المشاهير المنزليون : لماذا يريد الجميع أن يصبح مشهوراً على إنستغرام؟

متابعة | مدار 24

في مجتمع تضاءلت فيه قنوات التعبير الرسمي والمشاركة الاجتماعية، أصبحت الشبكات الاجتماعية ملاذاً للتعبير عن الذات. عندما لا يستطيع المواطن التأثير في السياسة أو الثقافة أو الاقتصاد، فإنه يعيد إنتاج رغبته في التأثير في شكل الشهرة عبر الإنترنت.

يكفي هذه الأيام أن تدخل إلى إنستغرام لتجد مجموعة واسعة من الأشخاص الذين يشاركون حياتهم اليومية مع جمهور غير مرئي. من تناول الطعام إلى تنويم الأطفال، ومن النكات اليومية إلى تجديد المنزل، كل شيء يتحول إلى مسرح للظهور.

لم تعد ظاهرة “المشاهير المنزليين” مقتصرة على الوجوه المعروفة أو الأفراد ذوي المهارات الخاصة؛ في الواقع، يمكن لأي شخص أن يصبح شخصية عامة باستخدام هاتف ذكي واتصال بالإنترنت. ولكن من أين تأتي هذه الرغبة الواسعة في “الظهور”، وماذا تكشف سوسيولوجيا هذا الشغف عن حالتنا الاجتماعية والنفسية؟

1. تغيير نموذج الشرعية والمكانة الاجتماعية

في المجتمعات التقليدية، كانت المكانة الاجتماعية تُكتسب من خلال النسب العائلي أو الطبقة الاقتصادية أو المكانة الوظيفية. لكن في العصر الرقمي، حلت الخوارزميات محل الهياكل التقليدية. في هذا النظام الجديد، لا تستند الشرعية الاجتماعية إلى “الامتلاك”، بل إلى “الظهور”. فالفرد الذي لديه عدد كبير من المتابعين في الفضاء الافتراضي، حتى لو كان بدون مهارة محددة، غالباً ما يتمتع باحترام وتأثير أكبر من المتخصص الأكاديمي. في الواقع، تحولت رأس المال الاجتماعي إلى رأس مال اهتمام.

2. الشبكات الاجتماعية كـ “آلة لإنتاج الأحلام”

من منظور علم النفس الاجتماعي، تعد الشبكات الاجتماعية مثل إنستغرام نوعاً من أدوات خلق الرغبات. إنها تقدم صورة “معدلة” لحياة الآخرين خالية من القبح والفشل وخيبات الأمل. يؤدي التعرض المتكرر لهذه الصور إلى شعور الناس بالتخلف أو أن حياتهم لا قيمة لها. يتحول هذا الشعور بعدم الكفاية إلى دافع قوي لإعادة بناء الذات في نسخة “مناسبة لإنستغرام”. فالشخص الذي يمزح أمام الكاميرا بهاتفه المحمول في منزله أو يعرض طعامه اليومي، هو في الواقع يعيش جزءاً من حلم الظهور؛ وهو حلم زرعته وسائل الإعلام في أذهاننا منذ الطفولة.

3. غياب المساحات الحقيقية للتعبير عن الذات

في مجتمع تضاءلت فيه قنوات التعبير الرسمي والمشاركة الاجتماعية، أصبحت الشبكات الاجتماعية ملاذاً للتعبير عن الذات. عندما لا يستطيع المواطن التأثير في السياسة أو الثقافة أو الاقتصاد، فإنه يعيد إنتاج رغبته في التأثير في شكل الشهرة عبر الإنترنت. قد يكون هذا النوع من الظهور بديلاً ضعيفاً للمشاركة الحقيقية، ولكن في غيابها، يصبح الخيار الوحيد المتاح.

4. اقتصاد الاهتمام ونظام المكافآت الرقمية

إنستغرام ليس مجرد مساحة للتعبير عن الذات، بل لديه نظام مكافآت دقيق للغاية: الإعجابات والتعليقات والمتابعون والدخل. يمكن أن يتحول الظهور بسرعة إلى دخل، خاصة في اقتصاد الأزمات حيث فرص العمل الحقيقية قليلة. لذا، فإن الشهرة عبر الإنترنت ليست مجرد جانب نفسي، بل هي بالنسبة للكثيرين مسألة معيشية أيضاً. بيع الإعلانات، والتعاون مع العلامات التجارية، أو حتى إطلاق صفحات مدفوعة، كلها طرق تؤدي من “المتابعين” إلى الدخل.

5. سيكولوجيا الرغبة في الظهور

في علم النفس التحليلي، يعد الظهور من أهم احتياجات الإنسان. يحتاج الطفل، لينمو بصحة جيدة، إلى أن “يُرى”. في مجتمع تم فيه تجاهل العديد من البشر أو إهمالهم عاطفياً خلال فترة النمو، توفر الشبكات الاجتماعية فرصة متأخرة ولكن جذابة للغاية لـ “التأكيد”. تتجاوز هذه الرغبة في التأكيد في كثير من الحالات الحدود المعقولة وتتحول إلى نوع من الإدمان السلوكي: يسعى الفرد باستمرار لجذب الانتباه، حتى لو كان ذلك بمحتوى مثير للجدل أو مبالغ فيه أو حتى غير أخلاقي.

6. التهديدات والتناقضات

بالإضافة إلى الفرص التي يوفرها الشهرة المنزلية، هناك عواقب وخيمة وخطيرة أحياناً:

الضغط النفسي المزمن: السعي الدؤوب لإنتاج المحتوى، والخوف من النسيان، والاعتماد على موافقة الآخرين.

غياب الحدود بين الخصوصية والعامة: تحويل الحياة الشخصية إلى سلعة عامة.

تسطيح معايير القيمة: استبدال المعرفة بالجاذبية الظاهرية، والأخلاق بالظهور.

انخفاض المشاركة الاجتماعية الحقيقية: الانغماس في الحياة عبر الإنترنت، والابتعاد عن التغيير الحقيقي في المجتمع.

7. خاتمة : مجتمع يبحث عن المعنى

لا يمكن تفسير ظاهرة المشاهير المنزليين بمجرد انتقاد الأفراد. إن هذا الشغف الواسع بالظهور يعكس هياكل حرمت البشر من المشاركة الحقيقية والتأثير الاجتماعي والرضا الداخلي. في مجتمع يندر فيه الأمل والمعنى، قد تكون الرغبة في الظهور هي السبيل الوحيد للشعور بـ “الوجود”.

المشكلة الرئيسية ليست إنستغرام ولا أولئك الذين ينتجون المحتوى فيه؛ بل هي العالم الحقيقي الذي لم يعد يمنح البشر فرصة للظهور والنمو والاستماع. ربما إذا توفرت مساحات حقيقية لتحقيق الأحلام، فلن تكون هناك حاجة لخلق أحلام رقمية.

مقالات قد تعجبك
اترك تعليق

لن يتم نشر أو تقاسم بريدك الإلكتروني.