مسرحية (سيرك) للدكتور (جواد الأسدي) هي في حقيقتها سيرة ذاتية للعديد من الحيوات، حياةٌ عراقية ، وأخرى عربية ، وثالثةٌ عالمية وهكذا، هي سيرةُ حياتنا جميعاً كما أرادها المؤلف المخرج ، ولنا الحقُ في أسقاطها كما نريدُ ونرغب ، بناءً على أنتماءاتنا وتجربتنا وثقافتنا ومعرفتنا ، ولأننا هنا ، وقريبين جداً من ذلك (السيرك) وجدناه عراقياً ، وربما يأتي أحدٌ من خارج محيطنا ويجدهُ سيركاً غير ذلك ، وهنا تكمنُ قوة ُهذا الخطاب ، مسرحية (سيرك) هي بوحٌ داخليٌّ أداته الصراخُ الموجع، موجع من حيثُ الشكلُ والمضمون . كيف لا ، وأنت َ أمام ثلاث شخصياتٍ (كميلة ـ شذى سالم ـ و ريمون ـ علاء قحطان ـ و لبيد ـ أحمد شرجي ـ ) أقواهم ضعيف ، الجميع مهزوم ، مخترقٌ من الداخل، لا حول له ولاقوة ، الأمرُ الذي دعا بطلةَ العرضِ (كميلة) في الختام لتقول (يا الله) أي لا سبيل إلا الله.
لقد صاغَ المؤلفُ المخرجُ نصهَ من عمقِ المعاناة الإنسانية التي تختلفُ من مكان لآخر ، إلا أنها تشترك في عذاباتِ النفسِ البشريةِ من خلال نقص الأمن والأمان ، الأمان المعرفي ، الاقتصادي ، السياسي ، وحتى الأمان العاطفي ، لذا وجدنا الشخصيات الثلاث خائفةً من ذاتها قبل خوفها من الآخر ، فالجميعُ يَطمحُ دون أن يُـقـْـدِم ، الأمر الذي دعى (كميلة) في جوابها لـ الروائي (لبيد) عندما رآها أول مرةٍ في المعرض وتردد في مفاتحتها ، فقالت له ( ليتك فعلت ذلك)، الأمر الذي يؤكد حقيقةَ خوفهم من كل شيء ، فضلاً عن جواب (لبيد) وهو يقول (أنا خائفٌ من كل شيء).
بنى المؤلف المخرج معمار بيئتهِ بشكلٍ عائم ، ليس له جذور حقيقية ، فهي بيئةٌ عائمةٌ كما الشخصيات ، حديقة وليست بحديقة ، فهي اليباس ، مجموعةٌ من الأشجارِ اليابسةِ المنخورةِ الثابتةِ التي لا تتحرك، و سيرك ، ولا يوجد فيه مايدل على السيرك ، فهو مليئ بالأشباح ، وصوت الكلب (دودن) الذي تسيَّد على معظم العلاقات الدائرة ، ولاسيما العلاقة المتشنجة بين الزوجين (كميلة وريمون ) من جهة ، وبين (ريمون والضابط، أي السلطة ) من جهة أخرى ، هذا الكلب الذي بوجودهِ وحياتهِ ، كانت هناك حياة للسيرك ونجاحٌ له ، وبعد مقتله أنتهى السيرك وتبعثر الجميع ، دلالةٌ واضحةٌ لتسيَّد الروح الحيوانية الشريرية لقيادة السيرك والعالم على حدٍ سواء. وطاولةٌ تتوسط الفناء تتحرك حيث يشاء القدر بتحريكها ، وجدرانٌ ثابتةٌ مبعثرةُ التنظيم ، لكنها جدران.
هذه البيئةُ أعطت المجالَ للشخصياتِ بالتنقلِ من حالةٍ إلى أخرى ، و من مكانٍ لآخر ، دون الأكتراثِ إلى العواملِ المنطقية التي يتطلبَها الزمان والمكان ، لأنها ( أي الشخصيات) تتنقلُ روحاً ووجداناً وفكراً ، ولا تتنقل مادياً وفيزيائياً ، الأمر الذي أعطاها مساحةً واسعةً في الولوجِ والتعبيرِ عن الحالةِ الداخليةِ للنفس البشرية وما ينتابها من مشاعرَ وأحاسيس ، وهي بذلك فتحت المجالَ ووسعت فضاءَ الخطاب ، لقد خلقَ المؤلفُ المخرجُ كوناً خاصاً به ، ودار بالشخصيات كما تشتهي تلك الشخصيات لا كما يشتهي هو ، ذلك أنَّ الشخصيات والمؤلف ينزفون من جرح واحد.
ثلاثُ شخصياتٍ لاتقلُ الواحدةُ عن الأخرى في المعاناةِ ، الأولى شخصية ( ريمون) هذا الخليط الإنساني ، الذي لايعرفُ مايريد ، فهو من جهةٍ حريصٌ على (السيرك) ونجاحه، ومن جهة أخرى سعى إلى مقتل الكلب (دودن) الذي كان سببَ نجاحِ وتألقِ السيرك ، وبالمناسبة (السيرك) هنا عند المؤلف هو دلالةُ بيئيةٍ مكانية ، وليس سيركاً مادياً حقيقياً ، وهذا الأمر فسح المجال لتأويل المخرج وسحب السيرك إلى عوالم بعيدة ، لذا كان من البديهي بمكان أنْ يأخذَ الكلب (دودن ) دوراً ورمزاً كبيراً هيأ المجالَ أمام (ريمون) للتعاملِ والأسقاطِ والتأويل ، فكان نجاحُ السيركِ مقروناً بما فعله و يفعله الكلب (دودن) ، الأمر الذي جعل (ريمون) يمتعض كثيراً من الكلب (دودن)، ويرى ما فعله مع (الضابط) يوجبُ معاقبَتَهُ وطرده ، ولكنه لا يقوى على ذلك، هذه المعادلة في العلاقات لا يمكن أن تكون إلا من خلال هذا البناء المعماري للسيرك المفترض الذي أوجده المؤلف المخرج ، ليغوص بعوالم إفتراضية متخيلة ، ويسقط عليها واقعاً مفترضاً يختلف من واحدٍ لآخر ، لكنه بذات الوقت يسمح للعديد من القراءات.
تمَّ بناءُ النصِ على ثلاثِ جملٍ مفصلية ، توزعت على الشخصيات الثلاث ، وكأنهم لسانٌ واحد ، أولى تلك الجمل ما قاله ( ريمون ) : ـ (أنا أشعر بالعار من وجودي بهذه المدينة) ، وهذا تصريحٌ واضحٌ ، واعترافٌ صارخٌ بعجز (ريمون) عن تغيير الوضع الذي هو فيه ، رغم شعورهِ بالعار لأنتماءه وبقاءه في المدينة التي ينتمي إليها ، وهذا الشعور يثـَّبِتُ عليه العديد من الصفات غير الحميدة ، فهو لا يرضى بنظرة الضابط إلى زوجته (كميلة) ولكنه لا حول له ولا قوة ، لا سيما بعد أن دعاها لمقابلته وحجزها، وهو لا يرضى بقدوم الضابطِ إلى السيرك في الوقت الذي يشاء ، وهو الذي يعلم تماماَ بأنهم هم من قتلوا شقيقه الشاب ، ولكنه مستسلم ، جميع هذه الأمور تجعله يشعر بالعار من وجوده في هذه المدينة.
والجملةُ الثانية جاءت على لسان (كميلة) وهي تقول : ـ (لماذا تركت الحصانَ وحيداً ) ، وهي بلاشك قصيدةُ الشاعر الفلسطيني (محمود درويش) استعارها المؤلف لما لها من دلالةِ الوحدةِ والغربةِ وضياعِ الأشياء ، تلك الوحدةُ القاتلة ، والوحدةُ هنا ليس بعدم وجود الأشخاص ، إنما الوحدةُ الفكريةُ والوجدانيةُ دون وجود الآخر المنتمي إليه ، لذا وجد المؤلف من هذه الجملة الركيزة الأساس لشخصية (كميلة) فرغم وجود زوجها (ريمون) ، ورغم نجاحها في السيرك ، إلا أنها تشعر بتلك الغربةِ والوحدةِ ، لعدم التوافق الفكري ، والعاطفي ، وحتى الاقتصادي لما تستحق وترغب.
أما الجملة الثالثة فهي جاءت على لسان شخصية (لبيد) وهو يقول : ـ ( ماتت ذكوريتي)، وهنا الذكورية ليس بمعناها ( الفيسيولوجي) ، وإنما بمعناها الفكري والوجداني والرجولي ، فهو فـَقـَدَ ذكوريته عندما بدأ يخاف من كل شيء ، وفـَقـَدَها عندما لم يستطع الكتابة ، وفـَقـَدَها عندما لم يبادر بالحديث مع (كميلة) في المعرض ، وفـَقـَدَها عندما تحول المسرح إلى حظيرةٍ للحيوانات ومكَّبِ نفايات ـ وهنا بلا شك أشارةٌ من المؤلفِ إلى مسرح بغداد الذي تحول إلى ذلك ـ ، كلُّ هذا الفـَقـْد أجبره على الأعلان، بأنه فقد ذكوريته التي تحول بينه وبين حبيبته التي ينتظر.
هذه الجمل الثلاث كانت بمثابة الأعمدة التي بـُـنيَ عليها النص ، وتفرعت بعد ذلك العديد من الصراعات الجانبية للشخصيات الثلاثة مع ذواتها أولاً ، ومع الشخصيات الدائرة ثانياً ، ومع البيئةِ والمدينةِ ثالثاً.
تأصلت الشخصيات الثلاثة في جذرٍ واحد ، وهو جذر البحث عن الاطمئنان والسعادة ، والتي لم تأتي إلا بعد فوات الأوان ، كما يذكر (لبيد) : ـ فات الوقت.
بهذا النص أثبت المؤلف المخرج قيمةَ أنًّ الفنانُ ابنُ بيئته ، ذلك أنَّ كلَّ ما جاء في هذا النص هو تعبيرٌ واضحٌ وجلي لما يمرَّ به المواطن العراقي تحديداً ، من معاناةٍ فكرية ، ووجدانية ، واقتصادية ، وعاطفية ، وحتى اجتماعية ، ودليلنا في ذلك الخطاب الأخير الذي جاء على لسان شخصية (كميلة).
عمد المؤلف المخرج إلى اعتمادِ بيئةٍ حميميةٍ تجعل الخطاب أكثر عمقاً وتأثيراً ، لذا وجد من المناسب أن يغادر مسرح العلبة ، ويختار قاعة منتدى المسرح ، ذلك البيت العتيق ، ليكون مسرحاً لخطابه ، وقد نجح كثيراً في ذلك ، إذ جعل الممثلين قريبين جداً من الجمهور ، ليكونَ عاملُ التأثيرِ أكبر وأشد ، ولا سيما وهم يبوحون بأسرارهم ومشاعرهم وأحساسيسهم ، الأمر الذي ساعد الممثلين والجمهور على حدٍ سواء.
ومما لاشك فيه فأنَّ متطلبات هذا النص ـ وهو في معظمه بوح داخلي ـ كان بحاجة إلى وسائل تقنية مضافة تساعد الشخصيات الثلاثة في أداء أدوارهم ، لذا عمد المؤلف المخرج إلى إشراكِ مجموعةٍ من الشبابِ لتقديمِ مجموعةٍ من الشخصياتِ الغرائبية تدخل وتعبر عن المكنوناتِ الداخليةِ للشخصياتِ بين المشاهد ، وقد نجح المؤلف المخرج في هذه المعالجة ، ولا سيما في مشهد دخول (كميلة) وخلفها الشباب وهم يحملون المظلات ، وكذلك مشهد الإغتصاب عندما يعتلون الطاولة ويبدأون بالهرولة ، فقد كان مشهداً مختزلاً ومعبراً بما يكفي ، فضلاً عن مشهد خروجهم وهم نصف عراة خلف (ريمون) وهم يعوون كالكلاب ، ويحاولون عض (ريمون) ، ثم يقمون بمهمة أخرى وهي تعديل وترتيب الطاولة بشكل يهيأ للدخول للمشهد التالي ، ويبدو أنَّ وجود هذه المجموعة من الشباب في عروض (جواد الأسدي) أصبح سمة من سمات أسلوبه الإخراجي.
آمن المؤلف المخرج بسلطة الممثل في المسرح ، فعمد بداية إلى إيجاد مساحة كبيرة من اللغة تؤمن تلك السلطة ، لذا فأعتنى كثيراً بأداء الممثل وجعله جزءاً لا يتجزأ من دوره الإخراجي ، فذهب إلى مسألة الأداء المنضبط المحسوب بدقة ، فلم يكن هناك في الأداء التمثيلي أية حركة فائضة ، لذا وجدنا ، ومن اللحظة الأولى التي بدأ بها العرض عندما يقول (ريمون) :ـ (هلوووو هلوووووكميلة هل تسمعيني ) ، وإلى نهاية العرض عندما تقول (كميلة ) : ـ (يا الله) ، ضبطباً أدائياً مكتملاً ، فضلاً عن الأزياء والأكسسوار ، فلقد بدأت (كميلة) بشالها الأحمر ، وأنتهت باللون نفسه ، مثلما بدأت بالتيه أنتهت بالتيه ، إذ البداية نهاية والنهاية بداية ، والأنتظار واحد ، والخلاص مجهول ، إلا ما رحٍم ربي ، كما جاء في نهاية المسرحية ، لقد عرض المشكل ولم يقدم الحل ، إذ لا حل في الأفق ، قدم الحديقة لكنها يابسة ، وقدم الشاعر لكنه منخور ، وقدم لاعب السيرك لكنه مختل ، وقدم المرأة فوجدها تبحث عن الخلاص ، لا أحد ناجي في هذا الكوكب ، معادلة التأليف والإخراج ساعدت (الأسدي) كثيراً في أختزال الأشياء ، فالإخراج هنا هو الذي أوجد النص ، أنقلبت المعادلة في هذا العرض ، وصُنّع النص للإخراج وليس العكس ، أراد المؤلف المخرج أنْ يصل إلى الخطاب الكوني الأخير لـ (كميلة) ، فعمد إلى كل المقدمات ليصل إلى تلك النهاية ، ويقوم بوضع (كميلة) على الطاولة مرتدية المعطف الأحمر الذي بدأت به، للدلالة التي سيقت مسبقاً البداية نهاية والنهاية بداية ، وهي تقول : ـ (أغسلو يدي بماء الموتى ..) ثم تستطرد حواراً وجدانياً عميقاً حتى تصل إلى نهايته وتقول: ـ ( مقدسنا العظيم .. يا ربي .. من سيؤرخ للجحيم المسكوت عنه من .. من .. ومن سيكتب روايات العار التي أنتهكتنا ، وعار الفرجة على المجاعة من …من … من سيكتب قصيدة وحشتي ، من سيضمني ويدفئ وحدتي .. ألا من أحد …يالله).
يعي تماما المؤلف المخرج دور الممثل في هكذا عروض ، لذا ذهب إلى أيقونة التمثيل في العراق والوطن العربي الممثلة الكبيرة الدكتورة (شذى سالم ) فكانت على الموعد في الأداء والحضور ، كيف لا ، وهي التي تمتلك كل مقومات الألق والعنفوان ، صوت جميل معبر ، أداء جسدي خارق ، وعي متقدم لكل مفردة من مفردات العرض والحوار ، مرونة بالتعامل مع الشخصيات والأدوات ، وخطاب نهاية المسرحية وحده مونودراما .
أما ألممثل المجتهد الدكتور (أحمد شرجي ) فكان على الموعد من حيث الحضور والأداء ، تمثيل مثقف ، مدرك لمفردات العرض ، علاقة حميمة مع التلقي ، رشاقة في الأداء.
والممثل الثالث والمنتصر على ذاته في هذا الأداء ، الدكتور (علاء قحطان) ، لقد تفوقت على نفسك ، قدمت أداءاً ولا أروع ، كنت مرناً ، رشيقاً ، لاعباً ، تنوع أداءك بمختلف الأحاسيس والمشاعر ، كنت ضابطاً لإيقاع المشاهد .
ولا شك مباركة للشباب الذين قاموا بأداء بعض الشخصيات .
أما المؤثرات الموسيقية للفنان (رياض كاظم) ، فقد كانت عاملاً أيجابياً طيلة لحظات العرض ، وكانت عنصراً جمالياً مضافاً وواضحاً ، وكنت أتمنى أي يكون دورها أكثر مما كانفي العرض.
كانت لمفردات الديكور لــ (محمد النقاش) الأثر البالغ في الدخول إلى عوالم الشخصيات ، وكانت لها دلالاتها الواضحة ، وقد ساعدت كثيراً في البوح عن مكنون الشخصيات وأنزوائها.
والأمر الذي يسعدنا جميعاً هو الحضور المتكرر لمصمم الأزياء (زياد العذاري) هذا الفنان الذي يخطو بخطوات واثقة وجيدة تساعده أولاً ، وتساعدنا في رسم خارطة جديدة في عالم الزي المسرحي.
من الورقة النقدية التي قدمها أ.د مـظـفـر الطـيـَّـب، والتي حلل فيها المسرحية العراقية “سيرك” للمخرج الدكتور جوادالاسدي، وذلك في الندوة النقدية التي اقامها مهرجان بغداد المسرحي الخامس، حيث ادارت الندوة“د.سافرة ناجي” بحضورالمخرج وفريق العمل،وحضور عدد كبير من المسرحيين والاعلامين المتواجدين في المهرجان.