يثير الجدل الدائر في مصر حول ما يُسمى بـ “الفن الهابط” نمطًا مقلقًا في التعامل مع التحديات الثقافية. فبدلًا من تبني استراتيجيات شاملة ومتوازنة، يميل الخطاب السائد إلى الانزلاق نحو حلول تبسيطية تختزل المشكلة في ثنائية زائفة : إما انحدار فني يستدعي المزيد من الوعظ الديني، أو مجتمع “مدروش” يفتقر إلى النقد والذائقة المستنيرة. هذا التوجه، كما يحذرنا منه، ينطوي على مخاطر جمة تهدد جوهر الإبداع وحرية التعبير.
إن المقارنة ضرورية هنا. فالمجتمعات الغربية، التي غالبًا ما تُتهم بالتساهل مع أشكال فنية تجارية أو ذات مستوى متدنِ، تمتلك في المقابل منظومة ثقافية راسخة تحتضن الفنون الراقية بكل تجلياتها. حفلات الأوبرا والأوركسترا، المعارض الفنية المرموقة، الأعمال الأدبية المعمقة؛ كل ذلك يشكل رصيدًا ثقافيًا حيويًا يوازن تأثير الأعمال الأقل قيمة ويساهم في صقل الذائقة العامة.
أما في مصر، فيبدو أننا أمام خيارين أحلاهما مرّ : فمن جهة، نعاني من انتشار أعمال فنية سطحية تفتقر إلى العمق والابتكار. ومن جهة أخرى، يُقترح كحلّ لهذا التردي تكثيف الجرعات الدينية في الفضاء العام، وتعزيز نوع من الاتكالية القدرية التي تثبط روح المبادرة والنقد. وهذا المنطق يرى في الفن الهابط تهديدًا أخلاقيًا يستوجب ردًا دينيًا، متجاهلًا الدور الأساسي للفن الرفيع في الارتقاء بالوعي والذائقة.
إن الاعتقاد بأن المزيد من “الدروشة الدينية” هو العلاج لداء الفن الهابط ليس فقط تبسيطًا مخلًا، بل هو أيضًا وصفة لمزيد من الكبت الثقافي وتقلص مساحات الإبداع. الفن، بجميع ألوانه وأطيافه، هو نافذة يطل منها المجتمع على ذاته وعلى العالم، وهو وسيلة أساسية للتعبير عن الهواجس والتطلعات. تضييق هذه النافذة باسم مكافحة الانحدار الفني لن يؤدي إلا إلى مجتمع أكثر انغلاقًا وأقل قدرة على التجديد.
إن الجدل الأخير حول ظهور الفنان محمد رمضان في الولايات المتحدة الأمريكية، وما أثاره من انتقادات واسعة لما اعتُبر عرضًا مبتذلًا، يصب في صميم هذا النقاش. فبدلًا من الاكتفاء بالتعبير عن الغضب والاستياء الأخلاقي، يجب أن يدفعنا هذا الحدث إلى مساءلة أعمق حول آليات مواجهة التردي الفني. هل الحل يكمن في المزيد من الرقابة والوصاية الدينية، أم في بناء منظومة ثقافية قوية قادرة على تقديم بدائل فنية جاذبة ومحترمة؟
إن معالجة أزمة الفن الهابط في مصر تتطلب رؤية استراتيجية بعيدة المدى، تستثمر في التعليم والثقافة والفنون الراقية. إن دعم الفنانين الموهوبين، وتوفير المنصات المناسبة لعرض أعمالهم، وتشجيع النقد الفني البناء، هي الأدوات الحقيقية للارتقاء بالذائقة العامة وتحصين المجتمع ضد الأعمال السطحية. أما الهروب إلى حلول وعظية جاهزة، فلن يؤدي إلا إلى ترسيخ حالة من الجمود الثقافي وتقويض أي فرصة لنهضة فنية حقيقية. إن المعركة ضد الرداءة الفنية لا تُكسب بالوعظ والإرشاد الديني وحده، بل بتقديم فن رفيع قادر على إلهام العقول والارتقاء بالوجدان.