي أن تقدم حلولا ملموسة لهم تزيد من كفائة القطاع الزراعي وتوفر له التقنيات الحديثة في الري للحد من هدر الكميات الكبيرة من المياه، وزيادة المحاصيل في نفس الوقت.
لنعود ونذكر، وحسب تصريحات وزارة الزراعة فأن مساحة الأراضي الزراعية المستغلة في العراق قبل الغزو الأمريكي كانت تقدر نحو ٣٢ مليون دونم، والآن فهي اقل من ١٨ مليون دونم، وحسب ما أفاد الجهاز المركزي للإحصاء عام 2020، والذي أشار إلى تدهور نسبة 69 في المائة من المساحات الزراعية بسبب التصحر والجفاف وتعرض مساحات كبيرة منها للتجريف، ولكن ليس مدحا في حكومات سابقة ولا ذما في حكومات لاحقة، وأنما كان ينبغي زيادة هذه المساحات بدلا من تقليصها وبشتى الطرق والوسائل، والارتقاء بالقطاع الزراعي ودعمه والاستفادة من خيراته وموارده.

تذكر الاحصائيات الرسمية في العشرين سنة الفائتة أنه قد جرفت في محافظة البصرة نحو أكثر من أربعمئة بستان، وفي محافظة ديالى تجاوز العدد ٤٨٠ بستانا، وفي محافظة بابل أكثر من ٢٠ بستانا، وفي القادسية أكثر من ٣٠ بستانا، وعشرات البساتين في كربلاء والنجف وواسط وبقية المحافظات.
تعتبر عملية للتجريف للبساتين والمساحات الخضراء جريمة يحاسب عليها قانون العقوبات العراقي وبالإضافة الئ ذلك فهي تعد أيضا جريمة بيئية وجيولوجية، وظاهرة تؤثر سلبا على المناخ والطبيعة الطيوبوغرافية للبلاد، شاركت الحكومات العراقية المتعاقبة في التستر على هذه الجريمة، والسكوت عنها بسبب عدم فرض تطبيق القوانين الصارمة بحق من يسعى للاستيلاء على الأراضي الخضراء والعبث بها، وأيضا عدم توجيه الدعم للمشاريع الزراعية والحملات التطوعية للتشجير، كما شاركت جهات متنفذة في استغلال الاراضي عقارياً وتجارياً بعيداً عن كونها مخصصة للمشاريع الزراعية، إضافة إلى أن المليشيات الطائفية هددت الكثير من المزارعين وأصحاب البساتين من خلال سلسلة اغتيالات واعتقالات وطرد السكان على أساس مذهبي وطائفي من أجل تحقيق هدف فرض سيطرتها على هذه المناطق حسب ما يشير خبراء ومحللون سياسيون.
نصت المادة ( 479) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل على ان: (1 – يعاقب بالحبس وبالغرامة او باحدى هاتين العقوبتين كل من اتلف زرعا غير محصود او اي نبات قائم مملوك للغير. ومن اقتلع او قطع او اتلف شجرة مملوكة للغير او طعم في شجرة او قشرها ليميتها.) ونصت المادة (480 ) أيضا من قانون العقوبات على جرائم اتلاف الاشجار والخضرة في الاماكن العامة حيث يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين وبغرامة او باحدى هاتين العقوبتين. والمواد (478- 479-480-481 ) جميعها نصوص قانونية واضحة حاول فيها المشرع العراقي ضمان حماية النشاط الزراعي والثروة الزراعية من الاتلاف والعبث وذلك لأهميتها القصوى في تحديد أهداف اقتصادية وبيئية.
وتعقيبا على ذلك فإنه تفتقد المواثيق العراقية إلى وجود لائحة قانونية، أو مشروع قانون موحد يتضمن الحماية الجزائية للنشاط الزراعي والأراضي الخضراء، رغم أن قانون العقوبات والتشريعات والدستور العراقي لم يغفل عن القطاع الزراعي، ولكن أسوة بالقطاعات والجوانب الأخرى نلتمس وجود مسودة قانون خاص وموسع وشامل بالثروة الزراعية، مع غياب الأصوات التي تطالب أو تناصر وتؤازر الواقع الزراعي في العراق، سواء برلمانيا أو قانونيا أو إعلاميا.
وإذا عثرنا على قوانين ومواد تحاسب من يقوم بأفعال العبث بالاراضي الزراعية، والقيام بجريمة للتجريف في كافة مناطق العراق لأي سبب كان، فالسؤال هنا من حرم زراعة الأشجار في العراق؟ أو من منع المواطنين من الزراعة؟ وقد أصبح من النادر أن نجد مواطنا يقوم بزراعة شجرة ورعايته أمام داره، بالمقابل نشاهد الكثير من الناس يقومون بقطع الأشجار واقتلاعها لغايات رخيصة لا تتساوى بثمن زراعة الأشجار ورعايتها.
وبسبب انعدام الوعي الجمعي لدى الناس، وغياب الدور الرقابي والترشيدي بأهمية الزراعة والخضار فإن الناس غير مهتمة اطلاقا لهذا الجانب وترمي ذلك على عاتق الحكومة، دون أن يقوم المواطن نفسه من باب حسه الوطني في المحافظة على الأشجار والأكثر منها.
فعلى سبيل المثل القائل “إذا أردت سماع صوت الطيور، لا تشتري قفصا بل ازرع شجرة.” ومن قال : “إذا قدر لكل أحد أن يزرع شجرة ستغدو الأرض بستانا.”، فليس ثمة من حرم أو منع زراعة الأشجار.

مشروع غابات بغداد خطوة إيجابية نحو تحسين البيئة، لكن يجب التركيز على زراعة الأشجار بشكل صحيح لضمان نجاحها واستدامتها.
من الرائع أن نرى مشاريع مثل غابات بغداد المستدامة، ولكن يجب الاهتمام بالتفاصيل لضمان نجاحها. العناية بالأشجار أمر أساسي!
mww06v