“نعم، أنا شاعر رومانسي.. تتحكم بي _القصيدة_ إلى درجة العذاب .. تمزقني .. تفري عروقي .. وأحياناً تتعطف عليَّ ؛ فأحبها في الحالين” .. “لم أسمع بباريس .. لأنني لا أعرف إلا مكاني هنا مكاناً” .. “وأنا ضوء الفانوس / وحارس نصف الليل / وقاع النهر اليابس / وطفل ضيع طعم الثدي / والكأس يغادرها الشارب”.. “أنا لين الاعراك , فجر / ناعم الخطوات ترف / للناس , كل الناس / قلب صادق النبضات عف” .. “اطرقوا ثلاث طرقات على قبري اذا سقط الطاغية حتى اعلم ان ليل العراق قد انتهى.”
من يتحدث هنا هو شاعر عراقي خمسيني حداثوي رومانسي، لخص حياته عبر مسيرة شاقة بثمانية دواوين شعرية، وتفرد بتجربة شعرية اشبك فيها تفاصيل الحياة بينابيع الحلم التي يستبطن فيها صوته الداخلي.
رشدي العامل، المولود في مدينة حديثة بمحافظة الانبار، الذي ينظم اسمه الى شعراء جيله من امثال سعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر ويوسف الصائغ وحسين مردان، كان شاعرا وطنيا لم يجامل النظام العراقي في مختلف مراحله، واخلص في حياته للشعر وللكلمة.
ولد رشدي احمد جواد العامل الجبوري في مدينة عانة غرب الرمادي، عام 1934م لعائلة تنتمي للطائفة العلوية النصيرية، أكمل دراسته الثانوية في مدينة الرمادي، وتخرج في كلية الآداب، بجامعة بغداد عام 1962. وعاش حياة عريضة وطويلة، في 56 عاما عاشها وحيدا ومخلصا حتى وفاته عام 1990م.
بدأ رشدي حياته شيوعيا وقد تعرض لمضايقات كثيرة من قبل السلطات، نفي الى القاهرة في العهد الملكي، وقبل كان والده متورطا شياسيا، حيث اعتقل بتهمة التآمر مع الالمان في حركة رشيد عالي الكيلاني، وبعد قيام انقلاب عام 1958م وسقوط العهد الملكي عاد رشدي العامل إلى العراق، لكنه ايضا قوبل بالطرد والمضايقة، وتم اعتقاله وسجن في اعقاب انقلاب عام 1963م، وسجن مرة اخرى عام 1968م ومنعت اشعاره من التداول.
لم يتحدث احد حول تفاصيل اخرى مهمة عن حياته، وكل ما كتب عنه هو في اطار حياته الفنية ومنجزه الشعري، ما يعكس الاهتمام الكبير بشخصيّته كشاعر مؤثر شغل جيله بأكمله.
صدرت أعماله الشعرية الكاملة بعد وفاته بأشهر في طبعة دار الشؤون الثقافية عام 1991م، في أكثر من 800 صفحة والتي ضمت جميع دواوينه الشعرية بتقديم الكاتب حاتم صگر.
صدر أول ديوان له عام 1951م بعنوان “همسات عشتروت”، ثم “أغان بلا دموع” عام 1956، و “عيون بغداد والمطر” عام 1961، و “للكلمات أبواب وأشرعة” عام 1971، و “انتم أولا” و “هجرة الألوان” عام 1983، و “حديقة لعلي” عام 1986، واخرها ديوان “الطريق الحجري” عام 1988.
• منتخبات شعرية :
1-
من يعرف إنسانا يضحك في غاب الأحزان
يترك في السفح , إذا غادر , حبه
يزرع في الحقل جبيناً
في البستان يواري قلبه
من يعرف إنسانا يعرف دربه
.
2-
حضنتك في القلب نهراً
وفي العين ضوءاً
وفي الحلم قافية في القصيده
.
3-
وأعود وحدي والرمال
على خيامي البيض تسفو
هذا أنا , آنا تكدرني
الحياة وآن تصفو
قلبي على شفتي ,
نقي البوح
.
4-
من أين جئت تزور أطلالي ؟
أتبحث في الرمال
عن كنزنا المخبوء
_ضاع الكنز لا تحزن
وغطى الثلج أهراء الغلال
والبحر يرحل يترك الأصداف فارغة
وأشرعة المراكب
تنأى ؛
وتترك في سكون الليل
أصوات الجنادب
وأظل وحدي أحرس الإعشاب تذبل ؛
والحصى حول الملاعب
مدني مسورة ؛تماثيلي مهشمة
عيوني لاترى غير الظلال
غير الظلال تطوف
هائةً على جدر الخرائب
لم يبق للبحار مرفأ
لم يبق إلا كوخ راهب
خبز وشيء من نبيذ ألامس يرفده
وقبعة وشاره
وربابة في الركن صامتة
وفانوس على الشرفات مطفأ
.
5-
ظمئت كؤوس الخمر وانطفأ الذبال
والليل ممتد الجناح ؛
على الموائد والكواكب للزوال
.
6-
هل اسميك ؟ لا يقدر الاسمُ أنْ
يمحضَ الحبّ ،
لا يعرف الحبُّ سوراً
ولا يملك العاشقون الثمنْ ؛
غير أن الضلوع تراقصُ بين
الولادة والموت ؛
بين القماطِ وبين الكَفّنْ
أيهذا الوطن.
.
7-
قطعنا نهر الأحزان
وقطعنا الأشواك البرية
شتلات الورد وأشجار التين
وجذور النسرين
وعرفنا لون الفجر
وطعم القبلات الليلية
والبوح الناعم،
بين النوم، وبين الآهات السرية
.
8-
هذا أنا ليلٌ بلا أنجمٍ
ولا بريقٍ شيّقٍ، مُغري
وتلك أحلامي بقايا هوًى
مسفوحةٌ، ضائعة السحر
كأسٌ إلى ثغريَ مشدودةٌ
فارغةٌ، ظمأى إلى الخمر
هذا أنا غاب دُجًى مغلقٌ
أشجاره تذوي من القرّ
هذا أنا، قبرٌ بلا مأتمٍ
وميّتٌ من دونما قبر
.
9-
واخطري يا نجمةً حائرةً
ضيّعت في موكب الرقص شهابا
نحن صنوان، رفيقا سفرٍ
زادنا الصمتُ، طعامًا وشرابا
وسميرا غربةٍ تجمعنا
وأنيسا وحشةٍ، مرّا وغابا
نحن جُرحَيْ وترٍ مُستنزفٍ
لم يزل ينبضُ، شوقًا وعذابا
وبقايا وطنٍ مغتربٍ
نتهجّاه، صلاةً وكتابا
.
10-
لا تركع يا ولدي حتى للموت
يقولون بأن العالم يحكمه اثنان
الذهب الأصفر
والسوط الأسود في قبضة سجان
.
11-
كذب يا ولدي
فالعالم ليس السجنَ
وأهداب الدنيا بستان
وزهور الدنيا قمح العالم، حلم الشاعر
كركرة الطفل تغني
صدر الأم يناغي شفتيه
هي البستان
العالم يا ولدي:
الإنسان.
.
12-
ها انا مملكتي الصمتُ وبوابةُ حزني مقفلة
ودروبي أينما يمّمتُ وجهي مستحيلة
في دمي يصرخ ثعبانٌ الى متكأٍ لن أصله
في شفاهي يذبل الوردُ وتبكي السنبلة
فأتركي لي باقة النسيان في سلّة روحي المثقلة
.
13-
حاكموني، قطّعوا لحميَ اوصالاً
رأيت الله في وجهيَ يبكي، فبكيتُ
غير اني كلما غيّبني قبرٌ عميق، وصرختُ
سحبوني دونما ذنبٍ الى محكمة الصبر
وشقوا كفن الأموات عني وبُعثت
ها انا يا سيدي الكاهن، ارجو الصفحَ والغفران
من غير خطيئة
فنهاراتي ضياءٌ، ولياليّ بريئة
اسأل الربَ ولو شبراً من الأرض
يواريني به حيث ولدتُ
.
14-
“مقطع من آخر قصيدة كتبها الشاعر عام 1988م”
رف على بستاننا طائر
افرد جناحيه،
وغنى وطار
فأرتجفت ساقية، وانثنى
غصن وغطى مقلتيه النهار
وساءل الزورق مجذافه
ماذا يقول الطير خلف المدار
قال له النهر:
يقول الحذار
ان جهاما عابرا في المدى
عيونه جمر، وكفاه نار
سيدفن الاطفال في مهدهم
ويحرق الارض قبيل البذار
فناح طفل،
وشكت ربوة
وأن ورد، وبكى الجلنار
ولملمت العابها طفلة
مذعورة،
لاذت بظل الجدار.