لطالما ساد اعتقاد بأن المثقف هو خط الدفاع الأخير عن القيم الإنسانية، لكن المشهد المأساوي في حلب مؤخراً كشف عن تصدع مخيف في هذا الجدار. إن الصمت المريب، أو الأسوأ من ذلك، التبرير المبطن الذي أبدته قطاعات واسعة من النخبة العربية تجاه الهجوم الإرهابي الذي استهدف المصلين الشيعة، يضعنا أمام سؤال جوهري: هل فقد العقل العربي بوصلته الأخلاقية؟
لا يمكن قراءة هذا الانحدار بمعزل عن الدور الذي تلعبه المنصات الإعلامية المؤثرة، وفي مقدمتها قناة “الجزيرة”، التي ساهمت في صياغة مشهد إعلامي يستبدل التحليل الموضوعي بالتحريض العاطفي. لقد تحول الفضاء العام إلى مختبر لإنتاج سرديات طائفية تعيد تدوير الأيديولوجيا السلفية المتطرفة، لتقدم الإرهاب لا كجريمة نكراء، بل كـ “رد فعل” أو “ضرورة سياسية”.
إن الكارثة لا تكمن فقط في الانفجار الذي حصد الأرواح في حلب، بل في “الانفجار الفكري” الذي تلاه؛ حيث اصطفت الغالبية الساحقة من المشتغلين بالثقافة خلف متاريس طائفية. لقد استبدل هؤلاء المثقفون “شجاعة النقد” بـ “راحة القطيع”، فصار الضحية يُصنف حسب انتمائه المذهبي قبل إنسانيته.
إن ارتهان الفكر العربي لسطوة التمويل الإعلامي والخطاب الديني المتشدد لا يهدد السلم الأهلي فحسب، بل يفرغ مفهوم “المثقف” من محتواه. إذا لم يستطع المثقف إدانة ذبح مصلٍ في محرابه دون “لكن” التبريرية، فإنه يعلن بذلك وفاته السريرية، تاركاً المجتمع نهباً لظلام الكراهية التي لا تبقي ولا تذر.
