ديريك والكوت|| منتخبات شعرية

ترجمة : غريب اسكندر

ديريك والكوت|| منتخبات شعرية
ترجمة : غريب اسكندر

المتتالية الإسبانية

I

وقعُ حوافر على أرضٍ قشرتُها حمراء.

ثرثرةُ غدير على صخور بيضاء.

ثيرانٌ سوداء تطأُ ظلَ أشجار الفلين،

ريحٌ تهمسُ في سنابل القمح العالية

مثل أمواج صقلية المُتَكَسِّرة

أو صفحات سرفانتس الأولى.

ثمة لقلقان على برج النواقيس بألكالا.

ضجرةٌ معاناةِ الحبِ المضني.

مع ذلك تستبدلُ أسماء وبلداناً، إسبانيا، إيطاليا،

شم يديك اللتين تنضحان بجرائم متخيلة.

يتلوى السرو في صمت،

بينما أشجار البلوط،
تَحِفُّ، من حِيْنٍ لِآخَر، قيثاراتها المورقة.

II

في جملة واحدة، يعبرُ قطارٌ سهلاً تسفعُهُ الشمس.

في بساتين أشجار الفلين تتناغمُ الظلالُ مع منابعها.

لا اسمَ، سوى الأندلس، له معنى

عبر نافذة القطار وخيولها الراكضة.

أصداء اسبانيا وأقواسها، كلمة كامبانا

التي هَرَّبتَها من حقول عباد الشمس بإيطاليا

فهل هناك علامة غُنَّة لآنّا أو آنيا؟

يُنَقِّطُ السَوْسنُ أرضيةَ الميدان الحارة بزخاته العابرة،

فتتأنَّى الظلالُ في مناوراتها مثل مصارعي الثيران، الشرفاتُ المزخرفةُ تصدأ

بينما ينتشرُ، ببطءٍ، ضياءُ الشمس على صحون زيت الزيتون الذي كان يودُّ لو لم تُكسر قشرتُهُ المقدسة.

اسْبيْرانثا، اسبيرانثا المدللة!

رموشُكِ فراشاتٌ سود، مِعصَماكِ النحيفان غصنانِ
فمُكِ الصغير الساخر يجيبُ بخفوت،

وعندما يضحكُ يصبحُ مثل مقطوعة رقيقة من أغاني لوركا، وأسنانُكِ حصى أبيض يلمع في قاع النهر، أسمعُ صهيل خيول قرطبة في هذا الحَرّ،

أسمعُ صناجات عظامي المتخشبة،

وقعقعة الأقدام كمدافع رشاشة.

III

استمر غَثَيانُ الغياب بينما ظل يقرأُ ويكتبُ

عن كيفية فشله مع النساء،

في باحة الفندق الإسباني ذي التعريشات الحديدية

ببلدة مصارعة الثيران، ميريدا،
مدرجُها المهدمُ يدوي بهتافات صامتة

لزَهَو هواجسه، وانتحار غيرته البائسة.

فربما يُحَرّره الزمنُ من عذابه،

الزمنُ الذي ينخرُ الحجرَ ويأكلُ قلبَه.

وأنتَ، أيها القارئ، يا أعز الأصدقاء،

نهرُ زمنكَ يجري بين قصبه وأضوائه

عند انعطاف صفصافة تلتفُ كالضمة.

IV

إذا ما عشتُ في هذه المدينة، فأتمنى أن تكون فيها نافورةٌ
وبرجٌ عليه لقلقان، أسميهما غُرْنُوقين

حيث الجمال بشعره الأسود يمرُّ

وليس بودي النزول في أحد الفنادق الفاخرة؛

فقلبُ اسبانيا هو هذا الميدان، شوارعُهُ الفرعية

تتقاسمُها شمسُ آب وتمددها.

ستُغلقُ حلبةُ مصارعة الثيران إلى أيام الأحاد

وسيسفعُ الحَرُّ مقاعدَ المُتَنَزَّه، بينما تتقافزُ الحمامات

على الحصى بأقدامها الوردية.

سأجلسُ هناك وحيداً،

شاعر عجوز مع أفكار بيضاء، وأنتِ، عاهرتي

ستموتين وسيبقى نصف اسمك فقط

وعندئذ لن يكون بمقدورك التحكم بنَومي،

فكلُّ ما سيبقى هو انبثاقُ النافورات.

اللقالقُ، أو الغَرانِيق، على برج النواقيس.

في ايطاليا

إلى باولا

I

نهارٌ رمادي ومزاجٌ داكن.

ولا تصلحُ السباحةُ في هذا الجو الملبد بالغيوم،  إلا إذا سطعت شمسٌ قويةٌ، قد يحدث ذلك.

نعملٌ كالنمل على بناء المكتبات، وتَخزِين الأوراق وتجميع المخطوطات؛ كتبُنا شواهدُ قبور،

لكنَّ كلَّ قصيدةٍ هي نشيد.

وتلك الحلوة؛ الفتاة الإيطالية الموهوبة

غادرت أوراق القصيدة، غادرت صخور ريميني المبللة
حين يخربشُ النملُ لتهربَ السلطعونات، فتتكاثف شواهدُ القبور.

كانت إحدى الجميلات،
جمالٌ في ضحكتها، وموسيقى في كلامها، ورقيقة جداً في طَبعها!

اختفت كذرة رمل جافة، كظل ريح سريع على شاطئ مشمس،

حيثُ يتوقفُ سَلْطَعُونٌ ثم يُوَاصل؛ كهذه النملة؛ كهذه اليد.

II

لم يبدُ عليه الاهتمامُ لكنَّ موتَها

الذي أصابَهُ بالحكمة أكسبَهُ خبرةً في الألم؛

الآن يمكنكَ أن تسمع أنفاسَهُ

وتلويحتَهُ الصغيرة المرهقة.

ربما كان ذلك بسبب هجرها إياه،

ثمة استيحاءٌ غريبٌ غاضبٌ

أبعدُ من مسألة استسلامه

وتفانٍ أعمقُ مما يتطلبه الأمر،

فالجمالُ لا يتعلق في الهدير الخافت

الذي سيصلُ إلى سجادة غرفة نومها

ولا في كونه مجرد أرمل؛

لقد كانا على وشك الزواج.

الآن، تتمددُ هي في البياض كرخامة شعثاء،

كإلَهَة قديمة اسعدت زيارتُها القصيرةُ الأرض.

III

إلى غيوسيب سيجيليرو

يرمي الصنوبرُ شِباكَه كامناً لسنونوات المساء

عندما تعودُ إلى أغصانه، رحلتُها كانت قصيرةً كرحلة الخفافيش،

ولكي تكون سيراكوزا قريبةً أُضِيئت اليخوت

فسمعنا موسيقى متقطعةً جرفتها إلينا الزوارق.

عند الغسق تهتز الروح في حنينها للوطن

عند تلك الساعة البُرتُقاليَّة التي تظلُها نخلةٌ شائكةٌ كقنفذ بحر استعداداً لسماءٍ بدأت تنبضُ بالنجوم

عندما يمتصُ ببطءٍ المَزْمُورُ الأول لونَ الغيمة الضخمة.

تتدربُ طيورُ السَمامة على الرماية

فيَصِلُ دَوّي إطلاق النار قرطاج والإسكندرية.

المدنُ كلُّها كانت جمراً في إمبراطورية الشمس

والليلُ سيختار في عماه

فتاةً ذات رُؤْيَة كبيرة، سانتا لوشيا،

شفيعة النخيل وأشجار الصنوبر

وأبجديتها سنونوات سيراكيوز.

IV

طرقٌ مسدودةٌ بجدرانٍ ترافقها

دروبٌ ضيقةٌ معبدةٌ بالحصى على امتداد الشوارع،

قرى هضبيةٌ ميادينُها مربعةٌ

كطوابع البريد وبحرُها مُثَبّتٌ بسهمِ

أفقٍ مُرتَعِش، أسماؤها لم تذبل أبداً لقرون

بينما ظلالُها تعمل كساعات الزمن الشمسية.

ضوءٌ معتقٌ كالنبيذ وغيمةٌ نشرا كمفرش المائدة
لتناول الغداء تحت أوراق الشجر.

لقد جئتُ متأخراً إلى إيطاليا، ولكن ربما الآن أفضل

من المجيء شاباً غير قنوع بمسراته الغادرة،

وبينما يتناسقُ شَعْري مع ذرى الأمواج البعيدة

تعددُ نواقيسُ أبراجِ التلالِ العاليةِ أخطائي
فإننا لا نكون تماماً حيث نكون،

إلا أن نكون في مكان آخر، حتى في إيطاليا.

هذه هي حقيقةُ الشيخوخة المُحتملة؛ فقط أحْصِ بركاتِك:

حقولُ عباد الشمس، الضوءُ المُقَطَّعُ على التلال،

ضبابُ البحرِ الادرياتيكي الصامتُ،

وبينما لا يزال اليوم ينبئ عن امكانيات أخرى
ثمة أثرٌ لغيمةٍ تسابقُ المنحدرات.

V

السفوحُ الممتدةُ على طولِ أسوارِ أبراجِ النواقيس،

ذرى أشجار الزيتون، منحدراتُ القمح وسط الحَوَر المُتَلأَلِئ،

مروجُ عباد الشمس ومناديلُ الغَدَاء التي تشبه أرديةَ الباباوات،

طرقٌ بظلالٍ طويلة، خلواتٌ واسعةٌ يحرسُها سروٌ مُتَوَثب،

جدرانٌ صفراء يغطيها الظلُ، ثم قرى بشوارعها القريبة كمكاتب البريد،

سمي تيمناً بقديس ما، يلتفُ الطريقُ وصولاً إلى البحر الضبابي.

كلُّ تلك الموانئ الصغيرة سميت بأسماء قديسين
كي تزيلَ الحزنَ الذي كانته صِقِلِّية،

تزيلَ بَلَاهَة البراءة.

إنه مثل ضوءٍ صِقِلِّي لكنَّهُ ليس الشمسَ وليس ظلي،

مرارةٌ تشبه الفقدان. اشرب منه كي تنسى اسمها

تلك هي النعمةُ التي يجودُ بها النسيان.

VI

نوافذٌ زرقاء، وأغطيةٌ ليمونية اللون.

أعلمُ أنَّ البحرَ يقعُ خلف الجادّة بشرفاتها ودراجاتها الهوائية،

وأنَّ حركة المرور الجامدة تمزجُ أدخنتَها بأبخرة القهوة السريعة،

شراشفٌ مؤقتةٌ، ومنظرٌ مؤقتٌ لفنادق بحرية بنخيلها الشائك،

وبرغم ما تعنيه خطورة الصيف فثمة وداعٌ لا محالة لحمل السلاح:

لجمالِ شَعْرٍ عاصف سيختفي.

لغيابِ مَدارك المتنقل

لحبٍ يتذبذبُ على قطبِ جسدك

لرعدةِ المراكب المنسابة على أسطُح ساحل ليغورين وشواطئه.

الأشياءُ تفقدُ توازنها

وتترنحُ من ضرباتِ الذاكرة الصغيرة.

فتنتظرُ التجليات، تنتظرُ تقافزَ الدلافين،

العندليبَ حين يُطلق حنجرتَهُ المكبلة،

النواقيسَ كي تبرأَ من خطاياك

كأشرعة المراكب المطوية في عودتها إلى الوطن.

VII

عندما تطايرَ شَعْرَكِ الأحمر في بيت ليوباردي،

كان مهذباً، ناراً دونما توهج، ماريا.

تجولنا في غرفه برهبة تليق بمثل هذا الألم

درجاتُهُ ضيقتْ جدرانَهُ، أغنيتُه التي صعدت معنا

كانت عن سيلفيا والعزلة؛

وعندما اجتزنا في الضوء الخافت،

كتباً مُجلَّدة في ملف جنائزي

سمعنا عن الأحلام المشلولة للشاعر العظيم

من دليلنا عن كارافاجيو، ومن ابتسامتها البريئة.

يبدو أنكِ تكرهين الكثرة: منعزلة، بعيدة،

تنتمين إلى التلال الملونة في الربيع عند أقاصي ريكاناتي.

جسدُكِ الرشيق الحِنطِيّ يتغضن

تحت فستانه الزهري، بينما تقول تعابير وجهكِ:

“لما يشعرون بأنَّ الحبَّ أسى كبير؟

ألم تنطلق العصافير في فرح حول هذا البيت،

برغم أنّ الكثيرَ من الحزانى سيحجُّ إليه غداً؟”

ومن ثمَّ نظرتُ من نافذته

فرأيتُ تَجمّعاً في الساحة الصغيرة

لفرسان مصطفين لتوقير رايةَ الشَعْر الأحمر،

مِطْاردُهم مرفوعةٌ، على خمسين فرساً.

VIII

حتى في إيطاليا لم أر شيئاً كهذا أبداً—

ساحاتُ القمح المحصود،

لوحاتُ غلالٍ خضراءُ، ربما مليئة بالذرة،

تلالٌ محروثةٌ في ضوءٍ مُتَموّجٍ

مُرَقّطة بالزيتون والسرو اللذين أحب،

قاعُ نهرٍ ناصعٌ وحقولُ عباد الشمس المدهشةُ دائماً حول أوربينو.

لم أقرأ عن مثل هذا سابقاً—

تلالٌ صغيرةٌ تهبطُ وتصعدُ برقةٍ

وفي الأعلى، أعلى الأسفلت المسرع قالت النافذة:

“لقد رأيتَ أومبريا، وأُعْجِبْتَ بتوسكاني،

وفغرتَ فاكَ عرض الميناء في جنوة،

الآن سأطلعُكَ على سِرٍّ لم يعد خافياً

هل رأيتَ مثل هذه الطبيعة الجميلة

مثل هذه النزهة السعيدة؟ّ”

قلتُ:

“في مونتيري حينما أوقفنا السيارة، أيضاً، كي نرى في الضوء

الأمواجَ المُتكسّرة والعَرْعَرَ والصنوبرَ وسماوات الساحل المُتفتّحة.

فإذا كان المزارعُ يبذرُ الحبوبَ بهذه الطريقة المدهشة،

فسيكون حَصادُهم مضموناً، لقد رأيتُهم بأم عينيَّ”.

IX

على رغم من أنني الآن بعيد عن تلك السيارة الصغيرة،

عن الفندق البسيط، عن جدران الصيف البيضاء،

خشخشةِ عربة الآيس كريم،

طريقِ الدراجات المَسفوع وزجاجة المياه المعدنية،

عن بطاقة بريدية أخرى لشاطئ يطبعُ نفسه على قلبي؛

حتى مع هذا البعد، ستبقى حكة الرمل لأسابيع عدة

وسيبقى التصاق الأدرياتيكي بظهري كاسياً إياه ملحه الأشْيَب،

عن الأمهات الغاضبات والأطفال بملابسهم المطاطية البَرَّاقة

وكراهتي لها لأول وهلة، عن الكراسي المستأجرة،

بينما مئةٌ من المظلات الحديدية المتشابهة

تعكسُ طولَ ساحل الاعياد والفزعَ الدائم للعوائل،

حيث كلُّ ظلٍّ واحةٌ، وفتياتٌ بلون الفانيلا يدعكن كريماً على أفخاذهن

في إعلان إيطالي، سعادةٌ بلاستيكية جلبت رضا واقعياً.

يتكَاسلُ المسنون في الرُّوَاق الهادئ،

كنتُ واحداً منهم.

استقصاء السياح البطيئين المحدودبين كان هوايتي الوحيدة،

بينما أشكو الآن من مثانة غريبة الأطوار وبلغم كريه.

X

يدهشني دورانُ عَبّاد الشمس

في مروجه الخضراء الواسعة أعلى البحر النِيلي

يذهلني صمتُه الذهبي، حتى وهو يهمهم بأغنية عن أزمنة ريكاناتي.

هل يستديرُ كي يواجه الغسق، تماماً كما ينصاع جيشٌ

للأوامر الأخيرة من إمبراطور يغرق،
أم أنّ دواليبه قد توقفت في أخاديد قبالة

النجوم الصغيرة وبريق اليراعات المُتَسَكِّعة،

لتتدلى مثل شُهُب مُنهكة بأصوات مكتومة

إلى الأرض؟ في مكان آخر من حياتنا،

يأتي عبَّادُ الشمس فرادى، لكن في هذه الإقليم الساحلي

حقولٌ بأكملها يمكن أن تكون تحت هيمنته العابِرة

فينتشرُ مثل عباءة أمير من عصر النهضة،

سوف تذبل صواريه، وستملأ دَفّاتُه الذهبيةُ الفراغَ؛

إنّها قصائدٌ ننشدُها لأنفسنا،

استعاراتٌ عن مجدنا الوجيز،

ضوءٌ لا يمكننا اجتنابه

كان يدعى السماء أيام بليك، إلا أنَّه تغير منذ ذلك الحين.

XI

لو كانت هذه الكلماتُ حَصَى ملونة،

في بِرَك ماء صغيرة لعلَّ مالكَ الحزين الأزرق يشربُ منها، فُسيْفِساءَ مُزَجَّجةً ومغطّاة بفقاعات تتلاشى في المسطحات المائية،

أمْوَاجاً تزحفُ براياتها نحو طبول البحر،

لو كانت أكثر من مجرد خطوط سوداء على ورق أبيض،
أكثر من مجرد أصوات تلتقي خلالها عيوننا،

ستكون جميعُها لكِ، لأنَّكِ مَن شَكَّلَ هوى اللحظة

فلكِ تحية يمامة البستان الدائمة، والشبكة المُلقاة

على قاع الخليج الصغير الصخري،

ولك المَحَارة التي تَتَجعّدُ فيها سنبلةٌ

أو جنينٌ يصلي، نبوءةً وأسفاً.

فها هنا في هذه اللحظة المُتَوَهجّة بعد الظهر،

يُسْعِدُ القلبُ المُتعِبُ، ويتغضّنُ البحرُ الحارُ مثل صفيحة،

بينما تطلقُ صخورُ البرك السوداء في المد

وابلَها المعتاد من سمك البُوِريّ إلى أحواض صافية؛

هذا هو دِفءُ المكان السري وسكونُه

حيثما يشكّلُهُ وجهُ فتاة على سطح بِرَكة صخرية.

XII

إلى روبرتا

مراراً وتكراراً سأمجدُ الضوءَ الذي يتجولُ على جدار الترّاكوتا في نابولي، عند الغسق المنفلت الذي تتوهجُ فيه الزوايا كما تتوهجُ الزنابقُ والبرتقالُ في لوحة رسام هاو،

أَمَجدُ البندقيةَ المتوهجةَ بمائها الذي يذوب في القناة الكبيرة عندما يبعثرُ صوتُ إطلاقةٍ كتوم الحمامَ الذي أصبحت أسرابُه كما تقول روبرتا إزعاجاً رسمياً،

وليست ثمة عَرَّافَةٌ أو قاض ينقذها،

وليس ثمة تمثالٌ بذراع مرفوعة،

فهل ستستقرُ أسرابُه مرة أخرى وتعود كاناليتو بهدوء إلى البحيرة المُتَلأَلئة، إلى سانتا ماريا ديلا سالوت،

حيث الغسقُ يموِّجُ الماءَ مع أنغام الأكورديون،
من إله يضرب برمحه الثلاثي؟ أسمع صوتاً يتسع تحت جلجلة الباصات المائية التي تمر على أعمال الدانتيل اليدوية، وبمجرد أن تنعطفي قريباً منه، يصبحُ جوهرةً:

جوهرةً يا عزيزتي.

جمالُكِ المنحوتُ هو مَن يجعل الأسودَ النعسى تصحو والخيولَ البرونزيةَ ترقصُ مرحاً.

أُفُق واحد

ربما يحيَا فقط على أُفُق واحد–

مع طواحين الهواء وأبراج النواقيس والغَرانِيق الفضولية،

مع مُرُوج الحَور الرَجْراج ونِطَاقها الساحر،

ومع تماثيل الفُرُوسِيَّة ونافورات الماء المزركشة،

فعندما تهدأ المدينةُ وتشرعُ حركةُ الأشجار

نرى الريف الجَذِل من القطار مع أكوام التبن

وبحيرات البط والغربان على السور

لحضور جنازة عضو مجلس محلّيّ.

مطرٌ شعائري يهطلُ على المقاهي والأرصفة

فتتفتح المظلاتُ ويكسي ضبابٌ رَقِيقٌ الشوارعَ

حيث تتَأرْجحُ الكاتدرائيةُ في انعكاسه.

كلُّ رذاذةٍ هي تسبيحةٌ صامتةٌ،

والقسُ الملتحي بِجبتهِ المُغَبَّرة

حامي اللاتينية وأرامل السرو

كان شاهداً على أسراب الزَّرازِير التي حفظت

 التاريخ في رماديته الخالدة

والبَوارِج التي تَتَالَتْ على طول القنوات.

هذا هو طقسُ الشعرِ، هذا هو وطنُهُ الحقيقي،

لا حَيثُ يمتدحُ النخيلُ نفسَهُ

وترقصُ الأشرعةُ في بهجةٍ لا معنى لها

وتسابقُ النوارسُ زبدَ الموج.

الإمبراطورية المفقودة 

I

فجْأَةً لم تكن ثمة امبراطوريةٌ.

انتصاراتُها قبضُ ريح، ممالكُها موحلة:

بورما، كندا، مصر، أفريقيا، الهند، السودان.

سال لونُ الخريطةِ على قميص التلميذ

كما يسيلُ الحبرُ الأحمرُ على ورق نشاف،

المعاركُ، والحصاراتُ الطويلة.

المراكبُ والسفنُ الشراعية،

المخافرُ الجبلية، والقواعدُ العسكرية،

الأعلامُ المُنَكَّسةُ في الغسق،

الدروعُ الذهبيةُ التي عاشرت الشمسَ،

الوميضُ الأخيرُ على جُرُف شديد الإنحدار،

السيخُ المعممون ذوو العيون النمرية،

راياتُ الحُكم وأبواقُها الناحبة.

كلُّ هذا أراه يحدثُ مرةً أخرى،

الموكبُ المزركشُ، فريقُ الرماية ومدافعه الجنائزية،

صيحةُ رئيس العرفاء، أثرُ البساطيل،

ثمَّ وابلُ القذائف؛ ليست ثمة ثيمةٌ

أعظمَ من التنازل عن السلطة

أعظمَ من عيون جحافل الاستسلام وراياتهم البيضاء،

من أرديةِ الجنود،

من أسماءٍ كبيرة كالسند وتركستان وكانبور،

من غبارِ الدراويش

ومن وراء ذلك كله الصمت الصحراوي.

II

يعسوبٌ يحطُّ وهناك، على الخريطة،

الأرخبيلُ يبدو كقارة هَوَت فتبعثرت إلى شظايا

من بوينت دو كاب إلى مول أ شيك،

, laurier cannelles bois-canot,

بينما الزَّوْرَقُ الخشبي والغارُ الحار،

وأشجارٌ خضَّتها الريحُ

ترددُ صدى الأمواجِ الأفريقية؛

في الليل، تبتعدُ النجومُ مثل نيران الصيادين

ليست عن المدن المتلألئة:

جنوة، ميلانو، لندن، مدريد، باريس

بل عن مشاعل صيادي السَّلْطَعُون.

فهذا المكانُ الصغيرُ

لا ينتجُ شيئاً سوى الجمال،

حيثُ الأشجارُ التي تطويها الريحُ

والأمواجُ التي تتكسرُ على منحدرات دينيري

والضوءُ البري الذي ينطلقُ

مثل فرسٍ جامحٍ في سهول فيوكسفورت

يجعلنا لا نحفل باستقبال قوارب الأيام العادية

ضوءٌ نتساوى فيه مهما اختلفت أعراقنا أو مواهبنا.

أنا مقتنعٌ مثل كافانا بفدادينه القليلة؛
أما قلبي فيتمزق اشلاء مثل زبد البحر

كي يرى كيف أنَّ جناحيه يتلونان عندما يحَلَّقُ نورس.

شبح الإمبراطورية

I

أسفل الأرصفة الكونرادية للميناء المتصدّأ

بجانب عنب البحر المتشابك التي كست صفائحه الأوساخ،

إلى عاصفة من الشجر المتوهج من الحِصن الإنكَليزي القديم،

إنَّه ينتظرُ الشبح الأبيض لزمنِ ما،

أو يقفُ مستنداً إلى مدخل كشك لبيع شراب الرّام

إلى أن ينسلَ إلى الشوارع كمؤشر كتاب في رواية من القرن التاسع عشر فيفرُّ مذعوراً من الآخرين كسلطعون يتقهقر.

يتجولُ على طول الواجهة البحرية برائحتها القديمة

إلى ظل شرفة متجر في سُوفْرَيه من أجل موقع مميز من مقاعد البلدية في أتون ساحتها البركاني.

لقد أضعتُهُ للتو بمجرد انطلاقه في الاتجاه الآخر
في الحشد المُتَموُّج الذي تقذفُهُ العَبّارةُ إلى كابري الزرقاء،

تماماً كما لو أنَّه فرَّ من خليج كامبيتشي الأزرق ككابري والوردي كجدران قرطاجنة،

صمتُهُ الساكنُ المُحَيِّرُ يصبحُ أكثرَ خيفة

مع كلِّ سؤالٍ صاخب يقذفُهُ به كثيرون

عن الهروب من جريمة القرن الماضي.

II

محاذياً الأسوار النديّة، جاذباً حافة قبعته،

محافظاً على بعده عن الصفحة الصماء،

فليس بإمكانه سماع الإهانات المندفعة نحوه،

مستعداً لرشرشة أجاج البحر. إنَّه صورةٌ

أكثر منه رجلاً، هذا الشكلُ الأبيضُ المحفورُ

دخانٌ ينبعثُ من شمعة أو عود بخور

أو اسلاك بعوض، شهرتُهُ الآن أكبر من امبراطوريته،

من ضميرها الذي يحترق ببطء.

الدخانُ خطيئةُ النار، ولذلك حيثما تجوّلَ

بسُوفْرَيه، بسومطرة، أو أي بِركة مسدودة

بهياكل السفن الغارقة ودخان النفايات

الذي يرتفع كراية، يسافرُ مع خطيئته،

مع مناجمه المنهارة، وثرواته التي نخرتها الرهانات،

فيعبرُ ملعبَ الكريكيت، مجتاحاً بجُذامَته

انطلاق سرب بلشونات ناصعات البياض.

III

أحواضُ السفن مظلمةٌ ومغطاةٌ، والمحلاتُ مقفلةٌ، وأرَقُهُ يحتدمُ مثل القمر فوق سطوح الزنك والنخيل الطويل؛

يُحرضُ نفسَهُ ويلبسُ ببطءٍ في غرفته الصغيرة:

يمشي إلى الشاطئ، التلالُ تحتضنُ الحيتان

وقبالتها تطفو مشاعلُ

صيادي السلطعون وفوانيسُهُم،

واليخوتُ قد لَفّت أشرعتها،

فيمشي كثيراً عندما يعود إليه الإحساس بالذنب؛

غير مبال بشفرة مورس،

فليس بإمكان استقالته أن ترسلَ أساطيلَ القوة

التي يتبددُ صداها الآن مثل زبد على رمل ليلي.

وفي طريقه باتجاه شعاع المنارة الدائرية

يسمعُ حشرجةَ روحِهِ،

ولكنَّ تاريخَهُ تاريخٌ من دون ندم.

يسمعُ تراشق مدافع معركة صورية

من الأمواج المُتكسّرة ويرى جحافلَ

رجال القبائل بريشهم يركضون نحو تلال الرمل

ويسمعُ العبارة القديمة «peccavi لقد أذنبتُ».

فَكّرْ في المعاهدات التي وقعتها يدُ الخاتم الواحد[1]

في اتساع قوتها التي يمكن لها أن تشملَ

«سُبع الكرة الأرضية»، كما تعلمنا في المدرسة.

فَكّرْ في جبالها البحرية وأرصفتها، أبراجها ومنائرها

في القوة التي اختفت كندى على العشب
عندما يبزغُ الفجرُ عن شمسٍ لا تغيبُ أبداً.

IV

أصابعُهُ دبقةٌ بسبب الرًّمّ على الكأس،

إلا أنَّه بإمكانه أن يرى ميداناً مَسفوعاً يتصدرُهُ قديسٌ ما، أن يرى نافورته الجافة حيث السَّحالِي تنطلقُ في العشب ودواخل الكاتدرائية المضاءة بالشموع.

وعند البَار المُشمِس تفتحُ المرأةُ الستائرَ التي تبدو كأجفان لبؤة ضيقة

(الحُزم الصفراء التي تُخفيها المرأة في الداخل هي حُزم عقله)

المقهى هادئ، وآمن من ضجيج الشارع، وما يريده الآن يؤكد عواقب الأحداث الكبرى:

شراعٌ مائِلٌ، مالكُ حزين يختارُ سبيلَهُ بإتقان،

خنفساءٌ تتمددُ على ظهرها، مثل هذه الأمور تقضي ببطء على اهتماماته المكثفة منذ أن أختصر معياره القديم (وكذلك ظروفه) على شُجَيرَة حَبّ الملوك بجانب النافذة

وذيلُ القط يَهِفُّ كيعسوب يرقص.

كسلٌ معنويٌ واسعٌ يتمددُ أمامه
حيثُ حواراتُ المقهى الشائعةُ في الذروة.

الأشياءُ التي يعتزُ بها الآن هي الأشياء التي قَضَّتهُ

فكيف يحتوي الضعفُ على مثل هذه القوة.

الثيابُ التي لبسَها، والأدوارُ التي لبسته.

[1] – إشارة إلى حكاية «يد الخاتم الواحد» في رواية «سيد الخواتم»

ديريك والكوت
(1930-2017)

شاعر وكاتب مسرحي ولد في جزيرة سانت لوشيا. درس في الكلية الجامعية في جزر الهند الغربية ونشر مجموعته الشعرية الأولى قبل سن العشرين ثم نشر العديد من المسرحيات والقصائد وحصل من أجلها على جائزة نوبل عام 1992. فاز كذلك بجائزة من الملكية الملكية للآداب وسام الملكة للشعر. قام بالتدريس في جامعة إسيكس وجامعة بوسطن وجامعة كولومبيا وجامعة ييل. كان عضوا فخريا في الأكاديمية الأمريكية ومعهد الفنون والآداب.

غريب اسكندر 

شاعر ومترجم عراقي مقيم بلندن

مقالات قد تعجبك
اترك تعليق

لن يتم نشر أو تقاسم بريدك الإلكتروني.