مجددًا سور الصين الأخضر العظيم || قدرة الصينيين في تحويل الصحراء إلى جنات خضراء

متابعة : محمد الحسين | مدار 24

يُعاد المجد للصينيين في سور عظيم من جديد وذلك على أطراف صحراء “تاكلامكان” الواقعة في منطقة “شينجيانغ” الصينية، حيث يمتد “السور الأخضر العظيم”، والذي يعتبر شاهدا حيا على قدرة الصين في تغيير مصير ما كان يعرف سابقا بـ”بحر الموت”، وليس من أجل مكافحة التصحر فحسب، بل لأجل تقديم نموذج عالمي يفرض التعايش بين حماية البيئة والتنمية الصناعية المستدامة.

ينبغي على الدول الاطلاع على تجارب الصينيين في مكافحة التصحر والتفكير، من خلال الاستفادة من المناطق الصحراوية الشاسعة واستغلالها أفضل استغلال، وخاصة في الدول العربية، في فرصة لتحول التحديات البيئية والمناخية الى فرص اقتصادية.

تُعدّ صحراء “تاكلامكان” ثاني أكبر صحراء رملية متحرّكة في العالم، وكانت تُعرف سابقا بأنها منطقة لا يُرجى النجاة منها. لكن الصين، عبر جهود دؤوبة على مدى عقود، نجحت في تحويل الواقع من “زحف الرمال وتراجع البشر” إلى “امتداد الخُضرة وتراجع الرمال”.

يكمن سر نجاح الصين في بناء منظومة متكاملة لمكافحة التصحر، تقوم على إشراك المجتمع بأكمله. ففي منطقة “خوتان” مثلا، تم تخصيص الأراضي الصحراوية المملوكة للدولة للقرى الجماعية، وتوزيعها على الأسر بواقع 30 إلى 50 (أي نحو 2 إلى 3 هكتارات) للأسرة الواحدة، مع احتفاظها بكامل العائدات. هذا النموذج شجّع أكثر من 45 ألف شخص على المشاركة طواعية في جهود مكافحة التصحر.

يأتي ذلك بدلا من استغلال الاراضي الفارغة الشاسعة للدولة واعطائها للمستثمرين في مجال إنشاء مشاريع غير ربحية بيئيا ولا اقتصاديا كما هو معمول به في الدول العربية وخاصة العراق، حيث التخطيط الذي يفتقد للجدوى.

إذ أطلقت الحكومة الصينية “تسعة بنود لمكافحة التصحر”، ورصدت مليار يوان صيني (أي نحو 1.39 مئة مليون دولار أمريكي) سنويا لهذه الجهود، مع توفير الأراضي المناسبة، مما جذب استثمارات من الشركات في مجالات مثل مكافحة التصحر بالطاقة الشمسية وزراعة الأعشاب الطبية، ليُبنى بذلك نظام حوكمة يدمج بين قيادة الدولة، ودعم الشركات والمؤسسات، ومشاركة المزارعين.

وقد قدمت الصين إجابة عملية قائمة على الابتكار في مشكلة المياه والري، ففي محافظة “شايا” عل سبيل المثال، جرى اعتماد نظام ذكي للتحكم في الري بالتنقيط عبر أكثر من 200 نقطة مراقبة، ما ساهم في رفع كفاءة استخدام المياه بنسبة 40%. ومثلا في محافظة “مويو”، فقد تم إنشاء خزانات لضبط الرواسب بسعة 9.75 مليون متر مكعب، إلى جانب نظام ريّ بالتنقيط يعمل بالضغط الذاتي، مما عالج مشكلات الري الربيعي وملوحة التربة.

إذا ما فكرت الدول العربية في تطبيق التجربة الصينية في مكافحة التصحر فإنها ستواجه بلا شك مشكلة المياه، إذ تعاني الكثير من المناطق من قلة موارد المياه، وخطر الجفاف الذي يهدد بعض الدول سيما العراق.

فإن الأمر الأكثر إثارة للإعجاب هو الاستفادة من المياه المالحة الجوفية (بمعدل ملوحة 3 غرامات/لتر)، حيث تُحلّى باستخدام الكهرباء الشمسية وتقنيات الأغشية، لتتحول إلى مياه صالحة للري بتكلفة حوالي 2.1 يوان صيني (أي نحو 0.29 دولار أمريكي) للطن الواحد.

توجد الأرض الشاسعة، وتوجد المياه الجوفية في باطن الأرض، وهناك الشمس، فليس ثمة ما يعيق تنفيذ هذه الابتكارات التي تجسّد “الحكمة الصينية في تحويل التحديات إلى فرص تنموية”، تخدم البيئة والمناخ والمجتمع على حدٍ سواء.

نحن في الدول النامية نتمنى استيراد التجارب الصينية الفنية، بدلا من الاعتماد على تقنيات غربية جامحة، حيث التجربة الصينية في زراعة الصحراء، افضل مثال في ضرورة التحول البيئي والاقتصادي، الذي نتمنى أن يتحقق يوما ما.

فقد تحقّق هذا التوازن في الصين من خلال تحويل القيمة البيئية إلى قيمة اقتصادية حقيقية. فمحافظة “يوتيان” مثلا طورت منظومة زراعية للأعشاب الطبية قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل، وفّرت أكثر من عشرة آلاف فرصة عمل.

أما في محافظة “روتشيانغ” فتم تنفيذ نموذج متكامل لمكافحة التصحر بالطاقة الشمسية، والذي يشمل “توليد الكهرباء بالألواح، وزراعة أبوسينوم فينيتوم تحتها، وتربية الإبل فيما بينها”، وهو مشروع ثبت أكثر من 12 ألف طن من الرمال سنويا، ووفّر فرص عمل لأكثر من 2000 شخص، مما يحقق التزامن بين الترميم البيئي والتنمية الصناعية.

ومع اكتمال الحزام البيئي الذي يمتد على طول 3046 كيلومترا حول صحراء “تاكلامكان”، والذي يصلح أن نطلق عليه “سور الصين الأخضر العظيم” لم تعد تجربة الصين في مكافحة التصحر إنجازا جغرافيا فحسب، بل باتت تعكس تحولا عميقا في مفهوم التنمية.

ولقد أثبتت الصين أن حماية البيئة والتنمية الاقتصادية لا يتعارضان، بل يمكن الجمع بينهما من خلال الابتكار المؤسسي والتكنولوجيا المتقدمة وتحديث الصناعات، إذ أن الخبرة المهنية والروح الابتكارية التي تمتلكها الصين تفتح آفاقا جديدة لنموذج صناعي حديث.

إن التجربة الصينية في تحويل الصحراء إلى بيئة خضراء منتجة تقدم للعالم نموذجا عمليا قابلا للتطبيق، يعيد رسم العلاقة بين الإنسان والطبيعة، ويجعل من حلم “تحويل الصحراء إلى واحة” واقعا يسطع في المزيد من الأراضي الجافة حول العالم.

مقالات قد تعجبك
اترك تعليق

لن يتم نشر أو تقاسم بريدك الإلكتروني.