الحياة رغبة || بقلم : نورا سبرا

خاص | مدار 24

ليس من قبيل الرفاهية الفكرية أن نتساءل: ماذا لو تجرد الإنسان من الرغبة؟ إننا هنا لا نبحث في “شهوة” عابرة، بل نطارد سؤالاً غائياً يمس جوهر الكائن البشري. حين أعلن الفيلسوف باروخ سبينوزا أن “الرغبة هي ماهية الإنسان”، لم يكن يضع تعريفاً معجمياً، بل كان يمنح الحياة معناها الوحيد: الفعل بوصفه تجسيداً للذات، لا وسيلة لغاية خارجية.

 

في هذا الفضاء الفلسفي، يلتقي سبينوزا مع جيل دولوز، الذي يرى الرغبة لا كـ “نقص” يحتاج إلى ترميم أو “حاجة” تطلب الإشباع، بل كقوة دافعة ومحرك أصيل للفعل الإنساني. إنها طاقة لا تبحث عن لذة لاحقة لتبرر وجودها، بل هي الوجود في أسمى تجلياته الحركية.

 

▪️سيزيف والرقابة المقدسة

 

ربما كانت الرغبة هي “اللعنة” الحقيقية التي صبّتها الآلهة على سيزيف؛ صراع الإنسان الأول لم يكن مع الصخرة، بل مع رغباته المتأججة. ومن رحم هذا الصراع ولدت الأديان كآليات تنظيمية كبرى، تهدف إلى ترويض “إنسانية الإنسان” وحكم التجمعات البشرية التي يحركها الخوف والشهوة.

 

في هذا السياق، لم يكن “الشيطان” سوى التجسيد الرمزي لرغبتنا الجامحة في التملك والسلطة. لقد قُدم “الزهد” كطريق وحيد للخلاص ومفتاح للجنة، لكن التدقيق في هذا المفهوم يكشف عن مفارقة حادة: الزهد ليس إلا انقلاباً على الماهية. إننا لا نحتاج إلى وأد الرغبة، بل إلى إعادة تنظيم علاقتنا مع حقيقتنا الوجودية.

 

▪️الرأسمالية: استثمار في الروح

 

إذا كانت المؤسسات القديمة قد حاولت قمع الرغبة، فإن الرأسمالية الحديثة كانت أكثر دهاءً؛ لقد فهمت أن الرغبة هي “المادة الخام” الأكثر ربحية في التاريخ. لم تكتفِ الرأسمالية بتحرير الرغبة، بل جعلتها محرّكاً لنمو لا يتوقف، عبر خلق سلسلة لا متناهية من الرغبات المصطنعة التي يعجز الإنسان عن إدراكها أو السيطرة عليها.

 

من الكهنوت التاريخي إلى المجمعات الصناعية العسكرية، وصولاً إلى عمالقة الاقتصاد الرقمي اليوم، ظلت الرغبة هي المنجم الذي تُستخلص منه الثروات. إن الاستثمار اليوم ليس في السلع، بل في “إنسانية الإنسان” ذاتها، عبر التلاعب بما يشتهيه.

 

▪️المخرج الجمالي

 

كيف نخرج من هذا المأزق الذي يحولنا إلى مجرد مستهلكين لرغباتنا؟

إن الخلاص يكمن في الوعي بالذات، وفي تحويل هذه الطاقة الخام إلى مسارات جمالية تعبر عن كينونتنا الحقيقية بعيداً عن آليات التشويه والسلعنة. وكما يقترح هيربرت ماركوز، علينا أن نسكب إنسانيتنا في قوالب أدبية وفنية. إن تحويل الرغبة من “استهلاك” إلى “إبداع” هو السبيل الوحيد لاستعادة ذواتنا من براثن المؤسسات التي تريد تسليع أرواحنا.

 

هل تعتقد أن وعينا برغباتنا يكفي لتحريرنا من ضغوط الاستهلاك الحديث، أم أننا بحاجة إلى ثورة هيكلية في طريقة عيشنا؟

مقالات قد تعجبك
اترك تعليق

لن يتم نشر أو تقاسم بريدك الإلكتروني.